بعد توقيعه أمس الجمعة على أمر تنفيذي يخفّف من وقع قرار منع الإجهاض، قال الرئيس الأميركي جو بايدن إن المحكمة العليا التي أصدرت هذا الحكم قبل أيام صارت "خارج السيطرة"، أي أنها ربما تسيّست وتجاوزت دورها حارساً للدستور والسهر على تطبيق أحكامه.
تقييم غير بعيد عن رأي العديد من أهل القانون. فقرارات المحكمة الأخيرة التي فرضتها الأغلبية المحسوبة على اليمين المتشدد، في مواضيع الإجهاض وحمل السلاح على المكشوف، وعدم فصل الدين عن المدرسة الخاصة، عززت الاعتقاد بأنها "انحرفت" وبشكل فاقع.
قيادة الجمهوريين في الكونغرس تتباهى بأنها "صارت محكمتهم"، على ما قال السناتور ميتش ماكونيل، زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ. وبهذا المعنى، تصبح المحكمة تعمل لخدمة أجندة المحافظين، وبذلك فإن توصيف بايدن بأنها صارت "خارج السيطرة" له ما يبرره.
لكن الانفلات والخروج عن السيطرة في أميركا هذه الأيام لا يقتصر على المحكمة العليا، ربما وصل إلى ذروته فيها، وأصبح يطاول جوانب أخرى هامة في الوضع الأميركي، فهو موجود بصورة صارخة في الحياة السياسية والعنف المستشري وانحسار الأمن والأمان، وصعود اليمين المتطرف. كذلك الحال في موضوع حق التصويت الذي يتعرض للتضييق بالترافق مع إعادة النظر في تنظيم العملية الانتخابية، بحيث يُترك أمر البت بنتائجها للمجالس التشريعية في الولايات التي يسيطر الجمهوريون عليها في 36 ولاية، وبما ينذر بمشكلة كبيرة في الانتخابات النصفية، كما الرئاسية.
في كل هذه النواحي وما يتفرع عنها أو يتصل بها، تجاوزت الأمور حدود السيطرة وأثارت مخاوف جدية، جرى التعبير عنها في العديد من الكتب والدراسات والمقالات التي تتوالى تحذيراتها من المخاطر المحدقة بالوضع وبالديمقراطية الأميركية التي "خلخلتها" انتخابات 2020، والتي يتزايد التخوف من احتمال تجددها في 2024.
فالعنف المنفلت "مزّق"، أو هو تعبير عن تمزّق، النسيج الاجتماعي - القومي، كما يقول آدي غود، الأستاذ في جامعة برينستون. والتوتر السياسي الذي وصل إلى حافة الانقلاب على السلطة في 6 يناير/ كانون الثاني 2021، حسب ما كشفت عنه تحقيقات اللجنة النيابية وجلسات استنطاقها الشهود، ضاعفت من تآكل الثقة بالمؤسسات وزادت من التساؤلات حول ما كان من المسلمات.
سبق أن مرت الولايات المتحدة بظروف وتحديات مشابهة، آخرها كان في الستينيات وبداية السبعينيات، حيث انتشر العنف وتعمقت الخلافات. لكن الفارق "أننا في المرات السابقة كنّا عازمين على التصحيح"، وفق المؤرخ الرئاسي جون ميتشم.
العمل بقاعدة التسوية والتنازلات المتبادلة التي طالما حكمت اللعبة السياسية الأميركية، صارت وإلى حدّ بعيد من الماضي. الآن باتت العملية أقرب إلى لعبة الروليت الروسية. وهذا ما رفع من منسوب القلق والتخوف الجدّيين من الانزلاق إلى الأسوأ. فحالة الشطط والانحراف العامين لها مسببات متعددة نابعة من توسع الفروقات الثقافية والسياسية والاجتماعية الضاربة أطنابها الآن، كما من أعطاب بنيوية تتمثل في "دستور تجاوز الزمن كثيرا من بنوده التي تحتاج إلى إصلاحات وتحديثات" تتناسب مع معطيات الواقع.
ومن بين الإصلاحات الملحة إعادة النظر في العملية الانتخابية وإعادة تنظيم المحكمة العليا وتعييناتها التي تتحكم فيها الحزبية السياسية، والتي بدت في السنوات الأخيرة أقرب إلى الارتهان للفريق الذي يختار القاضي ويضمن موافقة مجلس الشيوخ على تعيينه.
خروج المحكمة عن السيطرة، الذي اشتكى منه بايدن، جزء من كل متناسل من بعضه. وما كان له أن يبلغ الخطوط الحمر إلا لأن "أميركا ضلّت طريقها" بتعبير كاتب الرأي في صحيفة "واشنطن بوست" دافيد أغناشيوس. أما الرئيس الأميركي، وإن لم يكن مسؤولاً عن هذا الخروج في حالته الراهنة، فهو لم يساهم بعد بشكل فعال في لجمه وتقليل خسائره.