تحرير فلسطين كان يعني في الأدبيات الثورية هزيمة المشروع الصهيوني في المنطقة، باعتباره من أدوات الهيمنة الإمبريالية، بل وأكثرها وحشية. أي أن مهمة التحرير تستوجب تراكم ووحدة نضالات شعوب المنطقة في سياق النضال الأممي ضد كل أشكال العبودية والاضطهاد. كيف تحول الأمر إلى مناورات دبلوماسية لإقامة كيان فلسطيني في ظل الاحتلال، للحفاظ على أمنه واستقراره؟ هذا ما تجيب عنه حتما الطبيعة الانعزالية لليمين الفلسطيني الذي هيمن على قيادة منظمة التحرير، بمباركة اليسار الستاليني.
منذ تأسيس منظمة التحرير اعتبر كثير من شهود المرحلة أن هذه الخطوة جاءت لتخليص الأنظمة العربية من مسؤولية استكمال مهمات التحرر والاستقلال عبر اجتثاث المشروع الصهيوني، وتحميل الفلسطينيين وحدهم كامل العبء. هذا التوصيف لا يمكن دحضه في واقع الأمر، لكن كارثة انتزاع القضية الفلسطينية من سياقها التحرري العربي والأممي تبلورت عبر شعار "يا وحدنا"، الذي رفعته القيادة اليمينية تمهيدا للاتفاقيات الاستسلامية، التي فتحت الباب بدورها لإعلان التحالف الاستراتيجي بين بعض الدول النفطية والاحتلال، عبر سباق التطبيع الذي نشهده اليوم.
عودة وتعويض كافة اللاجئين من مدنهم وقراهم وبلداتهم التي تم اقتلاعهم منها، والقضاء على المشروع الصهيوني تماما، هي باختصار ما تعبر عنه مفردة التحرير. أما إقامة كيان مجرد من أبسط مقومات الوجود، أو حتى دويلة شبه مستعمرة، كما تطمح القيادة اليمينية، فهو أمر مختلف تماما. هذا الانحراف الخطير عن الهدف الذي يفترض أن منظمة التحرير تأسست أصلا لتحقيقه يعمد بصراحة إلى اختزال القضية الفلسطينية في لعبة دبلوماسية عبثية لن تقود إلى أي مكان. لكن الأمر لم يبدأ، كما قد يتبادر إلى الذهن، عبر اتفاقية أوسلو، أو حتى مدريد، بل يمتد إلى إعلان برنامج النقاط العشر، أو ما بات يدعى بالحل المرحلي، الذي جعل من وهم الدولة بديلا عن هدف التحرير.
خديعة "المرحلية"
البرنامج، الذي تضمن عبارات قد تجعله يبدو ثوريا للوهلة الأولى، كشف الطموح الحقيقي لقيادة المنظمة، والمتمثل بإقامة سلطة على أية بقعة أرض في فلسطين المحتلة. هذا التراجع كان مفتاح التخلي عن تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، كما كان ينص ميثاق المنظمة، بل وحتى هذا البرنامج نفسه، الذي ورد فيه نصا: "إن أية خطوة تحريرية تتم هي حلقة لمتابعة تحقيق إستراتيجية منظمة التحرير في إقامة الدولة الفلسطينية الديمقراطية المنصوص عليها في قرارات المجالس الوطنية السابقة". وعلاوة على ذلك فقد أكد أن المنظمة "تناضل ضد أي مشروع كيان فلسطيني ثمنه الاعتراف والصلح والحدود الآمنة والتنازل عن الحق الوطني وحرمان شعبنا من حقوقه في العودة وتقرير مصيره فوق ترابه الوطني".
هذه العبارات "الثورية" كان مصيرها التجاهل التام، كما كان متوقعا منذ إعلان الحل المرحلي في العام 1974، أي بعد سبع سنوات من النكسة، فكل ما كان يعني قيادة المنظمة هو ما ورد في النقطة الثانية من تلك النقاط العشر، حول "إقامة سلطة الشعب الوطنية"، التي تحولت في نهاية مسلسل التنازلات إلى سلطة برجوازية مشوهة. حتى مصطلح الكفاح المسلح، الذي ورد في تلك النقاط، تحول على أرض الواقع إلى "التنسيق الأمني".
صحيح أن اليمين الفلسطيني هو من تولى قيادة مسيرة التنازلات منذ إعلان الحل المرحلي حتى اليوم، لكن المفارقة تكمن في أن فكرة "المرحليةّ" بحد ذاتها كانت مقترح اليسار الستاليني في قيادة المنظمة، والتي استلهمها من تصور ستالين نفسه، الذي فرضه بعد استيلائه على الكومنترن، لوأد الثورات التي كان يشهدها العالم آنذك، طمعا في التعايش السلمي مع الإمبريالية، كما أن تسليم دفة القيادة لليمين في مراحل التحرر الوطني هو أيضا من الوصايا الستالينية البائدة. لذا من الطبيعي أن نرى أن أقصى طموح هذا اليسار اليوم هو الحصول على بضعة مقاعد في المجلس التشريعي لسلطة أوسلو التي "يعارضها".
الهرولة إلى السلطة
دولة البيروقراطية الروسية، أو ما يعرف بالاتحاد السوفييتي السابق، والتي كانت أول دولة تعترف بالكيان الصهيوني، أبت أن تنهار قبل وضع بصمتها على مشاريع تصفية القضية الفلسطينية، عبر قيامها إلى جانب الإمبريالية الأميركية برعاية مؤتمر مدريد في العام 1991، والذي جُلبت إليه وفود رسمية من النظام السوري "الممانع"، واللبناني، والأردني، والمصري، الذي كان يطمح في محو وصمة كامب ديفيد، في حين تم استبعاد منظمة التحرير وفقا لشروط الاحتلال، رغم مشاركة وفد زعم أنه يمثل فلسطينيي الأرض المحتلة.
عراب البيريسترويكا، ميخائيل غورباتشوف، تحدث في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر عن تطبيع وجود "إسرائيل"، في حين تحدث جورج بوش الأب عن "سلام شامل"، يفضي إلى ربطها بالمحيط العربي باتفاقيات اقتصادية ودبلوماسية، وبالطبع أمنية. التطبيع بات اليوم المهمة الوجودية للبرجوازية العربية، في حين تمضي مشاريع ربط الاحتلال اقتصاديا بالمحيط العربي على أفضل ما تشتهي واشنطن، أما السلام فهو بالطبع كذبة الإمبرياليتين الأميركية والروسية.
قيادة منظمة التحرير لم تقبل باستثنائها من المشاركة في هذه اللعبة، التي تهدف أولا وأخيرا إلى فرض قبول الاحتلال، خاصة وأنها كانت ترى في الأمر فرصة للتحول إلى "سلطةّ" كما كانت تطمح منذ العام 1974، لذا انخرطت في مفاوضات أحادية سرية مع الاحتلال، قادت إلى توقيع اتفاقية أوسلو في النرويج، التي توجت باتفاق غزة/ أريحا عام 1993 لتتسابق بعض الدول العربية منذ ذلك الوقت إلى خطب ود "تل أبيب" على الملأ.
الثورة المستمرة
عندما كان الشعب الفلسطيني يناضل في الشتات، لم يكن يقدم الشهداء فقط من أجل إقامة سلطة تفتقر لأي شكل من أشكال الاستقلالية، وتسهم في ضمان أمن الاحتلال. وعندما انتفض في الأراضي المحتلة عام 1987 لم يكن يقدم التضحيات من أجل استثمارها سياسيا في مدريد وأوسلو، وانتفاضة العام 2000 لم تكن على الإطلاق دفاعا عن وجود سلطة رام الله التي اعترفت بالاحتلال كدولة حتى قبل تأسيسها في العام 1994. لكن ما حصل أن القيادة الفلسطينية تعاملت مع تضحيات شعبها بمنطق استثماري، طمعا في إقامة أي شكل سلطوي، حتى وإن كان منزوع الدسم.
حتى الفصائل التي آثرت البقاء خارج إطار منظمة التحرير لم تقدم أي بديل حقيقي من شأنه أن يفضي إلى التحرير. فمنها من تحول إلى مجرد أداة بيد إحدى الدكتاتوريات العربية، ومنها من اختفى حتى قبل أن يكتمل تكوينه، ومنها من قادته الارتباطات والحسابات الإقليمية إلى الاكتفاء بردات الفعل، والاستماتة في الحفاظ على وجود سلطوي آخر، مناكف لسلطة رام الله.
بين الاحتلال، وتنافس سلطتي رام الله وغزة على ما يسمى بـ "الشرعية"، والتهافت العربي الرسمي على التطبيع، لاتزال نكبة فلسطين مستمرة.. كل ما تحقق منذ مؤتمر مدريد إلى اليوم هو المزيد من الاستيطان والتهجير، واستمرار الإبادة الجماعية المنظمة، وتكريس وجود الاحتلال كقوة اقتصادية مهيمنة على المنطقة، مقابل هيكل سلطوي غير قادر حتى على إجراء انتخابات ولو شكلية، وألقاب يحملها جلاوزة القيادة، دون أن يكون لها أي وزن يذكر.
في ظل هذا الواقع، فإن اندلاع انتفاضات فلسطينية جديدة هو مسألة وقت ليس أكثر. الهبة التي فجرتها أحداث الشيخ جراح قبل بضعة أشهر لم تكن سوى أول الغيث الذي من شأنه أن يعيد الاعتبار للقضية. ويعيد توجيه البوصلة نحو الهدف الأساسي المتمثل بالعودة والتحرير، بصرف النظر عن أوهام أي شكل سلطوي يسعى إلى تجاهل حقيقة أن القضية الفلسطينية لا يمكن حلها خارج سياق الثورة المستمرة.