لا تزال سريلانكا، بعد مائة يوم على حراكها الشعبي، بعيدة جداً عن الوصفة السحرية التي قد تردّ لهذا البلد سريعاً بعضاً من عافيته، عقب طرد عائلة راجاباكسا من الحكم. ففيما يتجه البرلمان السريلانكي، خلال الأيام المقبلة، لانتخاب رئيس جديد للبلاد، بعدما تمكّن حراك شعبي استثنائي، استمر لأكثر من ثلاثة أشهر، من الإطاحة بالرئيس غوتابايا راجاباكسا، الذي فرّ خارج البلاد، يبدو الالتفاف على المطالب الشعبية في هذا البلد الواقع في جنوب شرقي آسيا، والتي تتلخص في وقف نزيف الانهيار الاقتصادي، وإبعاد كل الرموز التي تسبّبت فيه عن الحكم، وارداً. وبموازاة ذلك، تعيش حركة الكفاح الشعبي، أو الـ"أراغالايا"، كما يسميها المتظاهرون بلغة السنهالا، معضلة الاستمرار، أو تسهيل عملية الانتقال السياسي، لأخذ البلاد سريعاً للتفاوض مع صندوق النقد الدولي.
وفي كل ذلك، تبدو الأزمة السريلانكية التي استفحلت بتضافر أسباب عدة، مشابهة جداً لأزمات نشبت وتنشب في دول أخرى، حيث أدّت حراكات شعبية إلى طرد طغم حاكمة، خرجت من الباب، لتعود من النافذة.
من المرجح انتخاب حليف عائلة راجاباكسا، رانيل ويكريميسنغه، رئيساً للبلاد
وإذ تقف سريلانكا أمام أيام حاسمة، تبدو السيناريوهات مفتوحة على كل الاحتمالات، لا سيما إذا ما تمكّن الحزب الحاكم، بودوجانا بيرامونا، المهيمن على البرلمان (100 نائب من أصل 225) من انتخاب حليف عائلة راجاباكسا النافذة، رئيس الحكومة رانيل ويكريميسنغه، الموصوم بالفساد، رئيساً للبلاد.
سريلانكا: انهيار وإفلاس وحراك شعبي استثنائي
وتمكّن السريلانكيون، بمختلف أعراقهم ومذاهبهم، من التوحد على مدى أشهر، والخروج في تظاهرات يومية، بلغت أوجها قبل أسبوع، مع اقتحام القصر الرئاسي في كولومبو، ومقر رئاسة الحكومة، ما أجبر الرئيس غوتابايا راجاباكسا، الذي تسلّم الحكم في 2019، من الفرار وتقديم استقالته يوم الخميس الماضي، عبر البريد الإلكتروني، إلى البرمان، من سنغافورة التي فرّ إليها عبر المالديف.
ودُفِع السريلانكيون إلى التخلي عن خوفهم، وإطلاق الدعوات إلى التظاهر، عبر حملة عفوية نظّمت بداية عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بعدما استفحلت الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، لدرجة أدّت إلى نقص في الغذاء، وانقطاع طويل للكهرباء، بالإضافة إلى شحّ في الوقود، لا يزال متسمراً.
وجاء الانهيار، باعتراف السلطات، على شكل "إفلاس" للدولة، ونتيجة تراكم سياسات مالية واقتصادية خاطئة، معطوفة على تغوّل في الفساد. وأطلق راجاباكسا، سلسلة أكاذيب، في رسالة الاستقالة، لتبرير الانهيار، فيما يختلف حتى المحللون الاقتصاديون، في إرجاع الأسباب المباشرة التي أوصلت سريلانكا إلى حالة الإفلاس. علماً أن تصنيف سريلانكا الدولي خلال العقد الماضي، والذي كان واعداً، كان يقترب من وضعها في مصاف الدول التي من الممكن أن تشكل "قصة نجاح"، في منطقة آسيوية تعج بالفقراء.
وإذ تأتي أسباب الانهيار تصاعدية، بدءاً من الأعوام الأولى لحكم عائلة راجاباكسا، مع الشقيق الأكبر للرئيس المخلوع، ماهيندا (2005-2014)، حيث جُيّرت الميزانيات لاستثمارات خاطئة، مصحوبة بسياسة اقتراض متوحشة، وإعفاء للأغنياء من الضرائب، تفاقم الوضع مع التفجيرات الإرهابية التي ضربت البلاد في عام 2019، ما ألقى بثقله على قطاع السياحة الأساسي، ثم فيروس كورونا الذي أضرّ بقطاعات واسعة منتجة في سريلانكا، إضافة إلى قضية حظر الكيماويات الزراعية، التي ضربت زراعة الأرز والشاي خصوصاً، وصولاً إلى الحرب الروسية على أوكرانيا، والتي أدّت إلى ارتفاع أسعار المحروقات، وسط غياب التمويل.
وتحت ضغط الصعوبات المعيشية التي جعلت كل 9 من 10 عائلات سريلانكية، تواجه صعوبة في تأمين وجبات الطعام، توحدت الأقليات من التاميل والمسلمين مع الأكثرية السنهالية، في غضبها ضد النظام الحاكم، في ما بدأ بيومين احتجاج في إبريل/نيسان الماضي، أمام مقر الرئاسة في العاصمة، وصولاً إلى ما لم يكن المتظاهرون يتوقعون حصوله، مع استقالة راجاباكسا وفراره.
حراك شعبي في وسط الطريق
ويجد السريلانكيون، اليوم، أنفسهم في وسط الطريق، إذ نصّب البرلمان الأسبوع الماضي، رانيل ويكريميسنغه، رئيساً مؤقتاً للبلاد، بحسب الدستور، الذي يسمح له بشغل هذا المنصب فقط لـ30 يوماً، بعد استقالة أو وفاة أي رئيس. وويكريميسنغه هو رئيس الوزراء الذي كان عيّنه في المنصب، الرئيس المستقيل، في مايو/أيار الماضي، خلفاً لأخيه ماهيندا، في محاولة لتهدئة المتظاهرين.
تبدو الأزمة الاقتصادية أكثر إلحاحاً، وتتجه الآمال إلى عودة المفاوضات مع صندوق النقد
والرجل، بجميع الأشكال، فاقد للمصداقية الشعبية، بعدما شغل منصب رئاسة الحكومة ست مرّات، لم يتمكن من استكمال أي منها، تحت ضغط سوء إدارته للعمل الحكومي، وفضائح الفساد التي صبغت حكوماته. لكن ويكريميسنغه، غير المنتمي للحزب الحاكم، يحظى بثقة عائلة راجاباكسا، التي عمل بقوة على مدار سنوات طويلة على حماية مصالحها. ولهذا السبب، فإن ترشحه للرئاسة، في انتخابات داخل البرلمان ستجري على الأرجح خلال الأسبوع الحالي، يبدو منطقياً، علماً أن الحزب الحاكم أعلن دعمه له، فيما ترشح أيضاً زعيم المعارضة ساجيت بريماداسا، والنائب البارز الذي كان انشق عن الحزب الحاكم، وزير الإعلام السابق، دولاس ألاهابيروما، ما سيشتت أصوات المعارضة.
ويصبّ المتظاهرون، والذين انخفض عددهم، جام غضبهم، اليوم، على خليفة راجاباكسا المحتمل، حيث تحول شعارهم من "اذهب إلى البيت راجاباكسا"، إلى "اذهب إلى البيت رانيل". في المقابل، استعادت السلطات المقار الرسمية التي كان المتظاهرون قد سيطروا عليها، وتعهد الرئيس بالوكالة، بفرض الأمن، وتمّ تكثيف الانتشار الأمني في العاصمة خصوصاً، لاسيما في محيط البرلمان.
ويقف المتظاهرون اليوم، أمام معضلة تصعيد حراكهم، أو تهدئة الأوضاع، والاتجاه إلى نوع من الحلول الوسط، تقضي بالقبول برانيل رئيساً حتى انتهاء ولاية راجاباكسا الأصلية بعد عامين، في انتظار إجراء الانتخابات. وفيما لا يملك الحراك الشعبي، رأساً مدبراً، أو قيادة تتحدث باسمه، تبدو السلطات إلى حدّ الآن، في موقف أقوى، وهو ما قد يقود البلاد إلى نوع من الفوضى، إذا ما تمسّك الحراك بالبقاء في الشارع. في غضون ذلك، تبدو الأزمة الاقتصادية أكثر إلحاحاً، مع صعوبة تأمين الأموال حتى نهاية الشهر الحالي، لشراء المحروقات.
وتتجه جميع الأنظار اليوم في البلاد إلى وصفة قرض صندوق النقد الدولي. وقال الباحث المختص في الشؤون السريلانكية، سانجانا هاتوتويا، لشبكة "سي أن أن"، إن "صندوق النقد (الذي كانت كولومبو تتفاوض معه من دون التوصل إلى اتفاق)، لن يقدم لسريلانكا الدعم المالي من دون الاستقرار السياسي، وليس حين لا تزال البلاد واقفة على حافة سكين". ورأى أن المتظاهرين "حقّقوا الهدف الأول مبكراً، وهو طرد راجاباكسا، لكننا اليوم في مرحلة عدم يقين. ليس هناك حل سهل لاقتصاد منهار. لكن الخطوة الأولى يجب أن تكون حكومة جديدة، وانتخابات مبكرة". وكتب هاتوتويا على "تويتر"، أن المتظاهرين اليوم يسودهم الانقسام، وتعدد القيادات، حيث تبدو القاعدة الناشطة الرئيسية التي تدعو اليوم إلى طرد ويكريميسنغه، غير تلك التي دعت إلى طرد الرئيس السابق.
في الأثناء، تبدو الدولة سائرة على النهج ذاته. مثال بسيط: إعلان السفارة السريلانكية في بكين، أنّ سريلانكا تتفاوض مع الصين على حوالي 4 مليارات دولار من الدعم المالي، منها مليار دولار لدفع مستحقات مالية للصين.
(العربي الجديد، فرانس برس)