يعرض رئيس نقابة القضاة في الجزائر، القاضي يسعد مبروك، في حوار مع "العربي الجديد"، موقف النقابة من مسودة الدستور الجديد المعروض للاستفتاء الشعبي في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، شارحاً قرار النقابة بتأييد هذا الدستور، على الرغم من تسجيله جملةً من التحفظات عليه. ويتعهد مبروك في حواره، بأن القضاة لن يكونوا في خدمة أيّ طرف في المرحلة المقبلة، مشيراً إلى أن الانقسام الذي حصل داخل الحراك الشعبي بين أنصار المسار الدستوري ودعاة المسار التأسيسي بلغ حدود التطرف، وحال دون توفير مناخٍ لحوار سياسي هادئ في البلاد.
*لماذا انتهت قراءتكم إلى دعم مسودة الدستور؟ ما هي القيمة التي يضيفها لاستقلالية العدالة وللقضاة وحصانتهم؟
تضمنت مسودة الدستور أحكاماً مشجعة في باب القضاء، على الرغم من عدم ملامستها السقف المأمول من نقابة القضاة ومجموع المهتمين بالشأن القضائي. لكن، وبالنظر إلى السياق العام الذي تمّت فيه صياغة المسودة وإثراؤها، فإننا قدّرنا تثمين الجانب الإيجابي فيها، لأن معركة الاستقلالية شاقة ومعقدة في ظلّ منظومة مصالح وعصب متناقضة، ما دفعنا إلى تبني منطق المطالبة والمغالبة بحسب هامش الحركة المتاح، وحجم الاستعداد للتضحية لدى كل الفاعلين المهتمين بالشأن القضائي.
اقترحت النقابة أن يكون رئيس المجلس الأعلى للقضاء قاضياً منتخباً من القضاة، لكنها لم تنجح
نعتقد أن تركيبة المجلس الأعلى للقضاء المقترحة، والتنصيص في الدستور على أنه الضامن لاستقلالية القضاء بدلاً من رئيس الجمهورية، يعتبران تطوراً غير مسبوق، قد يشكل لبنة حقيقية في طريق الفصل بين السلطات. كما أن فسح المجال للقضاة بإخطار المجلس الأعلى للقضاء بأي مساس باستقلاليتهم بصورة مباشرة، من شأنه فضح التجاوزات والضغوط المسكوت عنها من قبل، بسبب غياب آلية الإخطار أو الخوف من تبعات التبليغ.
* كان لديكم مطلب أساسي بالفصل النهائي للسلطة القضائية عن السلطة التنفيذية في علاقة بوجود رئيس الجمهورية رئيساً للمجلس الأعلى للقضاء، لكن هذا المطلب لم تتم تلبيته؟
وجود رئيس الجمهورية على رأس المجلس الأعلى للقضاء كان محل تجاذب، والنقابة الوطنية للقضاة اقترحت أن يكون رئيس المجلس الأعلى للقضاء قاضياً منتخباً من عموم القضاة، غير أننا لم نفلح في تكريس هذا المسعى. لكن إبعاد وزير العدل من تركيبة المجلس يعد في ذاته إنجازاً، لأنه كان المهيمن على عمل وأداء المجلس، وأعتقد أن رئيس الجمهورية سيكتفي بالرئاسة البروتوكولية للمجلس الأعلى للقضاء، لأن الرئاسة الفعلية ستؤول للرئيس الأول للمحكمة العليا.
* لكن ما الفرق بين وجود وزير العدل رئيساً بالنيابة للمجلس الأعلى للقضاء، ووجود رئيس المحكمة العليا، إذا كان كلاهما معيناً من الرئيس؟
صحيح أن كليهما معين، وهذا واقع لا يمكن القفز عنه، غير أن الفرق يكمن في أن رئيس المحكمة العليا يبقى قاضياً في كل الأحوال، وهي الصفة التي قد يفتقدها الوزير، الذي عادة ما يرتدي ثوب السلطة التنفيذية حتى لو كان قاضياً في الأصل. ويبقى المأمول ألا ينسلخ القضاة عن أصلهم الوظيفي بمجرد تولي مهام أخرى.
* بغض النظر عن الموقف العام من الدستور، ما هي التحفظات التي سجلتها نقابة القضاة على المسودة، سواءً في علاقة بالقضاء أو بالمجال العام؟
نقابة القضاة تنظيم مهني يعنى بالقضاة والقضاء، تحاول بتركيبتها الجديدة تصحيح المسار النمطي السابق، وقد سبق لي القول إنها ليست لجنة مساندة لأحد، كما أنها ليست جبهة معارضة لأي كان، ورأسمالها هو هامش استقلاليتها. وفي هذا السياق، ثمّنت النقابة ما هو إيجابي في مسودة الدستور، غير أنها سجّلت تحفظات تتعلق بتغليب آلية التعيين بدلاً من الانتخاب في العديد من المؤسسات الدستورية. كما أن تركيز الكثير من الصلاحيات بيد رئيس الجمهورية قد يؤسس لحكمٍ فردي، بينما ينادي الجميع بضرورة تفاديه وتفادي كل ما يمكن أن يؤدي إليه، ذلك لأن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة مهما كانت النوايا. في باب القضاء، كنا نأمل أن تكون تركيبة المجلس الأعلى للقضاء من القضاة وبعض المتخصصين فقط، مع اعتماد آلية الانتخاب في تعيين أعضائه ورئيسه تكريساً لفصل حقيقي بين السلطات، ولكن لم تجر الأمور وفق ما ابتغيناه، ولم يكن بالإمكان أفضل مما كان.
تخشى النقابة من تركيز الكثير من الصلاحيات بيد رئيس الجمهورية ما قد يؤسس لحكمٍ فردي
* برأيكم هذا الدستور، هل يمكن أن يمثل تطوراً، أو على الأقل مرحلة انتقالية في الفصل بين السلطات وتعزيز الحريات، على أن يخضع للتطوير مستقبلاً؟
كان المأمول أن ينسجم مشروع الدستور مع تطلعات الجزائريين في حراكهم التاريخي، ويحقق لهم رغبتهم في تأسيس دولة المؤسسات المبنية على الجدارة والاستحقاق والشفافية التامة، غير أن الظرف الصحي الطارئ، وحالة الانقسام التي حصلت لدى الرأي العام، بين خيار المسارين الدستوري أو التأسيسي، أفرزت حدّية قاسية، بلغت حدود التطرف والغلو، ما حال دون فتح نقاش هادئ وعقلاني يسمح بإخراج قانون أساسي يليق ببلدٍ كالجزائر. وكما يقال ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه، ولعل النسق السياسي والتفاعلي سيشهد تطوراً في الأفق المنظور، بما يسمح من ترقية ما هو إيجابي في مشروع الدستور، وتطويره نحو الأفضل بصورة توافقية، بعيداً عن الاتهامات والتخوين والأيديولوجيات المتطرفة.
* هناك الكثير من المخاوف المعلنة من قبل القوى السياسية والمدنية الرافضة للدستور، خصوصاً في مجال تقييد الحريات بالإحالة على القوانين، هل لهذه المخاوف ما يبرّرها؟
قد تكون هذه المخاوف مشروعة إذا ما تمّت الإحالة بشأن موضوع الحقوق والحريات للتنظيم (على القوانين لاحقاً)، بحكم أن الجهاز التنفيذي هو من يتولى صياغتها. أما إذا تولى برلمان منتخب بصورة ديمقراطية شفافة ومعبر عن رغبة الشعب صياغتها ومناقشتها، فإنه سيكون في غاية الحرص على وضع نصوص تؤسس لحماية الحقوق والحريات الدستورية. وعليه فالمعركة المفصلية هي القوانين العضوية والآليات التي ستكرسها، وحينها ستتضح الصورة وتنكشف النوايا بصورة جلية.
* الكثير من مكونات الحراك تتهم القضاة بأنهم تخلوا سريعاً عن معركة الحريات، وعادوا إلى خدمة السلطة بفعل الأحكام القاسية على الناشطين، ما صحة هذه الاتهامات؟
هناك معضلة أخلاقية وقانونية يعاني منها القضاة، ويسيء فهمها جزءٌ مهم من الرأي العام، ذلك أن القضاة جزء من السلطة في نصّ الدستور، ويصدرون أحكامهم باسم الشعب باعتباره صاحب السلطة. وفي مناسبات عديدة يجد القاضي نفسه بين مطرقة القانون المجرد وسندان الواقع المؤلم، وعليه أن يفصل بتجرد وحياد بعيداً عن السلطوية والشعبوية معاً. وبسبب هذا، فالقضاة متهمون دوماً من السلطة أحياناً، ومن فاعلين آخرين مهما كانت نتيجة أحكامهم. القاضي يحاول دوماً أن يكون في خدمة الحقيقة كما يقررها القانون نصّاً وروحاً، وحماية الحريات وصون الحقوق من صميم مسؤولياته القانونية والأخلاقية، والقول إن القضاة في خدمة السلطة فيه بعض التجني، لأن كل حكم بالإدانة حتى لو كان مؤسساً، يفسر بأنه انحياز للسلطة. في المقابل، فإن أحكام البراءة على كثرتها لا تحظى بنفس الضجيج والصخب. ما أفرزه الحراك من قضايا بيّن وجود اختلاف بين القضاة في معالجتها، وصلت في مناسبات إلى حد التناقض بين الأحكام، وهو مؤشر على وجود هامش استقلالية معتبر. وفي العديد من المرّات، يكون العيب في مؤدى النص أو في طريقة تفسير القاضي له، ولا يرتبط الموضوع بخدمة السلطة أو تبني حلٍّ منحاز.
* لفترة ظلّت علاقة النقابة مع وزير العدل (بلقاسم زغماتي) متشنجة لمبررات كثيرة، وطالبتم رئيس الجمهورية (عبد المجيد تبون) بالتدخل لوقف الضغوط. هل طرأ تطور في العلاقة؟ ولماذا لم يرد الرئيس على رسائلكم؟
نقابة القضاة الحالية جاءت خارج الأطر المعتادة، لأن هيكلتها تمّت في عز الحراك، ووفقاً لرغبة وإرادة القضاة بعيداً عن أي وصاية، ولذلك كانت علاقتها بوزارة العدل متوترة منذ البداية، لأن الهيكل البيروقراطي للوزارة ألف التعامل بمنطق الإملاء وتعذر ذلك عليه مع النقابة الجديدة، ما أدى إلى حالة تصادم حادة في مناسبات عدة. غير أن الأمر تحسن نسبياً في الفترة الأخيرة، ونأمل أن يكون الحوار أسلوبا مستديما لحلحلة مشاكل القضاة والقضاء. أما مصالح رئاسة الجمهورية، فقد استجابت لرسائل النقابة، وكانت لي لقاءات مع مستشاري رئيس الجمهورية، كما أن لقاء جمع بين الوزير والأمين العام لوزارة العدل من جهة ورئيس النقابة الوطنية للقضاة وثلاثة أعضاء من المكتب التنفيذي للنقابة يوم الثامن من أغسطس/ آب الماضي لمناقشة انشغالات القضاة، وتم بتحرير محضر مشترك بهذا الاجتماع.