هولاند في موسكو: لا جدار بعد اليوم

08 ديسمبر 2014
حرّض خطاب بوتين بالقرم هولاند لزيارته (آلان جوكار/فرانس برس)
+ الخط -
شيء ما حمل الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند على الهبوط في مطار فنوكوفو في موسكو، لعقد جلسة عمل، لحوالي الساعتين مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وحملت الزيارة المفاجئة، التي لم تكن مقررة من قبل، دلالات هامة، كونها حصلت بعد خطاب بوتين أمام الجمعية الفيدرالية، الذي لم يترك مجالاً للشكّ في أن موسكو لن تتراجع قيد أنملة عن مواقفها في أوكرانيا، ولن تقنّع، بدبلوماسية كاذبة، خلافاتها مع أوروبا، التي يرى الكرملين أنها تعمل ضد نفسها من خلال تبعيتها للإرادة الأميركية.

لم يرشح عن الزيارة الكثير، سوى إعلان الرئيس الفرنسي أنه أصغى إلى خطاب بوتين، وتعابيره المشبعة بالرمزية التاريخية، مؤكداً أنه سيعمل كي لا يكون هناك جدار بين البلدين، بينما أبدى الرئيس الروسي "ثقته" بأن عقد بناء حاملة المروحيات "ميسترال" سيُنفّذ.

وعدا ذلك، فثمة ما يستشف من سياق الأحداث التي واكبت الزيارة، أو سبقتها بقليل، أهمية تهديدات "الإرهاب"، الذي لم تبخل الصحافة الروسية في العقد الأخير بالحديث عن "سكوت فرنسا عن حلقات تمويله على أراضيها". كما أن العقوبات الاقتصادية التي تستهدف روسيا، وإن كانت تضر باقتصادها وبحياة مواطنيها أكثر مما تضر بالاقتصادات الأوروبية، إلا أنها ليست قليلة التأثير على الناخبين الأوروبيين، خصوصاً وأن مبدأ "التبعية لأميركا" يهيمن على عقول الناخبين.

بدأ الحراك الأخير لهولاند، حين قام بزيارة رسمية إلى كازاخستان، يوم الجمعة، التقى فيها الرئيس نور سلطان نزارباييف، الذي أعلن عقب اللقاء أنه "تمّ التوصل إلى اتفاقات هامة حول دعم فرنسا للتعاون (بين البلدين) في جملة من المسائل الهامة، وتم النظر في إمكانية إجراء حوار بين الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأوراسي الاقتصادي".

ربما، بدأت أوروبا تسعى إلى إيجاد مخرج عبر "الاتحاد الأوراسي"، الذي تُشكّل موسكو أحد أهم أعمدته، للالتفاف على العقوبات التي تستهدف روسيا، والتي تدفع الكرملين إلى اتخاذ المزيد من الإجراءات الجوابية الموجعة للبلدان الأوروبية، كإعلان بوتين التخلي عن مشروع "السيل الجنوبي" وتحويله باتجاه تركيا.

وأشار نازارباييف، إلى أنه تبادل وجهات النظر مع هولاند، حول المدخل لحلّ الأزمة الأوكرانية. وقال "نرغب نحن والرئيس هولاند في أن يتم العثور على نقاط مشتركة لحلّ الأزمة". ولم يخف نازارباييف خشيته "من استهداف موسكو بميدان جديد، يسمح في إطاحة سلطة الكرملين بعد ميدان كييف، لكن الرياح لم تسر بالاتجاه الذي أرادته واشنطن".

وأضاف "لا أريد أن أصبح محامياً عن أحد، بمن في ذلك بوتين، ولكن تحليلي الموضوعي يقول، إن الرغبة في تنظيم ربيع في روسيا بعد أوكرانيا فشلت، وانتهت بربيع القرم، وينبغي عدم التقليل من شأن قوة روسيا، فهذا البلد هو الأكبر مساحة والأغنى".

واضح أن تعبير "ربيع القرم" جاء بالمعنى الروسي الإيجابي، المُحبط للولايات المتحدة وأوروبا. ولم يكن لدى الرئيس الفرنسي ما يخفيه، فخاطب نظيره الكازاخي "نلتقي في وقت يلاحظ فيه التوتر في العلاقات بين روسيا والدول الأوروبية، وأتمنى لو يتمّ حلّ هذا الوضع، وبلدكم يؤدي دوراً هاماً في هذا السياق".

من كازاخستان، قرّر هولاند التعريج على موسكو، قبل العودة إلى باريس. وقبل خلوتهما في مطار فنوكوفو، تبادل مع بوتين بضع كلمات إيجابية أمام وسائل الإعلام، فقال الرئيس الروسي "زيارة العمل القصيرة التي تقومون بها اليوم (السبت الماضي)، ستخدم، من دون شك، في حلّ كثير من المشاكل". وردّ هولاند "سمعت خطابكم (خطاب بوتين أمام الجمعية الفيدرالية)، ويجب أن نعمل بحيث لا تبقى بيننا جدران يمكن أن تفصلنا"، في إشارة إلى جدار برلين.

ولما كانت الخلافات الغرب الأطلسية ـ الروسية لا تقتصر على الملف الأوكراني، إنما تشمل الموقف من ثورات الربيع العربي والثورات الملونة في فضاء الاتحاد السوفييتي السابق، التي ترى موسكو فيها تدبيراً أميركياً للإطاحة بالأنظمة التي لا تعجبها تحت شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، فقد نقلت وكالة "تاس" عن بوتين قوله عقب مباحثاته مع هولاند "تبادلنا المعلومات في شأن أوكرانيا. فرنسا وروسيا مع وقف فوري لسفك الدماء، ومتفقتان في العثور على طرق للتقارب، بما في ذلك استعادة فضاء سياسي موحد".

ولفت بوتين إلى أنه "ناقش مع هولاند مسألة التسوية السياسية في سورية وبرنامج إيران النووي". أما في ما يتعلق بحاملتي المروحيات "ميسترال"، التي أوقفت فرنسا بناءهما، قال بوتين "لم نتحدث حول ميسترال، ولم نلمّح إليها حتى. فنحن نعتبر أن العقد سيُنفّذ، وفي حال لم ينفذ لن نشكو".

وأردف بلهجة ساخرة "إننا، بالطبع، نأمل بأن يعيدوا لنا الأموال التي دفعناها، وسوف نتفهّم أي تطور لاحق للأحداث". وسبق أن نقلت وسائل الإعلام الروسية عن أوساط موسكو، تأكيدها بأن "فرنسا ستكون الخاسر الأكبر من فسخ العقد، لأن الحاملتين مبنيتان وفق متطلبات تكنولوجية روسية خاصة توافق أسلحتها، ولا أحد سوى روسيا يستطيع استغلالهما من دون تعديلات باهظة الثمن".

وكان بوتين واضحاً من أن مسألة "ميسترال"، ليست إلا تفصيلا صغيرا في تعقيدات العلاقة بين البلدين، خصوصاً وأنه لم يخف استخفافه بدول أوروبا من خلال تأكيده في خطابه، أنه "من الأجدى الحديث مع واشنطن وليس مع أتباعها".

فهل نشهد تحولاً في المواقف الأوروبية يبدأ من فرنسا، تحديداً بعد حديث رئيس منظمة "الأمن والتعاون الأوروبي" في بازل بسويسرا عن مداولات أوروبية تقضي بقبول فكرة "الفيدرالية الأوكرانية"، أم نشهد قبولاً فرنسياً بمؤتمر "موسكو 1" المرتقب للتسوية في سورية، بعد فشل "جنيف 2"؟ كله وارد، لكن الأهم بالنسبة إلى موسكو اليوم، هو خلخلة العقوبات الاقتصادية ضدها، وتخفيف وطأتها، في ظلّ التأثير السلبي لانخفاض أسعار النفط على اقتصادها، وقد يكمن المخرج بالنسبة للجميع في تعاون الأوروبيين مع "الاتحاد الأوراسي"، لا مع موسكو مباشرة، حتى إشعار آخر.
المساهمون