تصاعد الاحتقان بشكل كبير في الشارع التونسي خلال الأيام الأخيرة، في الأحياء الشعبية التي تشكّل حزام العاصمة تونس، "التضامن" و"الملاسين" و"الانطلاقة" و"الزهور"، وفي مدن أخرى مثل جرجيس ونابل والمكنين والحامة. وشهدت هذه المناطق مواجهات عنيفة مع الشرطة على مدى أسبوع، ما عكس حالة من الغضب المتصاعد، ومؤشرات لا تخطئ عن توتر الشارع التونسي خلال هذه المرحلة التي كان الجميع يحذر بشأنها، من خريف ساخن في تونس، قد يذهب بما تبقى من شعبية الرئيس قيس سعيّد قبيل الانتخابات التي سينظّمها لبرلمانه الجديد.
ولئن تعددت أسباب الغضب من مدينة إلى أخرى، فإن الوضع الاقتصادي والاجتماعي الصعب يبدو العامل الأساسي في هذه التحركات، وهو ما ينذر بالأسوأ.
وليس الشارع الاجتماعي وحده الغاضب، فالشارع السياسي كذلك احتشد في غالبيته، وعلى تناقضاته، في معارضة سعيّد ومشروعه السياسي. وشهدت نهاية الأسبوع ما قبل الماضي خروج "جبهة الخلاص" من جهة، والحزب الدستوري الحر من جهة أخرى، في تظاهرتين منفصلتين، لكنهما أظهرتا بنسب متفاوتة قدرة لا يستهان بها على تعبئة الشارع.
وأثبتت مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب " أولاً، ثم "جبهة الخلاص"، في كل مرة، أنهما موجودتان في الشارع، وبشكل متواصل منذ أكثر من سنة، بينما لا أثر لداعمي سعيّد في الشارع الذي تتآكل حتى قاعدة دعمه السياسية من أحزاب وشخصيات كانت حوله وانفضّت وأصبحت من أشد معارضيه، وآخرهم ائتلاف "صمود".
هل خسر سعيّد معركة الشارع؟
وتطرح هذه التطورات أسئلة متعددة، أهمها هل خسر سعيّد معركة الشارع أو جزءاً من ذلك الدعم الشعبي الذي كان يقول إنه مصدر المشروعية التي يستند إليها؟ وهل وعوده التي لم تتحقق طيلة فترة حكمة التي تقارب السنوات الثلاث ستقلب عليه المعادلة الشعبية؟ وهل سيكتوي سعيّد بذات الإخفاقات الاجتماعية والاقتصادية التي عصفت بسابقيه؟
يعتبر الباحث زهير إسماعيل، عضو "مواطنون ضد الانقلاب"، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّه "لا معنى لسؤال هل خسر سعيّد معركة الشارع بعد سنة ونصف السنة على الانقلاب، لأنّ سعيّد لا شارع له أصلاً، بدليل أنّه دعا في مناسبتين من وزارة الداخلية وفي ساعة متأخرة من الليل، "الشعب"، إلى الخروج، ولكن الاستجابة لم تتجاوز العشرات وفي أحسن الأحوال بضع مئات".
زهير إسماعيل: الشارع الفعلي اليوم هو الشارع الديمقراطي الذي انبعث مع الحراك المواطني المقاوم
وأضاف أنّ "عبارة "الشارع" ليست من قاموسه السياسي مثل كل شعبوي يرى حقيقة السياسة صراعاً بين شعب خيّر ونخبة خائنة يحب تطهير البلاد منها". وتابع أنه "حتّى ما قيل عن خروج الشعب في 25 يوليو/تموز 2021 للإطاحة بـ"عشرية الفساد"، وهذا جوهر سردية الانقلاب، فإن الأمر لم يتجاوز بضعة آلاف توزعوا على الولايات التي تحرّكت يومها، فتراوح عدد المتظاهرين في كل ولاية بين العشرات والمئات".
وأكد إسماعيل أن "سعيّد في انقلابه اعتمد أداتيّاً على قوى الدولة الصلبة، التي غادرت حيادها النسبي الذي كانت عليه منذ 2011، وكان هذا سبباً مهماً في تواصل الانتقال الديمقراطي. واعتمد سياسياً على الاستثمار في فشل منظومات الحكم وآخرها منظومة 2019 التي جاءت بسعيّد نفسه إلى رئاسة الجمهورية".
الشارع الفعلي هو الديمقراطي
واعتبر إسماعيل أن "الشارع الفعلي اليوم هو الشارع الديمقراطي الذي انبعث مع الحراك المواطني المقاوم الذي دشّنه مواطنون ضد الانقلاب. وربطوا في مبادرتهم الديمقراطية بين مهمّتين: إسقاط الانقلاب وبناء البديل الديمقراطي".
وأوضح أنه "يوجد شارع ثانٍ موازٍ يمثله الدستوري الحر، يعلن مناهضته لسعيّد من دون أن يوضح موقفه من الانقلاب والديمقراطية. ولكنه يذكّر في كل مناسبة بأنّ حقيقة ما قام به سعيّد تتوضّح بموقفه من "الإسلام السياسي"، فلا أقلّ من تصفية حركة النهضة، معرّجاً على مطلب الدولة المدنية، وموهماً بأنه مع ديمقراطية تستثني الإسلاميين، وكان هذا موقف زين العابدين بن علي ونظامه وحزبه التجمع".
وقال إسماعيل إن "ما تنهض به زعيمة الدستوري الحر عبير موسي بعد 25 يوليو لا يختلف عمّا نهضت به قبله، إذ نجحت في ترذيل البرلمان وتعطيل دوره ببلطجة، وهي اليوم تجتهد بتحركاتها في ترذيل المشهد السياسي وخلط الأوراق، وقطع الطريق على الشارع الديمقراطي وعنوانه السياسي، جبهة الخلاص".
وتابع: "يأتي إضراب الجوع الذي خاضته موسي في الأيام الأخيرة بسياق التغطية على فشل تحركها يوم 15 أكتوبر/تشرين الأول وضعف جمهورها، مقارنة بالحشود التي حضرت مسيرة جبهة الخلاص الوطني. وقبل ذلك لا تخرج تحركاتها عن الدور الأصلي الذي تطور من تعطيل المؤسسة الأصلية للنظام الديمقراطي (البرلمان) تمهيداً للإنقلاب، إلى ترذيل المشهد السياسي لمنع استئناف المسار الديمقراطي في ظل فشل الانقلاب".
وشدد إسماعيل على أن "الشعبوية والفاشية تتماهيان وظيفياً على الرغم من اختلافهما المعلن من جهة واحدة (الفاشية). فسعيّد وموسي التقيا عملياً على الانقلاب على الديمقراطية، ويلتقيان موضوعياً على منع استعادتها بعد هدم مؤسساتها".
وأكد أن "الشارع الديمقراطي مدعو اليوم إلى كسر الطوق المضروب حوله باتجاه الانفتاح على الشارعين، الاجتماعي والشعبي. فقد اجتمع من أسباب الاحتقان الاجتماعي ما لم يجتمع في سنوات الانتقال العشر. وقد ضاعف أداء الانقلاب الكارثي، عجزه عن معالجة الأزمة المالية الاقتصادية المهدِّدة للدولة بالإفلاس والناس بالمجاعة، ومع ذلك ما تزال الحواجز قائمة بين الشارع الديمقراطي والشارع الاجتماعي".
سعيّد يواصل اللعب على تناقضات معارضيه
يعتبر كثيرون أن عدم توفق المعارضة في اقتراح بديل سياسي واقتصادي موحد، لن يكون بالتأكيد عاملاً حاسماً في إضعاف سعيّد، الذي يواصل اللعب على تناقضات معارضيه. ولكن الشارع الاجتماعي الغاضب هو القادر فعلاً على تغيير كل المعطيات، خصوصاً أن البلاد تعيش أزمة لم تعهدها سابقاً، إذ التهبت الأسعار وفُقدت مواد أساسية، من بينها أدوية، من الأسواق، وبدأت أغلب القطاعات العمالية تصعّد من مطالبها بعد انهيار قدرتها الشرائية، فيما أعلن الاتحاد العام التونسي للشغل أنه ليس شريكاً في مفاوضات الحكومة مع صندوق النقد الدولي وأنه لا يتبنى بالتأكيد رفع الدعم عن السلع.
ورأى الخبير الاقتصادي رضا الشكندالي، أن "الفشل في إدارة الملف الاقتصادي والاجتماعي يُضعف أي سلطة مهما كان وزنها الشعبي"، معتبراً أن "الأزمات الأخيرة، الناجمة عن شح المواد التموينية وارتفاع الغلاء والتضخم، تسببت بالضرورة في خسارة الرئيس سعيّد لجزء من مناصريه".
رضا الشكندالي: أزمات شح المواد التموينية والغلاء والتضخم تسببت بخسارة سعيّد لجزء من مناصريه
وأشار الشكندالي، في تصريح مع "العربي الجديد"، إلى أن "منسوب الاحتقان الاجتماعي مرجّح للتصاعد في الفترة المقبلة مع بدأ تطبيق الإصلاحات الاقتصادية الموجعة التزاماً بالبرنامج الذي تم التعهد به مع صندوق النقد الدولي"، مؤكداً أن ذلك "سيزيد من التأثير على تقويض خطط سعيّد السياسية وحتى برنامجه الاقتصادي".
أخطاء سعيّد
ورأى الخبير الاقتصادي أن "من أخطاء سعيّد أنه يفضّل الحكم المنفرد ولا يستعين بالخبراء والكفاءات الاقتصادية، ما يجعل خياراته في هذا الاتجاه مجانبة للصواب، وتزيد في تعكير الوضع الاجتماعي، وبالتالي خسارة السلطة لنقاط من رصيد الدعم الشعبي الذي كانت تلقاه سابقاً".
وأضاف أن "الفشل في إدارة الملف الاقتصادي والاجتماعي يتعارض مع أي بناء ديمقراطي، بل إنه يقوضه"، معتبراً أن "الديمقراطية لا تتعايش مع الإخفاقات السياسية". وأشار الشكندالي إلى أن "كل الديمقراطيات الناجحة هي التي كانت الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والتنمية تسير معها بالتوازي، بينما عادت كل الدول الفاشلة اقتصادياً إلى دائرة الديكتاتورية مهما حاولت وضع أسس الديمقراطية".
من جهته، لفت القيادي في حركة النهضة، رياض الشعيبي، إلى أن "نوعية الاضطرابات والاحتجاجات الحاصلة اليوم في تونس مختلفة عنها في السنوات الأخيرة، إذ لم تصل إلى مستوى العنف هذا، ولم تتضمن مؤشرات اجتماعية يمكن أن تتحول إلى انفجار اجتماعي".
وأضاف الشعيبي، لإذاعة "إكسبرس أف أم" الخاصة: "يمكن أن ينفجر الوضع في البلاد في أي لحظة، وهناك استعمال للمولوتوف والغاز المسيل للدموع والرش والرصاص المطاطي من قبل قوات الأمن على المحتجين في عدد من أحياء البلاد".
ويتقاسم حتى مؤيدو سعيّد هذه القراءة بشأن الإخفاقات الاقتصادية، على الرغم من إصرارهم على عدم العودة إلى الوراء.
وقال القيادي في حركة الشعب (داعمة لسعيّد) عبد الرزاق عويدات، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "التأييد الشعبي الذي كان مع سعيّد في 25 يوليو 2021 كان من أجل حياة أكثر راحة واطمئناناً"، مبيناً أن "الهدف الذي كان يأمله الشعب هو تحقيق حياة كريمة، وأكثر سهولة في العيش، ولكن ما حصل منذ 25 يوليو إلى الآن في الواقع هو أن الحياة زادت صعوبة، فمن كان فاقداً للمال لا يستطيع تلبية حاجيات أسرته، وحتى من له مال لا يجد العديد من المواد".
عبد الرزاق عويدات: لا يوجد أي حل سوى المضي قدماً للأمام
وأوضح أن "مؤيدي 25 يوليو اجتمعوا من أجل إنهاء مرحلة سابقة اتسمت بالفشل في إدارة الملفات الاقتصادية والاجتماعية، وتغيير المناخ القديم الذي سئمه التونسيون، نحو منظومة جديدة تكون بمنوال تنموي جديد يقوم على التشجيع على الإنتاج وتحقيق الوفرة، لكن هذا لم يتحقق ونحن نتفهم الناس في ذلك".
وأوضح عويدات أن "كل هذه العوامل تجعل الشارع المؤيد لقيس سعيّد يتراجع وينقص تأييده وحماسه للمسار ككل"، مبيناً أنه "مع ذلك فإنه لا مجال للرجوع إلى الوراء، فلا يوجد أي حل سوى المضي قدماً للأمام في اتجاه المؤسسات الجديدة ومجلس نواب وانتخابات ومحكمة دستورية، وساعتها يمكن الحديث عن مناخ سياسي وحوار اقتصادي واجتماعي وتنفيذ ما يخرج من توصيات عن الحوار، والتي قد تخرجنا من عنق الزجاجة وتحقيق ما يأمله التونسيون".