قفزت تطورات كازاخستان المفاجئة إلى الواجهة في واشنطن، وخاصة بعد دخول قوات روسية إليها يوم الخميس الماضي. أي بعد أقل من أسبوع على اندلاع الأحداث. وكان هذا أكثر ما توقفت الإدارة عنده، من باب أنّ التظاهرات لم تكن بالحجم الذي استعصى التعامل معه على قوات الأمن المحلية التي "كانت بالتأكيد قادرة على التعاطي مع الأحداث"، كما قال الوزير بلينكن أمس.
وتزايدت التساؤلات بعدما تضاربت المعلومات عما إذا كانت الاستعانة بالقوات الروسية قد جرت بناءً على طلب الرئيس الكازاخستاني، قاسم جومارت توكاييف أو بمبادرة من موسكو. وإذا كان الكرملين هو المبادر، فهل كان ذلك لاستدراك ما يمكن أن تكون موسكو قد حسبته أو توجست بأنه أبعد من حركة احتجاج فجّرها رفع أسعار المحروقات؟ ثمة تلميحات ومؤشرات ضمنية لا تستبعد هذا الاحتمال.
في المرات السابقة، المشابهة، لم تتدخل موسكو. عام 2011 شهدت البلدة نفسها التي بدأت فيها الأحداث، صدامات مع عمال النفط فيها، وانتهت بسقوط عدد من القتلى من دون أن يستدعي الأمر الاستنفار الحاصل الآن، حيث شاركت قوات من دول "منظمة المعاهدة الأمنية الجماعية"، التي تشكل موسكو نواتها، للسيطرة على الوضع. يُذكر أنه سبق لبعض دول وسط آسيا، التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي، أن طلبت مساعدة هذه القوات لضبط اضطرابات محلية، لكن من غير استجابة لطلبها.
ولوضع كازاخستان وموقعها المتاخم لروسيا، فضلاً عن أهميتها بوصفها بلداً غنياً بالموارد تربطه علاقة خاصة بموسكو، له حسابات جيوسياسية أخرى لا يتساهل فيها الكرملين. حتى ولو كانت الأحداث الراهنة داخلية محضة. وهي كذلك إلى حدّ بعيد حسب المتابعات الأميركية. فالوضع الاقتصادي في أحسن أحواله راكد، رغم ثروات البلد، والوضع المعيشي بائس، حيث معدل الدخل الفردي مئة دولار شهرياً. وقد نشأ عن ذلك تفاوت كبير في المداخيل وتوزيع الثروة، بما أدى إلى تململ إثني وعمالي، عُبِّر عنه بتحركات واعتراضات، رد عليها الرئيس توكاييف بالتضييق على المعارضة والصحافة، وبإعطاء الأوامر بإطلاق النار، ومن دون تحذير، وقتل المتظاهرين بزعم التصدي لـ"مجموعات إرهابية".
لكن من لهجة الرد الأميركي والصيني، فضلاً عن مسارعة روسيا للتدخل، لا يستبعد أن يكون وراء ذلك ما هو أعمق من صدام داخلي. ففي رده على سؤال عن هذه التطورات، خلال مؤتمره الصحفي الجمعة، الذي كان مخصصاً لموضوع المحادثات الأميركية الروسية التي ستبدأ الاثنين القادم في جنيف بخصوص أوكرانيا، كاد الوزير بلينكن أن يشجب التدخل الروسي، عندما تساءل عن دواعي "الحاجة لأي مساعدة خارجية" لمواجهة مشكلة هي في "أساسها اقتصادية سياسية" محلية. وقد بدا اعتراضه المضمر على مثل هذا التدخل وكأنه يحاكي اعتراض موسكو على تدخّل واشنطن والناتو في أوكرانيا، مع الفوارق والاختلاف في الحالين، من حيث الخلفيات والوقائع والأبعاد. وكان من اللافت في هذا السياق، الكلام المنسوب إلى الرئيس الصيني، الذي شدد خلال اتصاله التضامني مع الرئيس توكاييف على وقوفه ضد "أي محاولات تقوم بها قوى خارجية لإثارة الاضطرابات في كازاخستان"، فهل هي إشارة إلى محاولات محتملة أم جارية؟
كيفما كان الحال، شكلت تطورات كازاخستان مشهد أزمة دولية جديدة، أطرافها الرئيسة هي نفسها الضالعة في الأزمة الأوكرانية، وبالاصطفاف ذاته. ويأتي ذلك عشية بدء محادثات جنيف الأميركية الروسية غداً الاثنين. الوزير بلينكن استبق الموعد الجمعة، برسالة متشددة، ولو غير قاطعة إلى موسكو، تقول إن مطالبتها بالحصول على تعهّد خطي بعدم ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو ليس سوى "بداية مسدودة" للمفاوضات. فهل هي محاولة لرفع السقف مسبقاً، علّ التلويح بأزمة في كازاخستان يسعف في تليين موقف بوتين، الذي بدا أنه ممسك حتى الآن بالورقة الأوكرانية؟ ربما، لكن ما لا مجازفة فيه، القول إن ادارة بايدن تطمح إلى تسوية في أوكرانيا؛ لأنها بغنىً عن أزمة مع موسكو، التي تحتاجها في هذه المرحلة الفاصلة من مفاوضات فيينا، التي تعطيها الأولوية في الوقت الراهن.