بعد أيام من التهديد والوعيد، بين مركبات الحكومة الإسرائيلية، التي طالب بعضها بميزانيات إضافية، تمكّن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من تخطي العثرات وإرضاء شركائه في الائتلاف، بمزيد من الميزانيات، ما يمهد له الطريق لضمان أغلبية في التصويت لإقرار الموازنة العامة الذي يبدأ مساء اليوم الثلاثاء، بعد انطلاق المناقشات في الهيئة العامة للكنيست، أمس الإثنين.
لكن نتنياهو الذي أخمد نار الخلافات المالية داخل الحكومة، أشعل فتيل أزمة أخرى في المجتمع الإسرائيلي، إذ تشعر شرائح واسعة فيه بأنّ اليهود المتزمتين دينياً "الحريديم" واليهود المتدينين القوميين (الحردليم) باتوا أصحاب اليد العليا في إسرائيل، وأنهم ينهبون المجتمع الإسرائيلي بدعم من نتنياهو، الذي لا يألو جهداً للحفاظ على حكومته وإطالة عمرها.
وكان نتنياهو يدرك ما يقوله عندما تعهّد في جلسة الحكومة الأسبوعية، التي عُقدت، يوم الأحد الماضي، في أنفاق البراق، بأنه سيتغلب على العقبات ويمرر الموازنة، متفاخراً بأنه مرّر عشرين ميزانية من قبل، مضيفاً: "دائماً ما تظهر نقاشات اللحظة الأخيرة وسوف نتغلّب عليها".
هذه الثقة لم تتأتَّ من فراغ، فنتنياهو يعرف شركاءه جيداً، ويدرك أنهم لن يتنازلوا عن واحدة من أكثر حكومات إسرائيل يمينية وتطرفاً، ولن يفرّطوا بالميزانيات التي حصلوا عليها حتى بدون الزيادة.
ومع هذا توصّل نتنياهو إلى حل وسط، عملًا بمبدأ السلامة، لتسوية الخلافات، مرضياً وزير الإسكان يتسحاق غولدكنوف رئيس حزب "أغودات يسرائيل"، أحد أحزاب كتلة "يهدوت هتوراة" بهبات إضافية لطلاب المعاهد الدينية بإجمالي 250 مليون شيكل (أكثر من 68 مليون دولار) وحزب "عوتسما يهوديت" (القوة اليهودية) بزعامة وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، بمبلغ إضافي بقيمة 250 مليون شيكل لوزارة النقب والجليل على ميزانيتها البالغة 450 مليوناً.
وستأتي هذه الأموال من فائض ميزانيات الوزارة الأخرى، وإن لم يكن كذلك فمن التقليصات التي ستطاول برامج قديمة في مختلف الوزارات في ما يُعرف بـ"التقليص الأفقي". وفي الحالتين، يدور الحديث عن مبالغ أقل من تلك التي كان يطالب بها الحزبان.
وفي حال لم تحدث مفاجآت، ويبدو أنها لن تحدث، فستمُر الموازنة العامة للعامين المقبلين، حتى مساء يوم غد الأربعاء، ما يمنح الحكومة الإسرائيلية نوعاً من الاستقرار في هذا الجانب على الأقل.
وتقف الموازنة الإسرائيلية عند 484 مليار شيكل (أكثر من 134 مليار دولار) لعام 2023، و514 مليار شيكل (نحو 143 مليار دولار) لعام 2024، تسيطر على جزء كبير منها أحزاب المتدينين على اختلاف فئاتهم، وتلاقي رفضاً من قبل شرائح واسعة في الشارع الإسرائيلي.
تدهور وتخلّف
وفي افتتاحياتها، اليوم الثلاثاء، حذرت صحيفة هآرتس من أنّ موازنة 2023- 2024 ستشكّل انعطافاً حادّاً في مسيرة إسرائيل، بحيث تقودها إلى "الهاوية" من "دولة متقدّمة وقادرة على منافسة الدول الرائدة في العالم إلى مسار التدهور والتخلف والفقر".
ورأت الصحيفة أنّ الموازنة الحالية تشمل اتفاقيات بين الكتل البرلمانية المشكّلة للحكومة، "لضخ مبالغ غير مسبوقة لأهداف تكبح النمو الاقتصادي" من بينها مضاعفة ميزانيات المدارس والمعاهد الدينية وطلابها ومدارس "الحريديم" التي لا تعلّم المواضيع الأساسية ومن ضمنها مواد علمية، ما يعني أنّ هذه المؤسسات تضمن لطلابها مستقبلاً بدون مهارات أساسية يحتاجونها في سوق العمل، وبالتالي يحكمون عليهم بحياة من الفقر منوطة بمخصصات الرفاه التي توفرها الدولة.
وينسجم موقف "هآرتس" مع رسالة وجّهها، أمس الإثنين، 120 من كبار خبراء الاقتصاد الإسرائيليين، محذرين من أنّ الميزانيات التي تنص عليها الاتفاقيات الائتلافية "ستكون لها إسقاطات طويلة المدى، على إسرائيل كلها وعلى مستقبلها". وحذر الخبراء من أنّ هذه الأموال ستعزز ارتباط الفرد بالمخصصات التي توفّرها الدولة بدل حثهم على الاستقلالية، وأنّ "دولة إسرائيل لن تتمكّن من البقاء ضمن الاقتصادات المتقدّمة في العالم".
مصاصو دماء وقنابل موقوتة
من شأن الميزانية الحالية التي تسعى الحكومة الإسرائيلية إلى إقرارها، صب المزيد من الزيت على نار الغضب المتصاعدة من قبل التيارات العلمانية والليبرالية ومختلف الشرائح غير المتديّنة، تجاه المتدينين والمتدينين القوميين.
ويوم الجمعة الماضي، أثارت مقدّمة البرامج في القناة "12"، غاليت غوتمان، جلبة كبيرة، في إطار الحديث عن الحكومة وتوزيع الميزانيات والتظاهرات، عندما قالت إنّ "الحريديم يمصون دماءنا" (في إشارة إلى غير المتدينين).
ولا تبدو غوتمان، التي لاقت أقوالها غضباً واسعاً وحيدة، ففي التظاهرات الاحتجاجية التي شهدتها تل أبيب ومناطق أخرى، رفضاً للتعديلات القضائية التي تقودها حكومة نتنياهو، رفع المتظاهرون شعارات مناهضة للمتدينين اليهود. وردد المتظاهرون هتافات ضد التعديلات القضائية، وغلاء المعيشة، وحصة أحزاب "الحريديم" من الميزانية، وبرز ذلك من خلال الشعارات المرفوعة في التظاهرة، على سبيل "أغبياء، نخدم في الجيش وقوات الاحتياط وندفع الضرائب والحريديم يسخرون منا".
وفي إشارة أخرى إلى الشرخ الإسرائيلي الداخلي، حمل مقال الكاتب والناقد روجغيل ألبير، في عدد صحيفة هآرتس، أمس الإثنين، عنوان "2065: القنبلة الذرية الحريدية في الطريق".
ولفت المقال إلى توقعات خبير النمو الاقتصادي بروفيسور دان بن دافيد، بأنه في العام 2065، يكون 49% من مواليد إسرائيل من "الحريديم"، وذلك بناء على نسبة الولادة. ويحذّر الكاتب من أنه "في حال لم يحدث انخفاض ملموس في نسبة الولادة في أوساط الحريديم، وفي حال عدم حدوث ارتفاع ملموس بنسبة التعليم في أوساط الحريديم (تعليم المواد الأساسية والألقاب الجامعية التي توفّر أدوات للعمل في سوق غني بالمعرفة) فإنّ الاقتصاد الإسرائيلي سينهار وستتحول إسرائيل إلى دولة ضعيفة".
معطيات تغذي الاحتجاجات
تشكّل الآراء السابقة إزاء توزيع الموازنة العامة والتصورات الاقتصادية والتحذير من مستقبل مظلم، يسيطر فيه "الحريديم" على إسرائيل ومقدراتها، غيضاً من فيض الآراء والتحليلات الإسرائيلية التي تطفو على السطح في الآونة الأخيرة.
ويتزامن كل هذا مع موجة غلاء الأسعار التي تشهدها إسرائيل وتثقل على كاهل المستهلكين، مع رفع الفائدة المصرفية للمرة العاشرة على التوالي في الأشهر الأخيرة، آخرها، يوم أمس الإثنين، عندما رفعها محافظ بنك إسرائيل إلى 4.75، الأمر الذي سيعمّق معاناة الحاصلين على قروض كبيرة بشكل خاص.
وهذا من شأنه تعزيز الاحتجاجات، لتلتقي مع الاحتجاجات ضد التعديلات القضائية، أو ربما توحّدها مثلما حصل على وجه الخصوص في التظاهرة الأخيرة في تل أبيب، ليل السبت الماضي.
ومع عدم إمكانية فصل السياسة عن الاقتصاد، يكون نتنياهو قد تجاوز عقبة الموازنة على مستوى مركبات الائتلاف، لكنه قد يقود إلى باب آخر من المواجهة مع الشارع المعارض لسياسته وحكومته.