فقَدَ يامن قرقوم الأمل نهائياً في عودة بصره عقب ثلاث رحلات علاجية إلى الخارج في السنوات الماضية، بعد أن خسره جراء إصابته في الشهر السادس من الثورة الليبية قبل 10 سنوات، عندما انضم إلى ثوار مدينة يفرن الجبلية، أقصى الغرب الليبي، لمحاولة إسقاط نظام العقيد الراحل معمر القذافي. وفي حين تتجدد الذكريات لديه بشأن ما مرّ به مع حلول الذكرى العاشرة للثورة الليبية التي انطلقت في 17 فبراير/شباط 2011، فإنّ الأمل يحدوه في أن تطوي البلاد أعواما من الدم والبارود.
يقول قرقوم لـ"العربي الجديد" إنه لم يتمكن من مشاهدة فعاليات انتخاب السلطة التنفيذية الجديدة أخيراً عبر التلفزيون، بسبب فقدانه بصره، لكنه كان يتابعها بدقة، باحثاً عن "الجانب المشرق" فيها، بل ويغوص في تحليلها وتفصيلها ليخلص إلى نتيجة مفادها بأنّ البلاد "باتت على عتبة السلام".
أمل وألم قرقوم هو مضمون شهادات الكثير ممن شاركوا في ثورة 17 فبراير التي أطاحت نظاماً ديكتاتورياً حكم البلاد لمدة أربعين عاماً. ففي رأي أنس الجروي، "ستظلّ ثورة فبراير حدثاً استثنائياً عفوياً، انطلق من دون أجندات أو مخططات. أما نتائجها، فيتحملها النظام السابق الذي تعامل معنا بجبروت وتعالٍ، ووصفنا بالجرذان، بل وتوعّد بملاحقتنا زنقة زنقة (زاروب)، وقابل مطالبنا بالسلاح".
الجروي: كان يمكن للنظام السابق منع انزلاق البلاد إلى الفوضى والدماء، وتسليم السلطة
ويقول الجروي، الذي شارك مع شباب منطقته في الزنتان الجبلية غرب البلاد، بمنع كتائب القذافي من اقتحامها، لـ"العربي الجديد"، إنه "كان يمكن للنظام منع انزلاق البلاد إلى الفوضى والدماء، وتسليم السلطة كما حدث في مصر وتونس، وإقفال الباب في وجه التدخل الخارجي، منذ الأيام الأولى للثورة". ويعتبر أنّ "كل ما تعيشه البلاد من جراح وآلام خطط له النظام السابق كثمن لسقوطه".
في المقابل، تبرز شهادات أخرى ناقمة على الثورة والوضع الذي حلّ بعدها. وفي هذا الإطار، تقول انتصار الدينالي، في حديث مع "العربي الجديد": "لقد حملنا شعارات كثيرة على أمل تحقيقها، بما في ذلك إجراء انتخابات ديمقراطية وغيرها، لكن لم نلمسها ولم نلمس أي فعل ديمقراطي". وترى الدينالي أنه "لم يتغير شيء طيلة السنوات العشر الماضية، فمظاهر هدم بيوت المعارضين، وتشريد أسرهم، والسحل والقتل والنهب، كلها ممارسات عادت وبقوة. لا جديد، بل الوضع أسوأ من قبل". وتتحدث الدينالي عن والدها المختطف منذ أربع سنوات من بيته في حي السلماني بمدينة بنغازي. وترى أنّ "الثورة لم تخلّف سوى قوائم طويلة من الجرحى والمعوّقين. كما أنها وضعت البلاد أمام متغيّرات عديدة، ومنعطف تاريخي لا نرى له نهاية". وتلفت إلى أن "الحكومات المتعاقبة تغيّر شكلها؛ تقلّصت وتوسّعت، لكن الوزارة الوحيدة التي كانت حاضرة دوماً، ولم تفرغ من الزوار هي وزارة الشهداء والجرحى والمفقودين"، معتبرةً ذلك "الواقع الصادق الوحيد، الذي تعترف به حكومات ليبيا".
ووسط هذه المواقف المتناقضة تجاه الثورة، لا يهتم حمزة أبو شعالة، بتحليل أسباب ما حدث ونتائجه، بل ما يهمه هو الإقرار بالواقع الحالي، وتقديم الدعم للجهات المهتمة بالدفع بحلول لأزمة البلاد وتعقيداتها، بحسب ما يقول لـ"العربي الجديد". وبعد فترة من النشاط المدني والحقوقي، أسّس أبو شعالة برفقة عدد من الناشطين، جمعية "المنتدى الليبي لحقوق الإنسان" عام 2016، مؤكداً أنّ "أرشيف الجمعية يتوفر على أرقام صادمة". ومنذ تاريخ تأسيس الجمعية، يكافح أبو شعالة من أجل جمع الإحصائيات ومطابقتها مع الواقع، من خلال أرشيف المستشفيات والمراكز الحقوقية، والأرقام التي تعلن عنها منظمات حقوقية. ويوضح أنّ "عدد المفقودين فاق الألف طيلة السنوات العشر الماضية"، شارحاً أن 374 منهم فقدوا خلال اندلاع الثورة عام 2011، و63 آخرين فقدوا في سرت على يد تنظيم "داعش" خلال عام 2015. أما خلال حروب اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، في بنغازي ودرنة، فقد فُقد 632 شخصاً وفق بلاغات رسمية، هذا عدا عن المغيبين في السجون ولا قيود لهم. أما في حرب حفتر الأخيرة على طرابلس، فبلغ عدد المفقودين 330 شخصاً، عثر على رفات 115 منهم داخل المقابر الجماعية التي اكتشفت في الفترة الأخيرة.
الدينالي: الثورة لم تخلف سوى قوائم طويلة من الجرحى والمعوّقين
وفيما تشمل إحصائيات "المنتدى الليبي لحقوق الإنسان" أرقاماً عن المفقودين والمختطفين والمغيبين قسراً، لا تزال هذه الجمعية تعمل على تدقيق أرقام قتلى الحروب والمصابين فيها. كما يهتم فريقها بقضية "العدالة الانتقالية" التي يصرّ أبو شعالة على أنها "إحدى أهم عوامل نجاح المصالحة الوطنية، ووقف ظاهرة الإفلات من العقاب وجبر الضرر".
وبينما شجّعت "مؤسسة الديمقراطية وحقوق الإنسان في ليبيا"، ومقرها واشنطن، مئات الليبيين على رفع قضايا ضد خليفة حفتر، جراء المقابر الجماعية التي تم اكتشافها في المناطق التي كانت تحت سيطرة قواته، ولا سيما في مدينة ترهونة جنوب العاصمة طرابلس، وفق ما يؤكد رئيس المؤسسة عماد الدين المنتصر، في تصريحات صحافية عدة له، يلفت أبو شعالة إلى أحداث وتجاوزات أخرى لا تقل ألماً عن مقابر ترهونة. ومن هذه التجاوزات، بحسب أبو شعالة "مجزرة السبت الأسود في بنغازي في يونيو/حزيران عام 2013، التي راح ضحيتها أربعون مدنياً، فضلاً عن مجزرة قاعدة براك الشاطئ الجوية جنوبي البلاد، التي قتل من جرائها 148 شخصاً بين مدنيين وعسكريين في مايو/أيار 2017. وهناك أيضاً مجزرة غرغور في طرابلس التي وقعت في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2013، وراح ضحيتها 47 مدنياً ومئات الجرحى". ويلفت أبو شعالة إلى أنّ "المسار الحقوقي لا يزال رهين السياسة، فحفتر يستحق العقاب، لكن لماذا لا تزال ملفات المجازر الأخرى مغيّبة؟".
ويعتقد أبو شعالة أنه "بعد عشر سنوات من تراكم الانتهاكات، لا بديل عن العفو العام ضمن مقترح العدالة الانتقالية"، الذي أشار إلى أنه يتم بحثه ومناقشته مع قادة "مجلس أعيان ليبيا للمصالحة"، للمطالبة به ضمن مسارات الحل الجارية حالياً.
الفاخري: البلاد لن تستقر إلا بمصالحة وطنية
وهو ما تتفق بشأنه الناشطة السياسية الليبية، مروة الفاخري، التي تؤكد في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ الفترة المقبلة التي تتركز عليها أنظار الليبيين "لا تزال مهددة ومعرّضة لمضاعفات الحكم الاستبدادي الذي دام 42 عاماً". وتقول "ظاهرياً انتهى الوضع إلى تسوية سياسية، لكنّ البلاد لن تستقر إلا بمصالحة وطنية أساسها التراضي الاجتماعي ومحاولة تخطي الماضي". وعلى الرغم من إقرارها "بوجود جراح وآلام عميقة، خلفتها السنوات العشرة ما بعد الثورة"، إلا أنها تتساءل "كيف يمكن ملاحقة كل هذه الجرائم ومرتكبيها المرتبطين بأطراف خارجية، ولا يزالون في الساحة ويمكنهم تقويض كل شيء، والرجوع بليبيا إلى مربع الخراب مجدداً".
ولا تنصح الفاخري بالتعويل كثيراً على المتابعة القضائية الدولية، موضحةً أنه "على الرغم من بشاعة المقابر الجماعية، لم تجد موسكو غضاضة (عيباً) في معارضة قرار أممي (في نوفمبر الماضي) لوضع مليشيا الكانيات (المتهمة بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان وكانت تسيطر على ترهونة حيث اكتشفت الكثير من المقابر الجماعية) على قائمة العقوبات الدولية. في المقابل أضافتها واشنطن على قوائم عقوباتها، ولكن ماذا يمكن أن يحصل بعد ذلك؟". وتلفت الفاخري إلى العديد من الأمثلة الأخرى، منها "قرار محكمة العدل الدولية عام 2017، بتسليمها قائد الإعدامات، محمود الورفلي (قائد كتيبة الصاعقة ومقرها بنغازي ومتهم بتنفيذ إعدامات ميدانية) الذي لا يزال حبراً على ورق"، على حد وصفها.