تشهد المرحلة المتبقية من عمر الفترة التمهيدية للانتخابات الليبية، انخراطاً أميركياً دفعت من خلاله واشنطن بثقلها في المجالين السياسي والأمني الليبي، مقابل ضبابية في الموقف الروسي، خصوصاً على الصعيد الأمني، فيما تبدو ليبيا متماهية بشكل كبير مع الخطوات الأميركية.
وشارك المبعوث الأميركي إلى ليبيا وسفيرها ريتشارد نورلاند في افتتاح الجلسات التشاورية بين ممثلي مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، في المغرب أمس الخميس، وحثهما على "الوصول إلى قاعدة قانونية متفق عليها ومقبولة للجميع من أجل أن تبدأ الحملة الانتخابية".
وقبلها، شارك نورلاند في لقاء قائد القوات العسكرية الأميركية بأفريقيا (أفريكوم) الجنرال ستيفان تاونساند، الذي زار طرابلس الثلاثاء الماضي، والتقى رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، ورئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة، كما شارك في جلسة افتتاح أول اجتماع للجنة العسكرية الليبية المشتركة 5 + 5 في العاصمة طرابلس، الذي اعتبرته السفارة الأميركية في ليبيا "خطوة تاريخية في التقريب بين الليبيين، ولا سيما في المجال الأمني"، مؤكدة أن بلادها ملتزمة بتسهيل التنفيذ الكامل لاتفاقية أكتوبر لوقف إطلاق النار، والانسحاب الكامل لجميع القوات الأجنبية والمقاتلين.
وأكد أعضاء لجنة 5 + 5، في بيان بعد انتهاء اجتماعها في طرابلس، أنهم ناقشوا آليات مغادرة القوات الأجنبية والمرتزقة، وإمكانية البدء في تطبيقها بحلول نهاية أكتوبر/تشرين الأول المقبل، كما أكدوا أنهم بحثوا مع الجانب الأميركي الآليات الملائمة لانسحاب القوات الأجنبية قبل إجراء الانتخابات في 24 ديسمبر/كانون الأول المقبل، في وقت كشفت فيه مصادر مقربة من اللجنة العسكرية لـ"العربي الجديد"، عن أن أعضاءها يستعدون لعقد اجتماع في جنيف، أيام الأحد والاثنين والثلاثاء المقبلة، مع مندوبي الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس النواب، لبحث مستجدات ملف القوات الأجنبية والمرتزقة في ليبيا والآليات المقترحة بشأن انسحابهم.
وتزامن الحراك الأميركي الأخير مع إعلان الكونغرس اعتماده قانون استقرار ليبيا، الذي ينص بعض مواده على فرض عقوبات على الأشخاص الذين يساهمون في العنف في ليبيا، وبشكل أوضح، فبعض نصوصه تستهدف بالعقوبات الأشخاص المتعاونين مع الوجود الروسي العسكري في ليبيا ومعاقبة أي مسؤول أو متواطئ في انتهاكات حقوق الإنسان أو سرقة أصول الدولة الليبية.
مقابل ذلك، تبدو المواقف الروسية ضبابية وغامضة، ففيما لا تزال موسكو تؤكد أهمية دور الأمم المتحدة في إحلال الاستقرار في ليبيا، بناءً على حلّ سياسي عبر البعثة الأممية في ليبيا، إلا أنها عرقلت إقرار مجلس الأمن مقترحاً بريطانياً لتجديد ولاية البعثة في ليبيا بهيكلية جديدة، حيث ترفض موسكو تقسيم المهام السياسية ومتابعة الشأن الأمني بين موظفين أممين في البعثة.
وأقر مجلس الأمن، ليل الخميس، بإجماع أعضائه، تمديد ولاية البعثة الأممية حتى 30 يناير/كانون المقبل بهيكلها الحالي، الذي يتولى فيه يان كوبيتش منصب المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة ورئاسة البعثة بكل مهامها السياسية والأمنية والإنسانية.
ويؤشر لضبابية الموقف الروسي في ليبيا، وتحديداً وجودها العسكري، تصريح وزير الخارجية سيرغي لافروف أخيراً، بشأن وجود مقاتلي شركة "فاغنر" الروسية في ليبيا بطلب من مجلس النواب الليبي، والذي قوبل برفض 48 نائباً، مؤكدين، في بيان مشترك الأربعاء الماضي، أنهم لم يطلبوا "الاستعانة بأي قوات أجنبية لا بشكل مباشر ولا غير مباشر"، مضيفين "لم نناقش ذلك تحت قبة البرلمان ولم نصوّت عليه".
كما لم تسفر القمة التي جمعت الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان عن أي نتائج واضحة، ما يشير إلى عدم حصول موسكو على ضمانات لمصالحها مقابل مغادرة قواتها لليبيا، وسط استمرار مطالبتها بضرورة خروج متوازي لجميع الأطراف العسكرية من ليبيا والمحافظة على التوازن العسكري.
وفي مقابل كل ذلك، يبدو أن ليبيا بدت مواقفها الأخيرة متماهية مع الخطوات الأميركية، إما بسبب وقوعها تحت الضغط الأميركي أو سعياً لاستثمار الموقف الأميركي لمصلحتها، فقد رجع رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي من نيويورك، بعد مشاركته في أعمال الدورة 76 للجمعية العامة للأمم المتحدة، مثقلاً بالمواقف الغربية، التي ترجمها بيانه الذي صدر قبل عودته لطرابلس، والذي يطالب فيه الحكومة بالاستمرار في أعمالها، ومجلس النواب بتحمّل مسؤولياته الوطنية والقانونية لإنجاز التشريعات المطلوبة لإتمام العملية الانتخابية، في أول موقف منه حيال قرار مجلس النواب سحب الثقة من الحكومة.
كما حملت تصريحات قبيل عودته لطرابلس بيوم، رسائل واضحة بشأن المعرقلين للعملية الانتخابية، من خلال قوله إنه "سيحث المرشحين في الانتخابات المقرر إجراؤها في ديسمبر على عدم المشاركة، ما لم يكن هناك توافق بينهم على الإطار القانوني للتصويت".
وفيما غادر المنفي بعد يومين من وصوله إلى طرابلس باتجاه ألمانيا، أمس الخميس، في زيارة تدوم ليومين، إلا أن اللافت في تحركات المنفي، الذي طفى لسطح المشهد فجأة كشخصية سياسية فاعلة، هو إعلانه عن تنظيم بلاده مؤتمراً دولياً، هذا الشهر، ويرى الباحث الليبي في الشأن السياسي إسماعيل الحر، أن عدم تحديد موعد المؤتمر بدقة يعكس أن الخطوة جاءت مفاجئة، وأن زيارة المنفي لألمانيا تهدف لحشد الدعم للمؤتمر، كما أنها تشير إلى رغبته في أن يسير المؤتمر وفق نتائج مؤتمري برلين الأول والثاني.
وفيما يرى الحر في حديث لـ"العربي الجديد" أن الموقف الأميركي بدا واضحاً في اتجاه تطبيق رؤيته التي تربط بين مصالحها وضرورة إجراء الانتخابات في ليبيا، يشير إلى أن زيارة المنفي إلى ألمانيا تهدف أيضاً لمحاولة حشد موقف أوروبي موحد، خصوصاً أن فرنسا تستعد هي الأخرى لاستضافة مؤتمر دولي حول ليبيا في 12 من نوفمبر المقبل.
ويلفت الحر إلى أن تركز المواقف الدولية يدور حول ملف التدخل العسكري المعروف بملف القوات الأجنبية والمرتزقة، وتحديداً حشد المواقف ضد الوجود الروسي ومحاولة تحجيمه، قائلاً إن "الانتخابات وتسوية الخلافات بين الأطراف الليبية وكل الخطوات، تهدف بالأساس لتحجيم الوجود الروسي الذي يسعى لاتخاذ ليبيا قاعدة انطلاق لفضاءات أفريقية أوسع"، مشيراً إلى أن الموقف الدولي الذي بدأ يتبلور بشكل واضح في ليبيا تراجعت خلاله حدة المواقف المنتقدة للوجود التركي، بعد أن أصبح الوجود العسكري الوحيد الذي يمكن أن يوازن الوجود الروسي، بل أصبحت أنقره المحاور الأول لموسكو في ليبيا.
لكن الناشطة السياسية الليبية مروة الفاخري، التي تقرّ بأن موسكو فقدت شركاءها بعد أن رأت مجلس النواب منقسماً على نفسه حيال شرعية وجودها في ليبيا، كما أن خليفة حفتر نزع بزته العسكرية وذهب للانتخابات، لا ترى تراجعاً أو ضعفاً في الموقف الروسي، والتحركات الأميركية بدعم أوروبي لا تعكس إلا مرحلة لمحاصرة التوغل الروسي في ليبيا والحدّ من توسعه فقط.
وتقول الفاخري لـ"العربي الجديد" إنه "يجب ألا ننسى أن موسكو لا تعوّل بالدرجة الأولى على حفتر ومجلس النواب، ولم تعترف بوجود عسكري رسمي لها في ليبيا"، مشيرة إلى أن سياساتها في دعم رموز النظام السابق لا تزال على حالها.
وتشرح الفاخري رأيها بأن "ممثلي النظام السابق لديهم قاعدة شعبية عريضة، وبالتالي فموسكو لديها أوراقها حتى في مرحلة الانتخابات"، مضيفة "ليس سيف الإسلام القذافي الوحيد بين رموز النظام السابق الذي يمكنه الدخول في الانتخابات أو عرقلتها، فلا ننسى أنهم عادوا إلى سدة الحكم فعلياً من خلال رئيس الحكومة الحالي عبد الحميد الدبيبة، الذي لم يخفِ انتماءه للنظام السابق، ويسعى بشكل واضح لعرقلة الانتخابات والبقاء لمدة أطول في سدة الحكم"، مشيرة إلى أنه عمل على إطلاق سراح شخصيات من النظام السابق، وألغى الحراسة القضائية على أموالهم في البنوك في الداخل والخارج.