بعد شهر على حرب أوكرانيا، وجدت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن نفسها أمام مفارقة مربكة. من جهة، هي مرتاحة لتخبّط بوتين الميداني، حسب تقديراتها، ومن جهة ثانية، تخشى أن يؤدي تفاقم إخفاقه إلى لجوئه لأسلحة الدمار، والتي لا تملك واشنطن ولا حلف شمال الأطلسي "الناتو" وسيلة للردّ عليها إلا إذا ارتضيا المجازفة بمواجهة مدمّرة مع روسيا. فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين "لا يتقبّل الخسارة"، وهو سبق وهدّد، وإن بصورة مبطّنة، بهذه الأسلحة "غير المسبوقة" لو تعرقلت خطته.
ومن هنا، طفرة الحديث أخيراً عن كابوس السلاح النووي والكيميائي والبيولوجي، والذي بات حضوره كاللازمة في التغطية والقراءات الأميركية لحرب أوكرانيا، وتستند المخاوف في هذا الخصوص إلى معلومات وتلميحات رسمية واستخباراتية توالت أخيراً، وتكاد تفيد بأن ضربة من هذا النوع صارت كفّتها راجحة في ضوء تعثر العمليات العسكرية الروسية، ولم تعد مسألة تخمين وتحليل فقط. الرئيس بايدن قبل مغادرته البيت الأبيض الأربعاء، عزز هذا الاعتقاد عندما قال "إن التهديد حقيقي".
تحذير شبيه بإشارته قبل أيام قليلة من الاجتياح، عندما قال إن بوتين قد "اتخذ قراره". أيضاً، صدرت إشارات مشابهة عن مسؤولين معنيين بهذا الموضوع. في جلسة مع لجنة الاستخبارات في مجلس النواب في 8 الحالي، شدد مسؤول استخباراتي كبير "على وجوب أخذ تهديدات بوتين النووية على محمل الجدّ". تلاه في ذات الجلسة مدير الـ"سي آي أيه" وليام بيرنز الذي لفت إلى أن "استخدام السلاح النووي التكتيكي الصغير، خيار يأخذ به المذهب العسكري الروسي كتصعيد، الغرض منه أن يؤدي إلى خفض التصعيد" من خلال الترهيب المؤدي إلى وقف القتال.
بالتوازي مع تسليط الأضواء على هذا الاحتمال، تسهب التقارير والمداولات في الحديث عن تزايد الخسائر الروسية التي تتراوح بين "7 و15 ألف جندي"، كما عن فوضى الأداء و"تصاعد المعارضة" الداخلية وحالة الإحباط في الكرملين، "وانشقاق جنرالات ومستشارين"، إضافة إلى حالة الضيق المتزايد الذي بدأت العقوبات تتسبب بها في الداخل الروسي. كما يجري استحضار مناسبات وخطابات وتصريحات يُستدل منها على مواصفات شخصية بوتين التي يسيطر عليها "الشعور بالعظمة"، وعزم صاحبها على استعادة "مجد روسيا الأم"، واسترجاع نفوذها في جوارها الحيوي بأي ثمن.
هذه السردية زادت من ترجيح احتمال دخول أسلحة الدمار إلى ساحة هذه الحرب. لتدارك وصول النزاع إلى هذه النقطة الخطيرة، بدأت تظهر دعوات لجهات مطلعة على أجواء دوائر القرار، تحذر من "حشر بوتين في الزاوية"، وتدعو إلى التحرك باتجاه العثور على مخرج متوازن "يجمع بين حرمانه من النصر، وبين الحيلولة دون تدهور الأمور نحو حرب أوسع". وهناك جهات محافظة وحريصة على حصر النزاع مع روسيا، تطرح خيار "تقسيم أوكرانيا إلى شقين غربي وشرقي" كحلّ يضمن تقليل الخسائر بالرغم من "أوجاعه".
والمعروف أن الإدارة لم تسقط مثل هذا الخيار، وأعربت مراراً عن "دعمها" للمفاوضات بين موسكو وكييف "والقبول بما يتفق عليه الطرفان". واليوم عاد الرئيس بايدن وكرر هذا الموقف في مؤتمره الصحافي في بروكسل، تاركاً للأوكرانيين قرار التخلي عن أجزاء من أراضي بلادهم "لو ارتأوا ذلك". بذلك، هو يدفع نحو تفضيله لتسوية تعفيه من عواقب استمرار التصعيد الذي قد ينتهي بنووي أو كيميائي يضعه في مأزق لا يملك مفاتيح الخروج السليم منه. تبدّى ذلك في جوابه الضبابي خلال المؤتمر الصحافي، على سؤال حول كيف سيكون تعامله مع موسكو لو استعملت الأسلحة المحظورة، حيث اكتفى بالقول إنه "سيردّ" على مثل هذا العمل، من دون تفصيل. فهو استنفد تقريباً كل أوراق الضغط التي كان آخرها حزمة عقوبات إضافية أعلنها الخميس، بعدما اتهم القوات الروسية بارتكاب "جرائم حرب" في أوكرانيا.
وفي هذا السياق، ثمة من تساءل عما إذا كانت الضجة حول أسلحة الدمار وخطرها المحتمل في هذه الحرب، قادرة على تحريك الصين، ونقلها من الطرف المحايد، وإن المتعاطف ضمناً مع موسكو، إلى طرف وسيط بين واشنطن وموسكو. الاحتمال ضئيل في الوقت الحاضر، لكن بالنهاية هي محكومة بالنهوض بمثل هذا الدور، على الأقل، كي لا تبدو عاجزة أو غير مؤهلة للموقع القيادي الذي تحتله في الهرمية الدولية. وهذا دور تسعى إليه الإدارة، وربما تراهن عليه لاجتناب الأدهى، في لحظة حرجة منقطعة فيها تقريباً حتى الاتصالات الروتينية الرسمية بين واشنطن وموسكو.