في مؤتمره الصحافي الخميس في الأرجنتين ربط وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن حرب التجويع ومسألة النُّدرة في المساعدات الإنسانية للمدنيين في غزة، بوجود "عوائق" تحول دون وصولها إليهم، اعترف بأنّ كمياتها ليست كافية، وأن الإدارة الأميركية "تعمل يومياً" على معالجة النقص والتسليم. واستفاض في الحديث عن الصعوبات والتعقيدات التي تعترض العملية وتجعلها "غير فعّالة" في الوصول إلى المحتاجين بـ"القدر الكافي"، وكأن المشكلة لوجستية بحتة فرضتها فوضى الحرب ولا علاقة لإسرائيل بها.
لكن من المصادفات أنه في الوقت الذي كان يتحدث فيه عن الموضوع كانت التقارير تكشف أن العوائق افتعلتها إسرائيل. بحسب صحيفة واشنطن بوست الأميركية تقوم القوات الإسرائيلية بقصف حرس الشاحنات قبيل وصولها إلى المعبر الحدودي، فأدى إلى مقتل بعضهم وهرب الباقين، وإلى ترك البضائع عرضة للنهب ومن ثم حرمان المهددين بالجوع منها.
هذه واحدة من أساليب عرقلة وصول المساعدات التي انخفض عدد شاحنات نقلها في الأسبوعين الأخيرين، من 200 يومياً كانت إسرائيل قد تعهدت بتسهيل مرورها إلى 62 بحسب الأمم المتحدة التي أفادت مصادرها أكثر من مرة بأنّ القطاع يحتاج في الظروف العادية إلى دخول 500 شاحنة بضائع يومياً.
نأى الوزير بلينكن عن هذه الوقائع والأرقام، ولم يذكر شيئاً عن المجاعة أو يلمّح إليها، برغم كثرة التحذيرات من مخاطرها الزاحفة على قطاع غزة.
سرديته لوصول المعونات بالقطارة، تأتي في امتداد سياسة التستير على الانتهاكات الإسرائيلية، من الهجوم على المستشفيات وحرب الإبادة على المدنيين إلى سياسة التجويع باعتبارها إحدى أدوات تفريغ القطاع من سكانه، أو على الأقل "تقليص كتلته السكانية إلى أدنى الحدود"، بحسب كلام منسوب إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أواخر سبتمبر/ أيلول الماضي.
كما تولت الإدارة الأميركية التصدي لمحاسبة هذه الانتهاكات في محكمة العدل الدولية ومجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة. وكل الضغوط والمطالبات لم تفلح في حمل الرئيس الأميركي جو بايدن على استبدال سياسة التساهل مع الحكومة الإسرائيلية بالحسم القادر عليه لو شاء ذلك.
لكن التلويح بعملية رفح والخوف من تفاقم المأساة الإنسانية وما قد تؤدي إليه من تزايد الدعوات إلى وقف النار، قد يحفز البيت الأبيض على التلويح بخطوات جرى تداولها ودعوة الرئيس لاعتمادها بدلاً من الاكتفاء بالتعبير عن "الإحباط والضيق" من نتنياهو. منها تحذير إسرائيل بأن الإدارة الأميركية تعتزم الامتناع عن التصويت في المرة المقبلة بمجلس الأمن، ولن تستخدم الفيتو وبما يفتح الطريق أمام تمرير قرار لوقف النار. ومنها أيضاً خيار ربط التسليح لإسرائيل بشروط مقيِّدة لاستعماله، عملاً بقانون بيع السلاح إلى الخارج، علماً بأنّ مثل هذا الشرط يصعب تمريره في الكونغرس، ولو أنّ شريحة هامة منه، خاصة من الديمقراطيين، تؤيد هذا التوجه. وثمة طرح آخر يدعو الرئيس بايدن إلى "مخاطبة الإسرائيليين من فوق رئيس الحكومة" باعتبار أنّ بايدن شعبيته كبيرة في إسرائيل، ليحثهم على المطالبة بهدنة مفتوحة على التمديد مع صفقة رهائن.
ويشار إلى أنّ هذه الصفقة ارتفعت أسهمها نسبياً بعد محادثات مبعوث الرئيس الأميركي إلى الشرق الأوسط بريت ماكغورك في مصر، خاصة أنّ مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "سي آي إيه" وليام بيرنز سيلتقي الأحد المقبل في باريس مع نظيريه المصري عباس كامل والإسرائيلي ديفي برنيع، ورئيس الوزراء القطري، وزير الخارجية الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني.
وقيل إن تبدّل الأجواء حصل بفعل حلحلة جرت في عرض حماس وبما فتح باب العودة إلى لقاء باريس. وثمة من لا يستبعد أن تكون إسرائيل قد اضطرت إلى التراجع عن تشددها لأسباب ميدانية أثارت خلافات إسرائيلية داخلية وترافقت مع تلويح الإدارة الأميركية ببعض الإجراءات أعلاه لو بقيت الحكومة الإسرائيلية متشبثة بالتصعيد، ويبدو أنها باقية "حتى النصر الكامل" كما قال نتنياهو.
وفي التقدير أنّ الرئيس بايدن باقٍ أيضاً على نهجه القائم على ترقيع المواقف وبما يجمع بين الاندفاع والاستدراك، وهو الآن يراهن على نجاح الصفقة التي يرجح أن يعمل نتنياهو على تخريبها، وإلا عمد الرئيس وفق ما تردد، إلى تعيين مبعوث خاص للأزمة؛ بحيث يمكن لبايدن التفرغ أكثر للحملة الانتخابية، في سبيل انتخابات الرئاسة الأميركية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.