نسف المربعات السكنية... أسلوب إسرائيلي لهندسة غزة جغرافياً وديمغرافياً

09 نوفمبر 2024
بين أنقاض مبان مدمرة في مخيم النصيرات، 2 نوفمبر2024 (معز صالحي/الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- استراتيجية الاحتلال في غزة: تكثيف عمليات نسف المربعات السكنية لتغيير الشكل الديمغرافي والجغرافي، مما يؤدي إلى نزوح نحو مليوني شخص.

- التأثيرات الجغرافية والديمغرافية: تركز النسف في شمال ووسط القطاع، مما يغير الطبيعة الجغرافية ويقلل التكدس السكاني في المناطق الشرقية باستخدام الأحزمة النارية.

- الأهداف السياسية والعسكرية: فرض واقع جديد يشبه الضفة الغربية، تدمير بنية المقاومة، وإعادة الاستيطان رغم التحديات الأمنية.

يكثف الاحتلال الإسرائيلي خلال الشهور الأخيرة من عمليات نسف المربعات السكنية في قطاع غزة، لا سيما خلال العمليات البرية التي تنفذها قواته المتوغلة في عدة مناطق، ما يحوّل الكثير من الأحياء السكنية والتجمعات إلى صحارى قاحلة وأكوام من الركام. ويستند الاحتلال الإسرائيلي في هذا الأسلوب العسكري إلى استراتيجية تقوم على نسف المربعات السكنية والتجمعات بهدف إعادة تحويل الشكل الديمغرافي والجغرافي للمنطقة بعد انتهاء الحرب الإسرائيلية المتواصلة للعام الثاني على التوالي، ومنع المقاومة من إعادة التجمع في نطاق جغرافي متقارب.

نسف المربعات السكنية

ويعمل الاحتلال على نسف المربعات السكنية وتدمير التكتلات السكانية، إما عبر القصف الجوي والمدفعي وتحويلها إلى كوَم من الركام، أو من خلال استغلال توغل قواته على الأرض وتفخيخ المنازل وتفجيرها في وقتٍ واحد، ما يغير الطبيعة الجغرافية للمنطقة ويجعل السكان غير قادرين على معرفة مناطقهم وشوارع أحيائهم. وتكررت عملية نسف المربعات السكنية في مناطق شمالي القطاع ومدينة غزة والمناطق الوسطى، تحديداً في مدينة الزهراء وأطراف مخيم النصيرات للاجئين الفلسطينيين والمغراقة، بالإضافة لمدينتي خانيونس ورفح جنوبي القطاع، حيث تبدلت الكثير من المناطق ولم يعد من السهل معرفة شوارعها بفعل التدمير الشديد لها.

ناجي شراب: الاحتلال يريد أن يتحكم في القطاع في مرحلة ما بعد الحرب

ويبدو أن الاحتلال معني بأن يغير التركيبة الديمغرافية للسكان بطريقة تجعل حالة التكدس السكاني في المناطق الشرقية والقريبة من الأطراف أقل مقارنة بالمناطق الغربية، وإعادة هندسة الطبيعة الجغرافية للقطاع ككل. ويتّبع الاحتلال الإسرائيلي منذ بداية الحرب في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، نهج التهجير وإجبار السكان على النزوح، إذ يُقدر عدد المهجرين الفلسطينيين بنحو مليوني مهجر، غالبيتهم من مناطق مدينة غزة وشمالي القطاع. وبالتوازي مع ذلك تستخدم القوات الإسرائيلية أسلوب الأحزمة النارية لإجبار السكان على التحرك نحو مناطق وسط وجنوب القطاع.

وتُظهر عشرات المقاطع المصورة المنشورة من قبل الجنود الإسرائيليين في صفحاتهم وحساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، لحظات نسف مربعات سكنية ومنازل ومساجد، وسط احتفالهم بهذه الأعمال، فيما لم يوقف الاحتلال الإسرائيلي لغاية الآن هذا الأسلوب، ما يعني أنه تكتيك عسكري متبع في العمليات العسكرية المتواصلة للعام الثاني على التوالي. ورغم أن عمليات النسف تطاول منشآت تعليمية مثل المدارس والجامعات إلا أنها لم تفرق بين هوية هذه المدارس، سواء حكومية أو خاصة أو حتى تابعة لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (أونروا)، علاوة على تفجير وتفخيخ فروع للجامعات الفلسطينية مثل جامعة الأزهر و"الإسراء" و"فلسطين" وبعض الكليات التابعة للجامعة الإسلامية.

محمد الأخرس: الاحتلال يسعى لفرض آلية قد يكون القائمون عليها جنودا أو مرتزقة

وبحسب التقديرات في غزة، فإنّ حصيلة تدمير الاحتلال للمباني والتجمعات السكنية تتراوح بين 65% و80%، ما بين دمار كلي وجزئي بليغ غير صالح للسكن، وجزئي يمكن إعادة ترميمه من جديد، ما يعني أن القطاع يحتاج لعشرات السنوات من أجل إعادة الإعمار والعودة لحالة ما قبل الحرب على غزة. ويُربط أحياناً بين عمليات النسف وبين عمليات تدمير بعض الأنفاق التابعة للمقاومة وتحديداً كتائب القسام، الذراع العسكرية لحركة حماس، إلا أن تتابع عمليات النسف وكثرتها يجعل الأمر غير مقتصر على هذا السيناريو فقط وإنما الذهاب نحو سيناريوهات مرتبطة بالتهجير والنزوح وتغييرات جغرافية وديمغرافية.

وتشهد مناطق الشمال في الأسابيع الأخيرة عمليات نسف مركبة تنفذها القوات الإسرائيلية التي تواصل عملياتها للشهر الثاني على التوالي وللمرة الثالثة توالياً في المنطقة، من خلال تفخيخ المنازل أو استهداف المربعات السكنية بالروبوتات المفخخة، ما يحدث دماراً هائلاً وخسائر بشرية ضخمة وسط استشهاد وإصابة المئات.

خطط لما بعد الحرب

يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأزهر بغزة، ناجي شراب، إن "عمليات النسف مرتبطة ببعدين أولهما إعادة بناء الحياة لاحقاً كما يريد الاحتلال الإسرائيلي، والأمر الثاني إطالة أي عملية إعادة إعمار مستقبلية تجعل فرصة اندلاع مواجهة مع غزة مستبعدة". ويضيف لـ"العربي الجديد"، أن "نسف المباني خصوصاً في القطاع المكتظ بسكانه ومبانيه المتلاصقة، قد يكون مرتبطا بعمليات تهجير مستقبلية بحق الفلسطينيين رغم استبعاد استقبال مصر لهم، بناء على موقفها الرافض للتهجير".

ويشير شراب إلى أن "واحدة من المشاكل الأساسية للاحتلال الإسرائيلي تتمثل في تلاصق المباني وقربها من غلاف غزة (مستوطنات حدودية مع القطاع)، وبالتالي لجأ إلى عمليات تدمير مثل بيت حانون التي تعرضت لعمليات تدمير شاملة، وبالتالي فإن الاحتلال يسعى لتحقيق هدف تدمير القطاع وتحويله لجسد ضعيف غير قابل للحياة". وبرأيه، فإن "الاحتلال يريد أن يتحكم في القطاع في مرحلة ما بعد الحرب كما فترة الحرب، عبر خلق واقع جديد يشبه إلى حد ما النموذج القائم في الضفة الغربية المحتلة وتنفيذ عمليات ضد المقاومة وقتما يشاء"، لافتاً إلى أن "الاحتلال يريد خلق نموذج معقد ومركب عبر ما يقوم به حالياً في القطاع، لا سيما أنه يسعى لإغلاق ملف القضية الفلسطينية والدولة الفلسطينية وهي أهداف بعيدة المدى، خصوصاً مع فشله في تحقيق أهدافه المباشرة المتعلقة بالقضاء على حركة حماس وملف الأسرى الإسرائيليين وغيرها".

بدوره، يقول الباحث في الشأن السياسي محمد الأخرس، إن الأسابيع الأخيرة من الحرب في غزة "دخلت في طور جديد مرتبط بتشكيل الملامح السياسية العامة لتوجهات الاحتلال حيال القطاع، وهو ما ظهر بصورة جلية في عمليات التطهير العرقي التي ينفذها في شمال القطاع، إذ لم تعد العمليات في إطار انتقامي وهجومي فقط، بل أخذت منحى فرض الحقائق السياسية استعداداً لجملة من السيناريوهات المرتبطة بإحداث تغيير جذري على الأرض". ويضيف لـ"العربي الجديد"، أن هذا الأمر ينعكس "سواء بالحديث عن خطة الجنرالات المتعلقة بتفريغ الشمال بصورة كاملة أو خطط الجيش التي تقوم على هندسة مجتمعية جديدة لمناطق جغرافية مُعقمة (خالية من المقاومة) وفق تعبيره (الجيش)".

ويرى الأخرس أن الاحتلال يعتقد أن الخطط التي سماها "الفقاعات الإنسانية" (مناطق إنسانية لتوزيع المساعدات) تقوم على فكرة خلق "غيتوهات" أو "مناطق محاطة بالأسوار يمكن التحكم بطبيعة السكان فيها"، موضحاً أن الاحتلال "يسعى عقب ذلك لإيجاد آليات سطوة وحكم جديدة قد يكون القائمون عليها جنودا أو مجموعات من المرتزقة سواء كانوا محليين أو أجانب يمكن التحكم بهم عبر الجيش (الإسرائيلي)".

ويشدّد على أن عمليات الهدم والتدمير "تأتي ضمن هذا السياق السياسي الذي يستهدف إحداث تغيير في بنية القطاع الاجتماعية والديمغرافية، مع ضرورة الإشارة إلى أن تيارات واسعة داخل اليمين الإسرائيلي تدفع بقوة نحو إعادة الاستيطان لمناطق محددة داخل القطاع". ويلفت إلى أن "ما يمنع أفكارهم من أن تتحول لبرامج عمل على الأرض هو المحاذير الأمنية وليس أي شيء آخر، فطالما أن المقاومة قادرة على جعل كلفة الاستيطان عالية من المنظور الأمني، لن يسمح المستوى العسكري والاستخباري للمستوطنين بتنفيذ مخططاتهم".