في كلمة متلفزة، فجر 24 فبراير/ شباط الماضي، أطلّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين معلناً عن "عملية عسكرية" في إقليم دونباس، شرقي أوكرانيا، معتبراً يومها أن "المواجهة بين روسيا والقوى القومية في أوكرانيا لا مفر منها"، قبل أن يشير إلى أن "روسيا لا تخطط لاحتلال الأراضي الأوكرانية".
ويومها أيضاً كانت التوقعات، وكثير منها روسي، تشير إلى أن "العمليات العسكرية" قد تنتهي في 9 مايو/ أيار الماضي تزامناً مع "عيد النصر" الروسي (ذكرى هزيمة النازية الألمانية في نهاية الحرب العالمية الثانية 1939 ـ 1945).
لكن مع انطلاق العملية بدا واضحاً أن أهداف الكرملين أبعد بكثير من الإقليم، خصوصاً أن القصف الروسي سرعان ما تمدد ليطاول العاصمة الأوكرانية كييف وباقي المدن الرئيسية.
وفي موازاة ذلك، ظهر جلياً أن أياً من أهداف أو تقديرات الكرملين لم تكن صائبة. واليوم بعد مرور نصف عام على الحرب، حصلت روسيا على نتائج عكسية من غزوها لأوكرانيا، على الرغم من خسارة الأخيرة لنحو 20 في المائة من أراضيها.
ومع فشل التقديرات الروسية بكسب حرب سريعة عبر السيطرة على العاصمة كييف وإزاحة الرئيس فولوديمير زيلينسكي عن سدة الحكم بعملية دقيقة خاطفة، استطاع الأخير قلب المعادلات وتغيير المواقف الأوروبية والأميركية نحو دعم بلاده بشكل متزايد سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، في مقابل عزلة سياسية واقتصادية لموسكو.
وتدحرجت الأوضاع إلى مواجهة كبرى، ساحتها أوكرانيا، بين روسيا الساعية إلى تثبيت معادلات عالمية جديدة تكون طرفاً أساسياً فيها، بعد عقود من التهميش الغربي والنظر إليها كطرف خاسر في الحرب الباردة (1947 ـ 1991)، وبين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول أخرى دفعتها الحرب الروسية إلى التقارب مرة أخرى، رفضاً لمحاولات تغيير الخريطة السياسية في العالم وفق أهواء ورغبات صنّاع القرار في موسكو.
كشفت الإخفاقات التي لحقت بالجيش الروسي أن القدرات العسكرية الروسية مبالغ فيها بشكل كبير
وعلى الرغم من تأكيد القيادات السياسية والعسكرية الروسية أن "العملية العسكرية الخاصة" تسير وفق المخطط، كشفت وقائع الأشهر الستة الأخيرة عن تغيّرات جذرية في تكتيكات الجيش الروسي.
كما أظهرت تقلّبات في جبهات القتال الأساسية، عبر تراجع التركيز على العاصمة كييف، مع تكثيف العمل على شرق أوكرانيا وجنوبها، من دون تحقيق الهدف الأساسي الأول للحرب وهو "حماية إقليم دونباس".
وبعد معارك طاحنة استطاعت روسيا والانفصاليون الأوكرانيون السيطرة على لوغانسك ولكن الجبهات في دونيتسك تشهد حالة جمود منذ نهاية يونيو/ حزيران الماضي، مع نجاح الجيش الأوكراني في منع سقوط مدن باخموت وسلافيانسك وكراماتورسك، والاحتفاظ بنحو 40 في المائة من مساحة إقليم دونيتسك بحدوده الإدارية في عام 2014.
ومنذ شهر مايو الماضي، بات واضحاً أن "العملية الخاصة" تحولت إلى حرب استنزاف عسكرية وسياسية واقتصادية بين روسيا و"الغرب الجماعي"، مع مؤشرات عدة تفيد بأن كل ما حصل طوال نصف عام لا يعدو كونه مقدمة لمعارك "كسر عظم" تحدد نهايتها ملامح عالم مختلف جذرياً عما كانت عليه الأوضاع قبل 24 فبراير الماضي.
حسابات خاطئة ونتائج عكسية
عسكرياً، كشفت الإخفاقات التي لحقت بالجيش الروسي في المرحلة الأولى من الحرب، والجمود منذ شهرين في إطار المرحلة الثانية، وبروز مكامن خلل كبيرة في المجالات اللوجستية والعملياتية، أن القدرات العسكرية الروسية مبالغ فيها بشكل كبير، كما أظهرت أن الجيش الروسي غير مستعد لخوض حرب شاملة وطويلة على الأرض، على الرغم من القدرات الهائلة التي تتمتع بها روسيا في مجال الصواريخ البالستية، ومن ضمنها الصواريخ فرط الصوتية التي تباهى بها الرئيس فلاديمير بوتين كثيراً.
كما كشفت الحرب عن ضعف في الأسلحة التقليدية، على الرغم من برامج التسليح الضخمة منذ الحرب الروسية على جورجيا في عام 2008، وأن خوض حرب حقيقية مع عدو يمتلك أسلحة يختلف تماماً عن "ميادين اختبار الأسلحة" في سورية منذ عام 2015.
وفي حين لا يمكن التأكد من مصدر محايد من حجم الخسائر الروسية في الأرواح، قال مساعد وزير الدفاع الأميركي لشؤون الأفراد كولين كال، خلال إحاطة إعلامية، في 8 أغسطس/ آب الحالي، إن "روسيا فقدت ما بين 70 إلى 80 ألف جندي منذ اندلاع الحرب"، وأوضح أن "هذا الرقم يشمل القتلى والجرحى".
كما كشفت الحرب عن تراجع الروح المعنوية عند الجنود، وعدم وجود قناعة بمحاربة الأوكرانيين، ما دفع القيادة الروسية إلى الاستعانة بالقوات الشيشانية، والحديث العلني عن مشاركة مرتزقة "فاغنر" في الحرب.
من جهة أخرى، أثبتت المقاومة العنيدة من قبل الأوكرانيين أن تأثير روسيا على الشارع الأوكراني والناطقين باللغة الروسية أقل بكثير مما كانت تروج له بروباغندا الكرملين.
وعلى الرغم من أن روسيا استطاعت السيطرة على ثلثي مقاطعة زابوريجيا، ومعظم أراضي خيرسون، ونحو ربع أراضي مقاطعة خاركيف، ما منحها السيطرة على جزء كبير من مناطق "نوفوروسيا" (التي دعا المفكر الروسي ألكسندر دوغين إلى تطبيقها) التي تضم أيضاً إقليم دونباس ومنطقة أوديسا، فإن حدود "العالم الروسي" ضاقت في أوكرانيا، وبات عدد أكبر من الأوكرانيين ينظرون إلى روسيا على أنها "طرف معادٍ"، ما أضعف القوة الناعمة الروسية عبر استخدام الكنيسة واللغة.
ومع أن روسيا سرّعت من إجراءات دمج المناطق المحتلة في أوكرانيا مع الأراضي الروسية عبر منح الجنسية، وتعيين قيادات عسكرية مدنية موالية لها، والانتقال إلى أنظمة الصحة والتعليم الروسية، وفرض لوحات السيارات وشهادات القيادة الروسية، والتعامل بالروبل، واستخدام الإنترنت وغيرها، لكن ذلك لا يستبعد احتمال حدوث حراك شعبي معارض، لا سيما في مناطق الجنوب.
ومن غير المستبعد أيضاً أن ينتقل إلى شبه جزيرة القرم، التي ضمّتها روسيا بالقوة في عام 2014، والمناطق الحدودية مع روسيا. وهنا يجب الإشارة إلى أن من أهم التداعيات السلبية للحرب أنها أعادت فتح ملف شبه جزيرة القرم على مصراعيه، بعد ثماني سنوات ظنّت خلالها موسكو أن الملف بات مغلقاً.
وبمتابعة مجريات الحرب بدا أن التقديرات الروسية بُنيت على أن الحرب على أوكرانيا ستكون قصيرة نسبياً، وستبقى في إطار إقليمي من دون تدخل الولايات المتحدة وأوروبا بشكل واسع.
والأرجح أن القيادات الروسية بنت تقديراتها على مستوى ردود الفعل حين استولت على شبه جزيرة القرم، وانطلقت من فرضية وجوب انتهاز فرصة الانسحاب الأميركي "الفوضوي" من أفغانستان في أغسطس 2021، والخلافات على طرفي الأطلسي بعد قرار إدارة الرئيس جو بايدن تعديل الانسحاب من دون التشاور مع الحلفاء في الأطلسي، ما سمح بعودة حكم "طالبان" بعد 20 عاماً من حرب كان هدفها أساساً الإطاحة بحكم التنظيم.
مسؤول دفاعي أميركي: روسيا فقدت ما بين 70 إلى 80 ألف جندي منذ اندلاع الحرب
وبعد مرور نصف عام على الحرب، حصلت روسيا على نتائج عكسية، فقد ساهمت الحرب على أوكرانيا في إخراج حلف الأطلسي من حالة "الموت السريري" التي عاشها خلال العقد الأخير، ووصلت إلى درجة تهدد بانهياره في فترة ولاية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
وشكّل تقديم السويد وفنلندا طلب العضوية للانضمام إلى الحلف أحد أبرز تداعيات الحرب على المستوى الاستراتيجي. وبعد أشهر من تقديم روسيا ورقة تطالب فيها بضمانات أمنية إلى الولايات المتحدة والأطلسي في منتصف ديسمبر/ كانون الأول الماضي، تحديداً الدعوة إلى تراجع الحلف إلى الحدود التي كان عليها قبل 1997 (أي حين كان الحلف يضمّ 19 بلداً بدلاً من 30 حالياً)، دفعت الحرب الروسية على أوكرانيا البلدين الاسكندنافيين إلى التخلي عن سياسة الحياد.
ورأت استوكهولم وهلسنكي أن الضمانة الوحيدة لأمنهما هي الانضمام إلى الأطلسي، وبهذا فإن استخدام روسيا قوتها العسكرية قدّم "قبلة الحياة" للحلف، وضخّ دماء جديدة في عروقه بإضافة نوعية في شمال أوروبا، ستسبب اختلالاً في ميزان القوى في منطقتي بحر البلطيق والمحيط المتجمد الشمالي لصالح حلف الأطلسي، مع تضاعف الحدود البرية بين روسيا والحلف إلى نحو 2600 كيلومتر.
ومع افتراض نجاح روسيا في السيطرة على المناطق الشرقية والجنوبية من أوكرانيا وصولاً إلى العاصمة كييف، لمنع تحول أوكرانيا إلى قاعدة للأطلسي لاستهداف روسيا بحسب الأهداف المعلنة للحرب، فإن جميع مناطق شمال غربي روسيا باتت مكشوفة أمام الحلف بعد انتهاء إجراءات انضمام فنلندا.
وباتت سانت بطرسبرغ، عاصمة الشمال الروسي، تحت مرمى صواريخ الأطلسي في حال موافقة فنلندا على نشرها على أراضيها. ومن المعلوم أن بوتين شدّد في العام الماضي على عدم جواز بناء قواعد للأطلسي ونشر صواريخ في أوكرانيا، لقدرتها على الوصول إلى موسكو في خمس دقائق، في حال أُطلقت من خاركيف أو كييف.
وبانضمام فنلندا والسويد إلى الأطلسي يتحول بحر البلطيق إلى بحيرة مغلقة للحلف مع جيبين صغيرين في مقاطعتي لينينغراد وكالينينغراد. وفي القطب الشمالي ستكون روسيا مضطرة إلى تعزيز وجودها العسكري وتخصيص موازنات ضخمة لهذه الغاية.
ومن التداعيات المهمة أيضاً أن الحرب خلقت بيئة جيوسياسية جديدة أعادت بقوة أجواء الحرب الباردة، وستطلق سباق تسلح بين الغرب وروسيا لن تكون محصلتها النهائية في صالح روسيا، فتجربة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والغرب أثبتت أن العامل الرئيسي في الانتصار يكمن في الاقتصاد القوي القادر على تحمل التكاليف الباهظة.
وفي هذا المجال تبدو روسيا الطرف الأضعف باقتصاد لا يتجاوز 2 في المائة من حجم الاقتصاد العالمي، واعتماده المفرط على موارد الطاقة، والأسوأ ربما هو التخلف التقني الذي سيتعمق مع العقوبات الغربية المفروضة على خلفية الحرب.
حرب مفتوحة
يذهب كثيرون إلى أن الحرب تحولت إلى حرب بين روسيا والغرب على الأراضي الأوكرانية، وربما باتت الحرب أقرب إلى حرب عالمية ثالثة مع ضوابط يحافظ عليها الطرفان الروسي والغربي حتى الآن، لمنع تحولها إلى مواجهات شاملة قد تستخدم فيها الأسلحة النووية.
وتزداد المخاوف من انفلات الأوضاع في ظل مواصلة دعم الولايات المتحدة وأوروبا لأوكرانيا من أجل حرمان روسيا من نصر استراتيجي يمكنها من تغيير الخريطة السياسية في أوروبا، وفرض معادلات جديدة للأمن. وهو ما يُنذر بحرب طويلة أشبه بعملية "عض أصابع" يستخدم فيها كل طرف كل إمكاناته السياسية والاقتصادية والعسكرية.
ومن المؤكد أن استمرار الحرب لأشهر مقبلة يزيد من حالة عدم اليقين بإمكانية أن تكسبها روسيا، خصوصاً أن الدول الغربية وضعت خططاً لزيادة إنتاجها من الأسلحة الحديثة المخصصة لأوكرانيا، وزيادة تدريب الأوكرانيين على استخدامها، وفقاً لخلاصة اجتماع عُقد في الشهر الحالي في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن، بحضور وزراء دفاع 26 بلداً. وهدف الاجتماع أيضاً إلى ضمان عدم حدوث نقص في مخزونات الأسلحة، والتعاون لتطوير أسلحة حديثة.
وتشي تصريحات المسؤولين من الطرفين الروسي والأوكراني بتضاؤل الفرص للوصول إلى تسوية سياسية في الأشهر المقبلة. فقد أغلقت الطريقة التي أدار فيها الكرملين الحرب سياسياً الباب على إمكانية أن تقطف روسيا ثماراً سياسية، من خلال فرض تسوية وفق الأهداف التي وضعتها بداية الحرب.
ومن ناحية أخرى، فإن الجانب الروسي لا يستطيع الدخول في مفاوضات جدية قبل تحقيق تقدم على الأرض، خصوصاً السيطرة على كامل إقليم دونباس، الهدف الأساسي للحرب الحالية.
وحتى الآن يبدو أن الأسلحة الغربية والإرادة الأوكرانية تمنع القوات الروسية من تحقيق هدفها. وفي مقابل تغيير روسيا "الأهداف الجغرافية" للعملية، فإن أوكرانيا باتت تطرح في الأيام الأخيرة موضوع العودة إلى حدود 1991، أي استعادة شبه جزيرة القرم.
باتت سانت بطرسبرغ، عاصمة الشمال الروسي، تحت مرمى صواريخ الأطلسي
والأرجح أن روسيا تراهن على أن قدرتها على الاستمرار في الحرب لعدة أشهر ستجبر البلدان الأوروبية على الضغط على زيلينسكي لتقديم تنازلات بهدف تجاوز أزمة الطاقة على أبواب الشتاء.
وفي المقابل، يراهن الجانب الأوكراني على أن صموده لعدة أشهر يعمّق الأزمة الاقتصادية في روسيا، ويدفع الغرب لزيادة المساعدات، في ظل بروز توجهات لدى فريق واسع من النخب والشعوب الأوروبية بأن فاتورة فوز روسيا والحرب وفرض شروطها على أوروبا أثقل بكثير من تحمّل فاتورة نقص إمدادات الطاقة وارتفاع أسعارها وزيادة التضخم وحتى الركود الاقتصادي.
عزلة سياسية
ومنذ الأيام الأولى للحرب، تواجه روسيا عزلة سياسية غير مسبوقة من قبل البلدان الغربية، التي استطاعت حشد مجموعة كبيرة خلفها لإدانة الغزو الروسي في الأمم المتحدة، وتعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان.
وفرض الغرب أكبر عقوبات على دولة في العصر الحديث، وباتت العقوبات على روسيا في غضون 6 أشهر أكبر بكثير من العقوبات المفروضة على كوبا أو إيران أو كوريا الشمالية أو فنزويلا.
كما خسرت روسيا حصيلة عملها لسنوات طويلة على بناء علاقات مع القوى اليمينية والشعبوية في البلدان الأوروبية، كأدوات للتأثير على المعادلات الأوروبية الداخلية، في ظل مزاج شعبي مرحّب باللاجئين الأوكرانيين، ومؤيد لدعم أوكرانيا سياسياً واقتصادياً وعسكرياً لوقف طموحات بوتين الجيواستراتيجية.
وفي ظل الحظر الغربي على تصدير التقنيات العالية إلى روسيا، فمن المؤكد أن الأخيرة ستواجه معضلة تعرّضت لها بعد الغزو السوفييتي لأفغانستان (1979 ـ 1989)، وهي التخلف التقني والتراجع الاقتصادي الذي كان سبباً في انهيار الاتحاد السوفييتي.
ولعلّ الأهم أن نقص بعض المكونات التقنية الغربية سيؤدي، بالإضافة إلى تراجع الإنتاج الصناعي، إلى تعطيل إنتاج بعض أنواع الأسلحة المتقدمة، ما يعني عدم قدرة روسيا على المدى المنظور تعويض ترسانتها من الأسلحة والصواريخ لمواصلة الحرب.
وعلى الرغم من تحرك الدبلوماسية الروسية المكثف في الأشهر الأخيرة، والحديث عن شركاء لروسيا في مساعيها لتشكيل نظام عالمي جديد يخفف من هيمنة الولايات المتحدة، بدا أن مراهنة روسيا على شراكات سياسية واقتصادية وعسكرية مع الهند والصين ودول أخرى مبالغ فيها كثيراً.
ومع تراجع إمدادات الغاز الروسية إلى أوروبا، خسرت روسيا الصورة التي حاولت رسمها في العقود الأخيرة، على أنها مصدر رئيسي وآمن للطاقة إلى دول الاتحاد الأوروبي، وخسارتها لهذه الميزة ستفقدها أهم أدوات التأثير في السياسات الأوروبية، وستخلق لها على المدى المتوسط مصاعب اقتصادية كبيرة، لأن طبيعة الاقتصاد الروسي ما زالت ريعية، ولا يمكن إعادة توجيه كامل صادرات النفط والغاز الروسيين شرقاً في غضون بضع سنوات.
وعلى الرغم من أن موسكو تراهن على تراجع الدعم الأوروبي لأوكرانيا بسبب المخاوف من نقص إمدادات الطاقة، غير أن الجانب الأوروبي اتخذ قراراً نهائياً بالاستغناء عن مصادر الطاقة الروسية على المديين المتوسط والبعيد، كما أن العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران ستقلب المعادلات الحالية في سوق الطاقة على حساب روسيا.
أثمان اقتصادية باهظة
ومع خيار الغرب عدم الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا، استخدمت الولايات المتحدة وشركاؤها الأوروبيون والعالميون ما يمكن وصفه بـ"أسلحة نووية"، عبر سلاح العقوبات الاقتصادية.
وبين ليلة وضحاها وجدت روسيا أنها غير قادرة على استخدام نصف مدخراتها من العملات الأجنبية، والتي عادة ما دأب بوتين ومساعدوه الاقتصاديون على وصفها بـ"وسادة الأمان" الحامية من تبعات أي أزمة اقتصادية قد تحدق بروسيا.
وتمّ تجميد أكثر من 300 مليار دولار من موجودات المصرف المركزي الروسي المودعة في المصارف الغربية، كما حُرمت المصارف الروسية من استخدام نظام "سويفت" للتحويلات، وجُمّدت حسابات الأوليغارشيين المؤيدين لحرب بوتين في أوروبا والولايات المتحدة.
أصدر المصرف المركزي الروسي توقعات متشائمة حيال اقتصاد البلاد
وسعت روسيا إلى استخدام سلاحي الطاقة والغذاء للتأثير على مواقف الاتحاد الأوروبي بشكل خاص، ولكن الأوروبيين واصلوا فرض العقوبات وأقروا سبع حزم منها، وقرروا الاستغناء عن النفط الروسي بحلول نهاية العام الحالي (باستثناء المجر وجمهورية التشيك). كما قلّل الأوروبيون من مشتريات الغاز الروسي، وكثفوا عمليات البحث عن مصادر أخرى من شمال أفريقيا وغربها، وبحر قزوين والولايات المتحدة وقطر وشرق المتوسط، في إطار سياسة للاستغناء التدريجي نهائياً عن الغاز الروسي.
واضطرت روسيا تحت ضغط عالمي إلى الاتفاق مع أوكرانيا برعاية الأمم المتحدة وتركيا، عبر التوقيع على اتفاق الحبوب في إسطنبول في 22 يوليو/ تموز الماضي، ما ساهم في تراجع حدة الغلاء والتضخم عالمياً.
وفي الأشهر الستة الماضية، وعلى الرغم من العقوبات الاقتصادية القاسية، استطاعت روسيا الاستمرار في تمويل حربها على أوكرانيا نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة، كما ساهمت السياسات النقدية للمصرف المركزي الروسي، والقيود على حركة رأس المال وشراء العملات الأجنبية، في تحسن كبير في أسعار صرف الروبل.
لكن مؤشرات ضعف الاقتصاد على المديين المتوسط والبعيد باتت واضحة. فقد خرجت أكثر من 1500 شركة عالمية من روسيا بعد الحرب، وسط توقعات بارتفاع نسبة البطالة في الخريف المقبل، كما تراجع الإنتاج الصناعي، فعلى سبيل المثال تراجع إنتاج السيارات بنحو 10 في المائة، واضطرت المصانع الروسية إلى العودة لإنتاج طُرُز قديمة من دون وسائد هوائية، كما أن الاقتصاد الروسي سيفقد كل النمو الذي حققه في السنوات العشر الأخيرة.
فوفقاً لأحدث توقعات المصرف المركزي الروسي في 12 أغسطس الحالي، فإن الاقتصاد الروسي سينكمش ما بين 4 و6 في المائة بحلول نهاية العام الحالي.
كما توقع المصرف نفسه أن يستمر انكماش الاقتصاد الروسي في العام المقبل ما بين 1 و4 في المائة. وبحسب أفضل السيناريوهات التي وضعها المركزي الروسي، فإن التضخم سيراوح بين 12 و15 في المائة في العام الحالي.
ولم يستبعد المركزي الروسي سيناريوهات أسوأ للاقتصاد الروسي في تقريره الأخير، معتبراً أنه بحسب سيناريو التضخم المصحوب بالركود العالمي، فإن متوسط سعر النفط الروسي سيتراجع في عامي 2023 و2024 إلى 35 دولاراً للبرميل.
وبالتالي تراجع الصادرات ما بين 26 و30 في المائة، مع تراجع في فائض الحساب الجاري إلى 39 مليار دولار في عام 2023، وما بين 3 و4 مليارات دولار في السنوات اللاحقة، ما ينعكس انخفاضاً كبيراً في قيمة الروبل في السنوات المقبلة، وبالتالي تراجع الدخل الحقيقي للمواطنين.