شكّل مقتل زعيم مرتزقة "فاغنر" يفغيني بريغوجين، أمس الأربعاء، النهاية المنطقية والمتوقعة لـ"طباخ" استثنائي بالغ في المراهنة على وصفاته الخاصة في تغيير القواعد الصارمة التي تحكم "الطهو" في دوائر الحكم في الكرملين منذ مئات السنين، والتي أعاد الرئيس فلاديمير بوتين صياغتها للتناسب مع ذوقه وطريقة حكمه.
وربما احترق الطاهي بلهيب النار التي أوقدها التمرد الفاشل في قلب "سيد الكرملين"، في 24 يونيو/حزيران الماضي، الذي عمل طوال 23 عاماً على بناء نظام خاص لا وجود فيه لشخصية يمكن أن تنافسه في الشعبية أو النفوذ وتتجرأ على طرح طلبات وشروط.
ومع تأكيد مقتل مؤسس مجموعة "فاغنر" الحقيقي وقائدها العسكري الأساسي، الذي حملت المجموعة لقبه الحركي، ديمتري أوتكين، تطرح العديد من التساؤلات حول مرحلة ما بعد بريغوجين، سواء في ما يتعلق بالداخل الروسي أو بمصير شركته، من دون أن تكون القدرة متاحة على تقديم أجوبة حاسمة.
بمقتل بريغوجين يمكن القول أقله مبدئياً، إن مرحلة الشركات العسكرية الخاصة العاملة غير الخاضعة بالكامل لسيطرة الكرملين قد انتهت. وفيما تم حسم مصير مقاتلي" فاغنر" الذين فضلوا توقيع عقود مع الجيش الروسي في الحرب على أوكرانيا، تتمحور الأسئلة المطروحة حول دور مجموعة "المرتزقة" المستقبلي كأداة من أدوات السياسة الخارجية الروسية المستخدمة لتحقيق مصالح اقتصادية وجيواستراتيجية في الشرق الأوسط وأفريقيا، من دون اللجوء إلى الجيش وأجهزة الاستخبارات. والأهم هو قدرة القيادات الجديدة في حال قرر الكرملين المحافظة على هيكلية "فاغنر" في إنجاز المهمات بنجاح كما عمل بريغوجين.
احتمال التصفية
وجاء مقتل بريغوجين بعد شهرين على تمرّده، وبعد عام ونصف العام من بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022، بالتزامن مع تأكيد إبعاد قائد القوات الجوفضائية الجنرال سيرغي سوروفيكين، وزيارة بوتين لأول مرة مدينة روستوف التي انطلق منها التمرد ضده.
أما الطريقة الاستعراضية لنهاية بريغوجين بعد سقوط طائرته وتعدد الروايات بشأن كيفية حدوث ذلك، فربما أراد منها "سيد الكرملين" توجيه رسالة لكل من تسوّل له نفسه مجرد التفكير بخيانته واستغلال الثقة الممنوحة له.
ربما أراد بوتين توجيه رسالة لكل من تسوّل له نفسه مجرد التفكير بخيانته
وفق فرضية الاغتيال، قد تكون حسابات الكرملين أخذت بعين الاعتبار تراجع شعبية بريغوجين واختفاءه من قائمة أكثر السياسيين تمتعاً بثقة الروس في استطلاعات الرأي، بعدما صبّت بروباغاندا الكرملين جام غضبها عليه ووصفته بالخائن، وكشفت حياة البذخ التي يعيشها في قصره في سان بطرسبرغ، ووصلت إلى التلميح لتعاطيه المخدرات.
لكن على الرغم من كل ذلك، لم يمنع مقتل بريغوجين من بروز فرضيات عدة منها ما يخدم بروباغاندا الكرملين، ومن ضمنها تحميل المسؤولية لنظام كييف "المجرم" في مقتل "الشهيد" الذي حارب بضراوة من أجل مجد روسيا. وتحول بذلك بريغوجين فجأة من "خائن" ومستفيد من أموال وزارة الدفاع مع احتمال نهبه لقسم منها، إلى هدف لطرف "ثالث" أو الاستخبارات الأوكرانية، تزامناً مع الذكرى الـ32 لاستقلال أوكرانيا عن الاتحاد السوفييتي في 24 أغسطس/آب 1991.
ولعله لم يكن من قبيل المصادفة أنه فيما كان العالم منشغلاً بمتابعة قضية مصرع بريغوجين، حضر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين احتفالات بذكرى الانتصار في معركة كورسك (5 يوليو/تموز 1943 ـ 23 أغسطس 1943)، التي غيّرت مجرى الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945).
وعلى أنغام الموسيقى العسكرية في المقاطعة الحدودية مع أوكرانيا، بدا "سيد الكرملين" مرتاحاً وواثقاً من انتصار بلاده على "النازية الجديدة"، رغم أن الحرب التي بدأها من سنة ونصف السنة بالتمام والكمال لم تحقق له ما أراده، وباتت كورسك ونوفغورود وبريانسك وجميع المقاطعات الروسية الحدودية عرضة لهجمات متزايدة من أوكرانيا، ووصلت مسيرات كييف إلى قباب الكرملين في مايو/ أيار الماضي وازدادت وتيرة استهداف قلب العاصمة في إطار محاولات الجيش الأوكراني نقل المعركة إلى الداخل الروسي.
وفي حين أراد بوتين إبعاد حلف شمال الأطلسي وعدم تعرض موسكو لصواريخ من خاركيف وكييف، باتت موسكو وسان بطرسبرغ عرضة لصواريخ من اتجاهات عدة، بعد انضمام فنلندا إلى الأطلسي.
في مقابل ذلك، لا تزال مجموعة من أنصار بريغوجين مقتنعة بأنه لم يمت وأنه سيعاود الظهور في مكان آخر في التوقيت الذي يريده، وأن شبيه بريغوجين هو من قضى في الحادث، لأنه من الصعب تخيل أن بريغوجين بماضيه ومعرفته ببوتين والأجهزة الأمنية الروسية لم يتخذ إجراءات حماية كافية لضمان حياته، خصوصاً بعد تمرده الفاشل الذي هز أركان الحكم في روسيا، وأخرج خلافات النخبة الحاكمة للعلن في حالة نادرة.
ويستشهد أصحاب هذه الفرضية بأن الأنباء عن مقتل بريغوجين ترددت مرتين سابقاً، ففي العام الماضي أعلنت عدة مواقع عن مصرع بريغوجين في منطقة بوباسنايا لوغانسك في أوكرانيا، وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2019 ترددت أنباء أن بريغوجين كان على متن طائرة تحطمت في الكونغو الديمقراطية.
في كل الأحوال، يرى كثيرون أن أيام بريغوجين كانت معدودة بعد تمرده الفاشل، وأنه وضع حداً لحياته السياسية كوكيل للكرملين عندما قرر شق عصا الطاعة في يونيو الماضي.
سيناريوهات ما بعد مقتل بريغوجين
السؤال الأهم الذي يطرح نفسه بقوة بعد مقتل زعيم مجموعة "فاغنر" يفغيني بريغوجين ومؤسس المجموعة الجنرال ديمتري أوتكين، ماذا سيكون رد "فاغنر"؟.
صدرت تحذيرات من أن المجموعة ستنتقم لمقتل الرجلين، وعززت تلك التحذيرات رسالة نشرت على قنوات "تليغرام" المقربة من المجموعة بعد ساعات من إعلان مقتل بريغوجين، جاء فيها: "لقد مات يفغيني بريغوجين زعيم فاغنر، بطل قومي وقومي حقيقي، لقد مات بريغوجين بسبب تصرفات الخونة الروس".
المدون العسكري الروسي رومان سابونكوف، قال في رسالة على "تليغرام": "إن اغتيال بريغوجين ستكون له عواقب وخيمة، أولئك الذين أصدروا الأوامر لا يفهمون إطلاقاً الحالة المزاجية والروح المعنوية لجماعة فاغنر".
أنطوان غيراشنكو مستشار الحكومة الأوكرانية كتب على منصة "إكس" (تويتر سابقاً): "ستنتقم فاغنر من بوتين و(وزير الدفاع الروسي سيرغي) شويغو لمقتل زعيمها". وأضاف: "غرف الدردشة على قنوات بريغوجين مليئة بدعوات الانتقام".
لا تزال مجموعة من أنصار بريغوجين مقتنعة بأنه لم يمت
لكن سيرغي ماركوف، المستشار السابق لبوتين، ألقى بالمسؤولية على المخابرات الأوكرانية وكتبب على "تليغرام": "بالنسبة لبوتين أو (وزير الدفاع سيرغي شويغو) لم يعد يمثل بريغوجين مشكلة... القادة الكبار لا ينتقمون، لأن لديهم الكثير من المشاكل الحقيقية والأعداء الحقيقيين".
إلا أن تقدير الموقف الذي يمكن أن تتخذه قيادة مجموعة "فاغنر" بعد اغتيال زعيمها بريغوجين ومؤسسها أوتكين، يتطلب تفكيك مجموعة من الألغاز لعل أهمها: هل يمكن تصور أن بريغوجين وأوتكين تعاملا بسذاجة أو استهتار مع الإجراءات الأمنية الخاصة بهما؟ وفي الوقت نفسه إذا ثبت أن بوتين كان وراء عملية الاغتيال، فهل سيكون من الخطأ أيضاً الاعتقاد بأنه لم يقم بوضع ترتيبات تضمن إبقاء ردود فعل مجموعة "فاغنر" تحت السيطرة؟
وبدا واضحا في الشهرين الماضيين أن تركيز الكرملين انصب على وضع قيادة جديدة لمجموعة "فاغنر"، وتم تداول العديد من الأسماء لخلافة بريغوجين، أبرزها أندري تروشيف الرئيس التنفيذي لـ"فاغنر" الملقب بـ"ذو الشعر الرمادي" (سيدوي)، وهو عقيد سابق في الجيش الروسي، ويوصف بأنه ينفذ الأوامر من دون اعتراض، مما يجعل منه الخيار الأفضل لبوتين.
وسبق أن قال بوتين في 13 يوليو الماضي إنه عرض على مقاتلي "فاغنر" أثناء اجتماعه مع 35 من قادتهم في الكرملين في 29 يونيو الماضي، أن يواصلوا القتال في أوكرانيا تحت قيادة "سيدوي"، الذي تقتصر المعلومات المتوفرة عنه على أنه عقيد متقاعد في الشرطة، وأنه من مواليد 5 إبريل/نيسان 1961 في مدينة لينينغراد (سان بطرسبرغ حالياً، وهي مسقط رأس كل من بوتين وبريغوجين أيضاً).
كما حاز على لقب "بطل روسيا" في عام 2016 نتيجة جهوده في "تحرير" مدينة تدمر السورية من "داعش". وشارك في العمليات العسكرية في الشيشان (تسعينيات القرن الماضي) وأفغانستان (1979 ـ 1989) منذ فترة طويلة في صفوف القوات المسلحة والهياكل القريبة من الكرملين.
وتخرج من مدرسة قيادة المدفعية العليا في سان بطرسبرغ. بعد حرب أفغانستان، حصل على وسام "النجمة الحمراء" مرتين. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي (1991)، واصل الخدمة، بما في ذلك في شمال القوقاز. خدم "سيدوي" في قوات مكافحة الشغب الخاصة وفي قوات التدخل السريع في المقاطعة الفيدرالية الشمالية الغربية. وشغل منصب المدير التنفيذي لمجموعة "فاغنر"، ووقع على كثير من عقود تنسيب مقاتلي المجموعة.
وحسب تقرير لموقع "فاناتكا" الروسي، فقد تم العثور على وثائق كثيرة لدى "سيدوي" وعدة مليارات من الروبلات وآلاف الدولارات بعد إدخاله إلى مستشفى في سان بطرسبرغ في يونيو 2017 بسبب تسمم كحولي. ومن ضمن الوثائق قوائم بأسلحة "فاغنر" وخرائط لسورية.
وبعد إعلان سقوط طائرة بريغوجين تم تداول أنباء على نطاق واسع بأن قيادة "فاغنر" تعقد اجتماعاً استثنائياً، وأنها ستعلن بعد الاجتماع بياناً، لكن نفت مصادر في القيادة لاحقاً عقد الاجتماع ولم يصدر أي بيان عنها.
البعض لا يستبعدون أن يكون الاجتماع قد جرى فعلاً، لكن المجتمعين لم يتفقوا على صيغة للموقف الذي يجب أن يصدر عنهم، لوجود خلافات، ولا شك في أن حسم مسألة خلافة بريغوجين ستحدد بدرجة كبيرة الموقف الذي سيصدر عن قيادة "فاغنر"، فإذا استطاع الكرملين بالفعل فرض تروشيف زعيماً جديداً للمجموعة، فمن شبه المؤكد أن موقف المجموعة سيكون تحت السقف الذي يحدده الكرملين.
تم تداول العديد من الأسماء لخلافة بريغوجين، أبرزها أندري تروشيف
ومن الواضح أنه بعد التمرد الذي قاده بريغوجين في يونيو الماضي لم يعد مقبولاً وجود أي دور لـ"فاغنر" على الأراضي الروسية، ولم يعد أيضاً مطلوباً وجود دور لـ"فاغنر" في الحرب الروسية على أوكرانيا كمجموعة، فالصفقة التي أنهت التمرد، تتضمن تخيير مقاتلي "فاغنر" بتوقيع عقود مع وزارة الدفاع الروسية أو العودة إلى قواعدهم أو الالتحاق بالتشكيلات التي غادرت إلى بيلاروسيا.
وفي ضوء الوقائع على جبهات القتال منذ مطلع الصيف الحالي، فإن الجهد الرئيسي منصب على القوات النظامية التي تدافع عن مواقعها في أوكرانيا، ومع اقتراب فصل الخريف تتجه العمليات العسكرية نحو التباطؤ أكثر فأكثر، مما سيخرج "فاغنر" من المعادلة لانتفاء الطلب عليها.
انتهاء دور "فاغنر" في روسيا وأوكرانيا
بانتهاء دور "فاغنر" عملياً في الداخل الروسي، وعلى جبهات القتال في أوكرانيا، فإن الخطوة المقبلة المتوقعة هي إعادة هيكلة المجموعة، تبعاً للمهمات التي ستحتفظ بها، والتي ستُحصر بالمهمات الخارجية، في القارة الأفريقية بشكل أساسي، على أن تبقى تحت رقابة صارمة من الكرملين.
ويُحسب لبريغوجين تمكنه من بناء مؤسسة قوية تدين له بالولاء التام، وتنفذ الأوامر من دون مواربة، وبنى سمعة لشركته في القارة الأفريقية في وقت قياسي.
كما أن بريغوجين نسج شبكة علاقات مهمة مع قيادات القارة الأفريقية، مما يعني أنه سيكون أمام الكرملين والخارجية والجيش الروسي مهمة إقناع "الشركاء" الأفارقة بأن "فاغنر"، أو طرفا آخر، سينجز ذات الخدمات والمهمات التي قدمها بريغوجين في السنوات الأخيرة.
وربما تكون زيارة يونس بك يفكروف نائب وزير الدفاع الروسي إلى بنغازي الليبية منذ أيام، ولقاءاته مع اللواء المتقاعد خليفة حفتر وقيادات مليشياته بداية لعرض خطط موسكو الجديدة لاستبدال بريغوجين وهياكله بشخصيات وهياكل جديدة.
وبالإضافة إلى مصير "فاغنر"، تبقى الأسئلة مفتوحة حول عمل الإمبراطورية الإعلامية الضخمة التي تركها بريغوجين، ومؤسسات البحوث المتعلقة بأفريقيا والعالم، ومؤسسات الاستشارة لإدارة الحملات الإعلامية والانتخابية، وكذلك الجيش الكبير من "القراصنة"، والمعلقين على وسائل التواصل الاجتماعي، الذين اتُهموا بالتدخل لمصلحة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، في رئاسيات 2016.