بعد مسيرة سياسية حافلة بالتقلّب في التحالفات خاض خلالها معارك عديدة لم تستثنِ شقيقه، برعاية من الوصاية السورية على لبنان، توفي النائب اللبناني والوزير السابق ميشال المر ، اليوم الأحد، عن عمر يناهز 89 عاماً.
في مسيرته التي امتدت منذ ستينيات القرن الماضي، كرّس المر نشاطه للبقاء في السلطة، وكان بروزه الأكبر خلال حقبة الوصاية السورية على لبنان، وتحديداً منذ بداية التسعينيات وحتى 2005، فاستغل الغياب السياسي المسيحي، إذ كان رئيس "التيار الوطني الحر" ميشال عون (رئيس الجمهورية حالياً) منفياً حينها في فرنسا، فيما كان رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع مسجوناً، ليجد المر الفرصة متاحة أمامه للعب دور سياسي مهم، مقدّماً خدمات كبيرة للنظام السوري، ما فتح المجال أمامه لتولي مناصب وزارية في ثماني حكومات، كان أبرزها حقيبة الداخلية التي استغلها للتدخّل في الانتخابات البلدية والنيابية وتفصيل قوانين على قياسه، مستقوياً بالوجود السوري، كما شغل منصب نائب رئيس مجلس النواب ونائب رئيس الحكومة.
دخل المر المهندس المدني، ورجل الأعمال الثري، المعترك السياسي حين كان شاباً، ونجح في الفوز بمقعد نيابي في انتخابات العام 1968، في محاولته الثالثة إثر خسارته في دورتي 1960 و1964، ليعود ويخسر في 1972، قبل أن يفوز في دورات 1992، 1996، 2000، 2005، و2009، و2018.
المر ابن بلدة بتغرين في المتن الشمالي (شرق العاصمة بيروت) وهو متزوج وأبٌ لثلاثة أولاد (الوزير السابق إلياس المر الذي تعرّض لمحاولة اغتيال عام 2005، ميرنا وهي رئيسة اتحاد بلديات المتن، ولانا) كان مقرباً في بداية العام 1985 من حزب "القوات اللبنانية"، بعدما كان حليفاً لحزب "الكتائب اللبنانية"، وقبله الحزب "السوري القومي الاجتماعي"، وبات أقرب إلى إلياس حبيقة (أحد المتهمين الرئيسيين بارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا)، مع انتقال قيادة "القوات" إليه في مايو/أيار 1985.
تولى أبرز المناصب الوزارية، بعد انتخاب إلياس الهراوي رئيساً للجمهورية عام 1989 برعاية سورية
اعتُبر المر من أبرز المساهمين في توقيع الاتفاق الثلاثي في دمشق بتاريخ 28 ديسمبر/كانون الأول 1985، بين وليد جنبلاط رئيس الحزب "التقدمي الاشتراكي"، ونبيه بري ممثل حركة "أمل"، وإلياس حبيقة عن "القوات اللبنانية"، وذلك برعاية سورية.
مع سقوط الاتفاق الثلاثي وانتفاضة "القوات اللبنانية"، التي قادها سمير جعجع، بوجه حبيقة، بالتنسيق مع رئيس الجمهورية السابق أمين الجميل، تراجع دور المر، قبل أن يتعزز نفوذه ويتولى أبرز المناصب الوزارية مع انتخاب إلياس الهراوي رئيساً للجمهورية عام 1989 برعاية سورية. وفي تلك الحقبة، وضع المر ازدواجية لعبة المال والسلطة في صلب عمله السياسي والاجتماعي، واعتمد على الخدمات ليتقرب من أبناء منطقته.
تعرَّض "أبو الياس" كما يناديه أبناء بلدته والمقربون منه، لمحاولة اغتيال في 20 مارس/آذار 1991 بتفجير سيارة مفخخة لدى مروره في منطقة أنطلياس في المتن.
في مسيرته السياسية النيابية والحكومية التي ناهزت نصف قرنٍ، وتخللتها تقلبات عدة في التحالفات، آخرها مع تكتل "التغيير والإصلاح" الذي كان يترأسه ميشال عون يوم كان نائباً، قبل أن يخوض المر الانتخابات النيابية الأخيرة عام 2018 مستقلاً، الكثير من الألقاب، إذ لُقّب بـ"صانع الرؤساء"، لما لعبه من دور في إيصال عدد من الرؤساء إلى السلطة، أبرزهم إلياس سركيس عام 1976، وأمين الجميل عام 1982، وإميل لحود عام 1998، وكان خلال حقبة التسعينيات من أقرب المقربين من الرؤساء الثلاثة، إلياس الهراوي ورفيق الحريري ونبيه بري.
كذلك، وُصِف المر، وهو أيضاً من مؤسسي تلفزيون "أم تي في"، ومساهمٌ في عدد من المحطات التلفزيونية والإذاعات، بـ"عرّاب التجنيس"، ففي عام 1994 شكّل قانون إلياس الهراوي- رفيق الحريري- بشارة مرهج، فضيحة من العيار الثقيل، مع تجنيس أكثر من 180 ألف شخص من غير اللبنانيين لأهداف انتخابية، قبل أن يلحق بمرسوم تصحيحيّ، انضمّ إليه المرّ مع الهراوي والحريري، وجرى تجنيس العدد الأكبر منهم في زحلة-البقاع حيث نفوذ الهراوي، والعاصمة بيروت المحسوبة على الحريري، والمتن اللبناني "دار" المر، وذلك لضمان حصولهم على أعلى نسبة من اقتراع الناخبين في الانتخابات النيابية.
معارك المر كانت كثيرة بين حلفاء الأمس وخصوم اليوم، ووصلت حدّتها إلى داخل البيت الواحد، إذ اختلف سياسياً مع شقيقه غبريال، وخاض الرجلان الانتخابات النيابية كخصمين، يوم رشّح ميشال ابنته ميرنا في مواجهة شقيقه غبريال في الانتخابات الفرعية في منطقة المتن إثر وفاة النائب ألبير مخيبر عام 2002، وشغور المقعد النيابي عن دائرة المتن الشمالي. فكانت معركة الأشقاء التي أدت بداية إلى فوز غبريال، قبل أن تُلغى نيابته بعد شوائب طاولت العملية الانتخابية والنتائج، وذلك تنفيذاً لقرار أصدره المجلس الدستوري بضغط من رئيس الجمهورية حينها إميل لحود، علماً أن وزير الداخلية حينها كان إلياس المر، نجل ميشال، وصهر لحود، فعادت وصبّت النتيجة لصالح غسان مخيبر. وحصل تقارب كبير بين غبريال وميشال عون (خصم ميشال المر في تلك الفترة). لينتقل الخلاف بين الشقيقين إلى مستوى حرب سياسية خاضها ميشال بوجه غبريال ووصلت ارتداداتها إلى تلفزيون "أم تي في".
تولى المر مناصب وزارية في ثماني حكومات، وعُرف بـ"إمبراطور البلديات" والمهيمن على غالبية رؤساء البلديات في المتن
ميشال المر النائب والوزير الذي تولى مناصب وزارية في ثماني حكومات، عُرف أيضاً بـ"إمبراطور البلديات" والمهيمن على غالبية رؤساء البلديات في المتن، والمتدخل الأبرز في الانتخابات البلدية والنيابية والقوانين التي كانت تُفصّل على قياسه، يوم كان وزيراً للداخلية، في حكومات رفيق الحريري وسليم الحص، مستغلاً التجنيس لكسب معاركه الانتخابية وتقوية موقعه السياسي، مستقوياً بالنظام السوري الذي كان يحتل لبنان قبل انسحابه من الأراضي اللبنانية عام 2005، ليتراجع نفوذه شيئاً فشيئاً ويبقى فقط متسلحاً بالخدمات التي كان يقدمها لأبناء بلدته لضمان استمراريته نائباً من دون كتلة يترأسها في البرلمان اللبناني.
في الفترة الأخيرة، تدهورت حالته الصحية وغاب عن المشهد السياسي والعمل التشريعي بشكل شبه كليّ منذ انتخابه نائباً في مايو/أيار 2018، وكان آخر ظهور له ترؤسه جلسة انتخاب رئيس جديد لمجلس النواب باعتباره "رئيس السن" كأكبر النواب المنتخبين في استحقاق 2018 النيابي، في جلسة أعيد فيها انتخاب نبيه بري رئيساً للبرلمان.
بعدها غاب المر عن المشهد كلياً، سواء لناحية المواقف أو المشاركة في الاجتماعات والجلسات، باستثناء البيانات التي كانت تصدر عن مكتبه، والمرتبطة بشكل خاص بنفي الأخبار التي كانت تتحدث عن وضعه الصحي ووفاته. كما اعتذر عن عدم حضور الاستشارات النيابية الملزمة التي كانت محددة لتكليف رئيس حكومة جديد خلفاً لسعد الحريري الذي استقال في 29 أكتوبر/تشرين الأول 2019 بعد انتفاضة الشارع اللبناني في 17 أكتوبر الماضي، فيما لم يسمّ المر حسان دياب رئيساً للحكومة.