مع تواصل الجهود الروسية لجمع وزيري خارجية تركيا مولود جاووش أوغلو والنظام السوري فيصل المقداد، كخطوة إضافية في سياق الانفتاح التركي على النظام، تمهّد لاجتماع على مستوى أعلى بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس النظام السوري بشار الأسد، تبرز مواقف مختلفة من الطرفين المعنيين، تحاول إظهار التمسك بالمواقف الأساسية لكل طرف، مع عدم وضع "شروط مسبقة" قد تحبط هذه الجهود، بناء على طلب كما يبدو من الجانب الروسي بألا تتم عرقلة جهوده لرفع مستوى التواصل بين الجانبين.
وفي إطار هذه "المرونة" التي تبديها تركيا لتسهيل الجهود الروسية، أكد مسؤول أمني تركي وُصف بـ"رفيع المستوى" استعداد بلاده لطرح جميع المواضيع على طاولة الحوار مع النظام السوري، بما في ذلك انسحاب القوات التركية كلياً أو جزئياً من سورية.
وقال المسؤول لموقع "بي بي سي تورك"، إن العمليات العسكرية التي تمت في سورية كانت بالتنسيق مع روسيا، ونقاط المراقبة الموجودة في إدلب، كانت منسجمة مع الاتفاقات التي توصلت إليها أنقرة مع موسكو وطهران، مضيفاً أنه "لا توجد خطوط حمراء وشروط مسبقة مطروحة على الطاولة اليوم، ويمكن التفاوض على أي موضوع، بما في ذلك الانسحاب الكلي أو الجزئي للقوات التركية من سورية".
والواقع أن إعلان تركيا استعدادها لسحب قواتها من الأراضي السورية ليس أمراً جديداً، وسبق أن تحدث عن ذلك العديد من المسؤولين الأتراك، بمن فيهم أردوغان، مؤكدين أن "لا أطماع" لتركيا في الأراضي السورية، بل أن دخولهم إليها كان اضطرارياً، بسبب التهديدات التي تشكّلت على أمنهم القومي في ظل عجز النظام السوري عن النهوض بمسؤولياته لضبط الحدود بين الجانبين، والتي تمتد على مسافة نحو 909 كيلومترات.
شروط الانسحاب التركي من سورية
والجديد اليوم أن مسألة الانسحاب التركي من الأراضي السورية تطرح في ظل حوار معلن بدأ بين الطرفين، ما ينقل القضية من الحديث العمومي والمبدئي عن الاستعداد للانسحاب حالما تتوفر شروطه، إلى بحث خطوات عملية، أو وضع جداول زمنية لتحقيق هذا الانسحاب. وبرأي محللين فإن "شروط الانسحاب" لم تتوفر بعد، وأن الأمر يقع على عاتق النظام السوري لتوفير هذه الشروط.
وحول ذلك، يقول القيادي في المعارضة السورية العميد فاتح حسون لـ"العربي الجديد"، إن تصريحات المسؤول الأمني التركي المذكورة تؤكد أن "الحوار الذي تريده تركيا من نظام الأسد مفتوح وغير مشروط، بما فيه الحوار حول الشروط التي وضعها النظام من أجل موافقته على الحوار نفسه".
ويشير إلى أن "جميع المواضيع المطروحة للحوار كانت قد طُرحت سابقاً بشكل غير مباشر عن طريق دول مثل روسيا، أو بشكل مباشر عن طريق الاتصالات الأمنية".
ويعرب حسون عن اعتقاده بأن نظام الأسد لا يريد حواراً ذا معنى مع الجانب التركي، ولا أي حوار يمكن أن يقود إلى تطبيق القرار 2254، القرار الذي تعلن تركيا أنها تسعى لتطبيقه بحوارها مع نظام الأسد. ويرى أن تركيا "تريد حشر النظام في الزاوية، وإظهاره بأنه غير راغب وكذلك غير قادر على تحقيق طلبات تركيا أولاً، والمضي بإيجابية في العملية السياسية".
ويعتبر حسون أن "ملف التقارب التركي مع نظام الأسد، وإن كان ورقة انتخابية يعمل حزب العدالة والتنمية لأن تكون بيده، لكنها في الوقت نفسه ورقة خطيرة ضد النظام الذي سيظهر عجزه التام عن اتخاذ أي قرار في ظل التحكم الروسي والإيراني به، وتضارب المصالح الدولية على الحدود السورية التركية، وتوجهات دول عربية رافضة لوجود أي مستقبل للنظام في سورية".
مسؤول أمني تركي: موضوع الانسحاب الكلي أو الجزئي للقوات التركية من سورية مطروح
من جهته، يرى الباحث في "مركز جسور للدراسات"، وائل علوان، أن تركيا "تتفاعل بشكل كبير مع الجهود الروسية ولا تضع شروطاً مسبقة للجلوس إلى الطاولة، لكنْ في الواقع هناك شروط مسبقة يضعها الطرفان بالنسبة للأهداف المتوخاة من هذا الحوار بالنسبة لكل منهما". ويوضح علوان في حديثٍ مع "العربي الجديد"، أن "تركيا تريد ضمانات لحل سياسي، بينما يطالب النظام بتحديد موعد للانسحاب التركي الكامل من سورية.
وهذه أمور طُرحت خلال لقاء موسكو الذي جمع وزراء دفاع الأطراف المعنية (28 ديسمبر/كانون الأول الماضي)، وكان الجواب التركي: (نعم سننسحب عندما يكون هناك حل سياسي في سورية)". ويضيف علوان أن "هذا موقف الدول الأخرى أيضاً التي تقول إنها ستنسحب حالما يتم التوصل إلى حلول سياسية نهائية في سورية".
ويلفت علوان إلى أن "تفاعل النظام السوري وتعاونه في عودة اللاجئين ومحاربة المجموعات المتطرفة والانفصالية، يقابلها تفاعل تركي باتجاه التطبيع مع النظام والانسحاب من الأراضي السورية، وحتى الولايات المتحدة تقول إن بقاء النظام ورفع العقوبات عنه، مرتبط باستجابته مع جهود الحل السياسي، لكن النظام لا يستطيع المضي قدماً بهذا الاتجاه، وهو يتعرض لضغوط إيرانية قوية تمنعه من الاستجابة وتحقيق تقدم في المسار السياسي، وتقديم ضمانات سواء للمجتمع المحلي في سورية، أو لدول الجوار".
وفي سياق البحث عن "حلول وسط" بين الجانبين تتيح تلبية مطالبهما ولو بشكل جزئي، قال عضو "مجلس الشعب" (البرلمان) لدى النظام السوري، عضو اللجنة الدستورية، صفوان قربي، في حديثٍ لموقع "بي بي سي تورك"، إنه "يجب إعادة تأهيل فصائل المعارضة المسلحة، بالقوة أو بالحلول اللينة، وإدماجهم في العملية السياسية، والاستفادة من تجربة درعا، جنوبي سورية". والمقصود هو تسوية عام 2018.
وكشف قائد عسكري من المعارضة السورية الموجودة في إدلب للموقع نفسه، أن "السلطات التركية اقترحت عليهم تجربة درعا"، مشيراً إلى أنه "في حال حصل تقارب سياسي ستطرح هذه الفكرة على الطاولة.
وليس من الواضح بشكل دقيق ما هو المقصود بتجربة درعا، لكن ما حدث هناك أن الفصائل المسلحة التزمت بموجب اتفاق التسوية عام 2018 على تسليم سلاحها الثقيل والمتوسط للنظام، والاحتفاظ بالسلاح الخفيف للحفاظ على الأمن في مناطقها، في مقابل قيام النظام بتحقيق بعض المطالب مثل إطلاق سراح المعتقلين في سجونه وعودة الموظفين في الدولة إلى أعمالهم، ووقف الملاحقات الأمنية.
وطبعاً، لم يلتزم النظام بوعوده، كما أن المجموعات المحلية احتفظت بسلاحها في معظم المناطق. وتعيش المحافظة منذ ذلك الاتفاق أسوأ حالة أمنية، مع تصاعد الاغتيالات والتفجيرات وعمليات الخطف والاعتقال، التي أصبحت يومية".
صفوان قربي: يجب إعادة تأهيل فصائل المعارضة المسلحة
أما إذا كان المقصود هو تعاون "اللواء الثامن" الموجود في شرق درعا، الذي كانت تدعمه روسيا، مع النظام في الحفاظ على الأمن، فهي أيضاً ليست تجربة ناجحة على الرغم من التبعية النظرية لهذا اللواء لفرع الأمن العسكري، علماً أن عناصره ينتشرون في بقعة محددة وصغيرة من المحافظة.
إدماج "قسد" في قوات النظام
وبالنسبة لجهود روسيا لإدماج "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) في قوات النظام الرسمية، فإن تركيا تتوجس من ذلك أيضاً وفق مسؤول تركي آخر صرح لموقع "بي بي سي تورك": "بسبب ضبابية طريقة دمج هذه الوحدات في جيش النظام، وآلية تمركزها في سورية، وطريقة التفاهم بين الأطراف في هذا الخصوص".
وتشير تسريبات إعلامية إلى أن روسيا تعمل على إقناع تركيا بنسخة معدلة من اتفاق أضنة الأمني الموقع في عام 1998، الذي يسمح للجيش التركي بالتوغل داخل الأراضي السورية بعمق 5 كيلومترات، في حال عدم قدرة قوات النظام السوري على مواجهة حزب "العمال الكردستاني". وبالتالي سيتمكن الجيش مع التعديل الجديد من التوغل مسافة 32 كيلومتراً في حال دعت الحاجة، على أن يكون ذلك بالتنسيق مع قوات النظام السوري المنتشرة في المنطقة.
في حال نجحت روسيا في تمرير هذا التعديل، الذي قد لا يواجه بمعارضة قوية من النظام، إذا حصل على تعهد تركي بالانسحاب الكامل أو الجزئي من الأراضي السورية، فانه سيشكل "اختراقاً" في العلاقات بين الجانبين، كما يقول المحلل السياسي غازي دحمان.
ويضيف دحمان في حديثٍ مع "العربي الجديد"، أن كلا الطرفين قد يجدان في اتفاق من هذا القبيل خطوة مقبولة وحلاً وسطاً يمهّد للبحث في الترتيبات اللاحقة، مثل تشكيل دوريات مشتركة لضبط الأمن عبر الحدود، فضلاً عن أن مثل هذا الاتفاق يعيد النظام إلى المشهد السياسي بوصفه طرفاً شرعياً، يستطيع عقد الاتفاقات مع دول الجوار.
من جهتها، ستستفيد تركيا من مثل هذا الاتفاق بمنحها حق التدخل، في الوقت الذي ترى أنه ضروري للحفاظ على أمنها، سواء براً أم من خلال القصف الجوي. كما أن هذا الاتفاق سيجعل النظام وتركيا طرفاً واحداً في مواجهة "قسد"، وداعميها الأميركيين، مما يقطع أي احتمال للتقارب بين النظام و"قسد".