لا تبدو التفاهمات الروسية ـ التركية حول إدلب سالكة نحو التطبيق بسبب تعرّضها لكثير من المطبات والعراقيل، التي كان من شأنها عكس الخلافات على أرض الميدان، منذ بدء مسار أستانة وحتى ما بعد إبرام اتفاق وقف إطلاق النار في 5 مارس/آذار الماضي. وفي تطور جديد للخلافات الحالية بين الروس والأتراك في إدلب، أنشأت القوات التركية مخافر على الطريق الدولي حلب ـ اللاذقية "أم 4"، بما يوحي بنيّة أنقرة فتح الطريق أمام الحركة التجارية والطبيعية. وهو الأمر الذي يُتوقع أن يثير غضب موسكو التي تصرّ على فتح الطريق بإشرافها، بعد الوصول إليه عبر قوات النظام السوري، حتى لو بعملية جديدة تقضم مزيداً من المساحات في ريف إدلب الجنوبي، انطلاقاً من جبل الزاوية بالتحديد. وتهدف موسكو للوصول إلى الطريق والسيطرة عليه، بهدف فتحه أمام الحركة التجارية، لتخفيف الأعباء الاقتصادية على النظام.
أنشأت تركيا مخفراً على طريق جبل الزاوية وآخر شرقي اللاذقية
وأنشأت القوات التركية، أول من أمس الأحد، مخفراً على طريق بلدة أورم الجوز- جبل الزاوية، جنوب غربي إدلب، وآخر بالقرب من قرية عين حور شرقي اللاذقية، التابعة لـ"منطقة خفض التصعيد الرابعة" (إدلب وما حولها)، على طريق "أم 4". وحول الحراك التركي الجديد، كشفت مصادر عسكرية من المعارضة السورية المنتشرة في إدلب، لـ"العربي الجديد"، أن الجيش التركي لن يكتفي بتثبيت هذين المخفرين على الطريق المذكور، بل سينشر في الأيام المقبلة مزيداً من المخافر وكبائن الحراسة على الطريق. وذكرت أن المخافر المنوي إنشاؤها ستبدأ من بلدة الترمبة شرقي إدلب، وصولاً إلى قرية عين حور في ريف اللاذقية الشرقي، وهو خط سير الدوريات الروسية ـ التركية المشتركة على طريق "أم 4"، قبل توقفها منذ حوالي ثلاثة أشهر. ولفتت المصادر إلى بروز نوايا تركية لتنظيم حماية الطريق، للبدء بفتحه أمام الحركة التجارية والطبيعية بإشراف تركيا والمعارضة في الأيام المقبلة، وذلك بعد تعقّد التفاهمات التركية ـ الروسية حيال كثير من الترتيبات على الجغرافيا السورية في الشمال، شرقاً وغرباً.
ولم تبرز إشارات في الأيام والأسابيع الأخيرة إلى اتفاق كل من أنقرة وموسكو على القيام بترتيبات جديدة في إدلب، ومنها إنشاء مخافر تركية أو مشتركة، ما يؤكد لجوء تركيا للقيام بهذه الخطوة بشكل منفرد بعيداً عن تفاهماتها مع روسيا حول إدلب. وتعزز الوضعية الجديدة احتمالية نشوب الخلاف بين الطرفين. ويروّج مسؤولون من النظام أن التفاهمات التركية ـ الروسية، لا سيما على هامش اتفاق وقف النار الأخير، تشير إلى الاتفاق على انسحاب المعارضة من القسم الجنوبي من إدلب إلى شمال طريق "أم 4"، الأمر الذي لم تؤكده أنقرة رسمياً.
وكانت المعارك الأخيرة التي بدأتها قوات النظام بدعم روسي ومساندة مليشيات محسوبة على موسكو وطهران منذ نهاية عام 2019 حتى مارس الماضي، هدفت بشكل رئيسي إلى السيطرة على المدن والبلدات الواقعة على جانبي طريق حلب ـ دمشق الدولي "أم 5" المارّ من إدلب. وتمكن النظام وروسيا من بلوغ هذه الغاية قبل توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بأيام، ثم سارع بعد الاستيلاء على الطريق لفتحه أمام الحركة التجارية. إلا أن فتح طريق "أم 5" يبقى ناقصاً بالنسبة للنظام وروسيا، إن لم يحققا السيطرة على طريق "أم 4"، إضافة إلى فتحه كذلك أمام الحركة التجارية، للاستفادة منه في تخفيف الأعباء الاقتصادية على النظام التي واجهها أخيراً، لا سيما بعد تعاظم مفعول العقوبات الأميركية بموجب "قانون قيصر".
ولا تبدو تركيا بصدد التساهل مع أي تحرك جديد لقوات النظام في إدلب وتحديداً جنوبها، سواء كان بدعم روسي أو من دونه، إذ شارف الجيش التركي على الانتهاء من إكمال إنشاء الجدار الناري الدفاعي، في مواجهة قوات النظام جنوبي إدلب وشرقها، وتحديداً عند جبل الزاوية وقرب مدينتي معرة النعمان، جنوبي إدلب، وسراقب شرقها. وأنشأت تركيا هذا الجدار بالتزامن مع سحب نقاطها المحاصرة من قبل قوات النظام في أماكن متفرقة من "منطقة خفض التصعيد". كما عززت وجودها في إدلب من خلال نقاط أخرى نشرتها على المرتفعات ومواقع استراتيجية شكّلت منها الجدار.
وكشفت مصادر في المعارضة في إدلب لـ"العربي الجديد"، أن الجيش التركي دفع إلى تلك النقاط الجديدة بعتاد وعناصر ذات طبيعة هجومية أكثر منها دفاعية. وتوزّعت في نقاط الجدار الدفاعي عناصر من قوات النخبة "كوماندوس" في الجيش التركي، مدعومةً بدبابات ومدرعات قتالية هجومية. مع العلم أن تلك النقاط تحتوي على مدافع ميدان قادرة على ضرب الخطوط الخلفية للطرف الآخر.
لا تبدو تركيا بصدد التساهل مع أي تحرك جديد لقوات النظام في إدلب
في السياق، استطلعت قوة من الجيش التركي، أمس الإثنين، بلدة قسطون في سهل الغاب في الريف الغربي الشمالي من حماة، التابعة لـ "منطقة خفض التصعيد"، في ما يبدو توجهاً لإنشاء نقطة جديدة للجيش التركي هناك، ما يعني احتمال توسيع نطاق الجدار الدفاعي التركي ليشمل كافة نقاط التماس مع قوات النظام.
وكانت تركيا سحبت معظم نقاطها المحاصرة من قبل قوات النظام في إدلب ومحيطها، في أمر فُسّر على أنه تراجع تركي أمام روسيا، غير أن مصادر مقربة من الحكومة التركية وأخرى في المعارضة السورية، أشارت إلى أن تلك الخطوة تكتيكية، كي لا تشكل النقاط المحاصرة عامل ضغط على أنقرة في حال أقدم جيشها على خيار هجومي في إدلب.
وبناء على كل ذلك، تظهر تركيا وكأنها ستتحرك في إدلب بعيداً عن تفاهماتها مع روسيا، في ظل انعكاس الخلاف على عين عيسى شمالي الرقة، شرق سورية، على واقع الميدان في إدلب. الأمر الذي ربما يفضي لتغيير خرائط السيطرة، وعودة أنقرة للمطالبة بتطبيق اتفاق سوتشي (الموقع في سبتمبر/أيلول 2018) وحدوده الجغرافية، الذي يشمل كامل "منطقة خفض التصعيد الرابعة"، وضمنها محافظة إدلب، وأجزاء من أرياف حماة الغربي وحماة الشمالي وحلب الغربي وحلب الجنوبي، واللاذقية الشرقي. وفي حال لم تنجح الاستعانة باتفاق سوتشي، ترغب تركيا في التقدم نحو أكبر مدينتين في إدلب يسيطر عليهما النظام: سراقب ومعرة النعمان. مع العلم أن أنقرة عززت وجودها العسكري في محيط المدينتين.