منذ تعيينه في منصبه، رئيساً للوزراء في السودان، لم يشأ عبد الله حمدوك الدخول في مواجهات سياسية مع المكون العسكري أو تحالف "الحرية والتغيير"، ولا حتى التيارات السياسية المعارضة له، بما في ذلك النظام القديم، إلا أن الأخير يبدو أنه قد سئم "الهجمات" التي تلقاها، وانتقل إلى مرحلة جديدة عنوانها الأبرز الكف عن تفادي "مواجهة" العسكر.
وطوال أكثر من 15 شهراً قضاها في منصبه، اتسم الخطاب السياسي والإعلامي لحمدوك بقدر عالٍ من الهدوء والاتزان والرغبة في التوافق الوطني، وظل حريصاً أكثر على إظهار نجاح الشراكة بين حكومته والعسكر.
وقد حدث ذلك حتى في قمة الهجوم عليه من المكون العسكري الذي درج على تحميله وحكومته مسؤولية الفشل في المجال الاقتصادي وبالتالي الواقع المعيشي للمواطنين، وهو هجوم تبناه بنفسه في بعض المناسبات رئيس مجلس السيادة الانتقالي القائد العام للجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، تصريحاً وتلميحاً، كذلك تبناه في مرحلة من المراحل نائبه في مجلس السيادة، قائد قوات الدعم السريع، الفريق أول محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي.
غير أن رئيس الوزراء تخلى أمس الأحد في حوار أجراه معه التلفزيون الحكومي، عن كل ذلك، ودخل أولاً في حرب كلامية مباشرة مع عضو مجلس السيادة، الفريق شمس الدين الكباشي، حيث رد بقوة على هجوم شنه الأخير عليه، عطفاً على اتفاق وقعه حمدوك مع "الحركة الشعبية"، إحدى الحركات المتمردة في البلاد، فتح المجال أمام النقاش بين الجانبين حول إمكانية فصل الدين عن الدولة من أجل تحقيق السلام.
وكان الكباشي قد وصف الاتفاق الذي وقع في أديس أبابا بأنه "عطاء من لا يملك لمن لا يستحق"، ومن خلال رده، أراد حمدوك التأكيد أن الثورة هي التي أتت به إلى المنصب، وأنه يمارس صلاحياته وفقاً لنصوص الوثيقة الدستورية التي تعطيه حق التحرك لوقف الحرب وتحقيق السلام ووضع كل الموضوعات تحت طاولة الحوار دون التقييد بأي خطوط حمراء. واتهم الكباشي صراحة بقصر النظر في طرحه الأخير.
كذلك حذر رئيس الوزراء من مغبة المزايدة باسم الدين، وقال إن حكومته لا تريد إقصاء الدين من الحياة العامة، بل كل ما تسعى إليه هو منع استغلال الدين لأغراض سياسية، وفي ذلك رد آخر على كثير من التيارات الدينية التي كان حمدوك يتفادى مواجهتها.
وقبل فترة هاجم عسكري آخر، هو الفريق ياسر العطا، عضو مجلس السيادة، حكومة حمدوك حين انتقد علانية لجنة شاركت الحكومة في تكوينها، بغرض تفكيك دولة نظام الرئيس المعزول عمر البشير، واسترداد الأموال المنهوبة من قبل رموز النظام.
وطالب العطا في تصريح صحافي بحلّ اللجنة، متحججاً بكون بعض عملها يقوم على "التشفي والانتقام"، وهو موقف سانده فيه بعض الأصوات، بما في ذلك أصوات داخل "الجبهة الثورية"، الشريك الجديد في الحكم، إلا أن حمدوك دافع عما تقوم به اللجنة التي عدها واحدة من أهم إنجازات الثورة، رافضاً بشكل قاطع وصريح أي توجهات نحو حلها.
ويدور همس منذ فترة عن تماهي بين المكون العسكري و"الجبهة الثورية" من أجل "عسكرة الثورة"، وهذا واحد من الأسئلة التي طُرحت على رئيس الوزراء الذي لم يتردد في التحذير من مغبة التفكير في مثل هذا الاصطفاف. وهو اصطفاف لم ينف وجوده أصلاً، بل قفز إلى التحذير منه مهدداً بشكل أو بآخر بمواجهته، سواء عبر قوى الحراك الثوري، ممثلة بلجان المقاومة، أو من خلال الشعب السوداني قاطبة الذي ذكر أنه "خبر هزيمة مشاريع البطش والاستبداد".
هذه التطورات تدعو إلى التساؤل عما إن كان رئيس الوزراء قد أصبح يميل نحو خيار المواجهة مع المكون العسكري؟ ويبدو أن حمدوك بات يشعر باليأس من استمرار "تغول" المكون العسكري على صلاحياته، في عديد من الملفات، مثل ملف إدارة عملية الحوار والتفاوض مع الحركات المسلحة، وملف العلاقات الخارجية.
إزاء ذلك، حرص حمدوك على إظهار قوته والتمسك بصلاحياته، والتلويح بلجان المقاومة وتصويرها كأنها داعمة ومساندة له، خاصة أن تلك اللجان هي العنصر الأكثر نشاطاً في الساحة والأقدر على تحريك الشارع، ولا سيما أن لديها كمّاً من التحفظات على المكون العسكري، المتهم بالنسبة إليه بارتكاب جريمة فضّ اعتصام القيادة العامة في الخرطوم في الثالث من يونيو/ حزيران من العام الماضي.
أما الترجيح الثاني لغضبة رئيس الوزراء، فيرتبط بالأنباء التي رشحت في الأيام الماضية عن نية المكون العسكري بالتواطؤ مع أحزاب داخل "الحرية والتغيير"، وأخرى داخل "الجبهة الثورية" لإطاحته وتسمية بديل له في المنصب، ضمن التغييرات الواسعة التي يفرضها اتفاق السلام مع "الجبهة الثورية"، الموقع في الثالث من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. ويفرض الاتفاق إعادة هيكلة كل من مجلس السيادة ومجلس الوزراء.