وحيداً خلف جدران بيته يحتفل أول وآخر رئيس للاتحاد السوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، بعيد ميلاده التسعين. لم يجد غورباتشوف إلا تطبيق "زووم" للتواصل مع أحفاد يعيشون خارج روسيا، وقلة من أصدقاء الزعيم السابق المثير للجدل، في عالم يجتاحه "الجنرال كورونا" ويفرض قواعده القاسية، وسط سماء ملبدة بالعودة إلى حرب باردة جديدة، وتراجع في مستوى الحريات في روسيا والفضاء السوفييتي السابق ما ينذر بعودة الستار الفولاذي بعد نحو 35 عاماً على نسمات أطلقتها سياسة "البريسترويكا" (إعادة البناء) والغلاسنوست (الانفتاح والشفافية) سرعان ما تحولت إلى عواصف تسببت بانهيار الدولة السوفييتية وتغيير وجه العالم.
ويبدو أن تعب المرض والتقدم بالعمر والظروف التي شهدتها روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي لم تغير شيئاً من قناعات "أبي البيريستروكا"، غورباتشوف، المدافع عن كل قراراته رغم الجدل المتواصل، والاتهامات المستمرة بعمالته للغرب وتآمره من أجل تدمير "القلعة الشيوعية" من الداخل.
في مارس/ آذار 1985، بعد وفاة قسطنطين تشيرنينكو، شغل غورباتشوف منصب الأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي وهو أعلى منصب في الدولة السوفييتية حينها. وفي فبراير/ شباط 1990 اقترح غورباتشوف إلغاء دور القائد الشيوعي والسماح بتشكيل أحزاب سياسية، إضافة إلى انتخاب "رئيس" للاتحاد السوفييتي. وفي مارس/ آذار من العام ذاته، وافق مجلس نواب الشعب على تعينه رئيساً للاتحاد السوفييتي ليكون أول وآخر من شغل هذا المنصب.
"البريسترويكا" ضرورة
وفي لقاء مع وكالة "تاس" الروسية نشرته، اليوم الثلاثاء كاملاً، قال غورباتشوف: "أنا مقتنع بالكامل بأن البريسترويكا وكل ما يتعلق بها كانت ضرورة، وقمنا بتوجيهها في الجهة الصحيحة"، مشيراً إلى أن أهم منجزاتها في داخل البلاد هي "حصول الناس على الحرية وانتهاء النظام الشمولي" وفشل محاولات لجنة الطوارئ العودة بالبلاد إلى الخلف". وأوضح أن أهم نتائج سياساته خارجياً هي "انتهاء الحرب الباردة والخفض الكبير في الأسلحة النووية".
ومعلوم أن لجنة الطوارئ قادت انقلاباً فاشلاً على غورباتشوف في 18 أغسطس/آب 1991 قبل يومين على اجتماع كان يفترض أن يوقع فيه قادة عشر جمهوريات سوفييتية (من أصل 15) اتفاقاً جديداً للاتحاد، وضمت اللجنة ثمانية مسؤولين بارزين في الاتحاد السوفييتي بينهم نائب الرئيس، ووزيرا الدفاع والداخلية ورئيس جهاز الاستخبارات "كي جي بي" وغيرهم.
ورغم فشل الانقلاب فقد تراجع دور غورباتشوف بسرعة كبيرة أدت إلى استقالته قبل أيام من نهاية 1991، وإعلانه وفاة الدولة الشيوعية بعد انفراط عقد معظم الجمهوريات والإعلان عن استقلالها تباعاً عن الاتحاد السوفييتي.
ودافع غورباتشوف عن اختياره البدء بالإصلاحات السياسية التي قادها في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي على حساب الإصلاحات الاقتصادية، معللاً أن "أي محاولات لإصلاح الاقتصاد كانت ستغوص في مستنقع البيروقراطية". ونفى أي مسؤولية عن الأوضاع الصعبة في التسعينيات وعزا ذلك إلى أن النخب "الراديكالية" بعد السوفييتية اختارت "العلاج بالصدمة" في حين كان يجب إطلاق إصلاحات تدريجية للانتقال من الاقتصاد المغلق إلى اقتصاد السوق.
بوتين مهنئاً غورباتشوف
وفي رد مبطن على انتقادات وجهها عدد من المسؤولين الروس ومن ضمنهم الرئيس فلاديمير بوتين حول ثقته المفرطة بالناس، وعدم سعيه إلى ضمانات بشأن سياساته الخارجية وغدر السياسيين في الداخل، يقول غورباتشوف "أعلم أني أتعرض للانتقاد بسبب الثقة، ولكن لو لم أثق بالناس والشعب لما استطعت إطلاق إعادة البناء. يشتمونني لسياسة الانفتاح والشفافية، ولكن من دون ذلك ما كان يمكن أن تتغير البلاد".
وفي عيد ميلاده التسعين تلقى غورباتشوف برقية تهنئة من بوتين، الذي كان ضابطاً عادياً في جهاز الاستخبارات، واضطر إلى جرّ أذيال الهزيمة والخروج من ألمانيا، وكشف منذ سنتين أنه كان يفكر بالعمل سائق تاكسي قبل إيجاد وظيفة له عند "أبيه الروحي" محافظ سانت بطرسبورغ الإصلاحي أناتولي سوبتشاك ويتدرج بعدها ليصل إلى عرش الكرملين الذي كان من الصعب عليه الوصول إليه في ظل التراتبية السوفييتية السابقة حتى في الأحلام.
السيدة الأولى
وقبل نحو ثلاثين عاماً قرر غورباتشوف الاستقالة وتوقيع شهادة موت الدولة السوفييتية بعدما عجز عن إصلاح "الماكينة الصدئة" حسب فريق مريديه، وتنفيذ مخطط الغرب المطلوب منه حسب فريق معارضيه. وبين هذا وذاك لا يزال غورباتشوف يتذكر شريكته رايسا ماكسيموفنا التي لن تكن أقل إثارة للجدل كأول "سيدة أولى" في التاريخ السوفييتي خطفت الأضواء داخلياً وخارجياً، ويؤكد أنه بات أقل اهتماما بحضور عروض السينما والمسرح بعد وفاتها في 1999.
القائد الرمز
ولا يتوقف غورباتشوف عن إثارة الجدل حول شخصيته، فالرجل الذي كان يمكن أن يبقى قائداً مدى الحياة، يحتفل بعيد ميلاده وحيداً من دون احتفالات تمجد أفكار وأفعال "القائد الرمز".
وفي تصريحاته الأخيرة يزيد من الغموض الذي يكتنف هذه الشخصية، فغورباتشوف يواظب على قراءة أشعار ميخائيل ليرمنتوف رغم أنه اعتزل "المبارزة" مع المتمرد الروسي بوريس يلتسن وقرر الخروج بهدوء.
وهو يقرأ "وحيداً أخرج إلى الطريق" للشاعر المشاكس ليرمنتوف، ويعشق شاعراً آخر قتل في المبارزة هو ألكسندر بوشكين. ويؤكد "غوربي" أنه يقرأ ويستمع إلى الأشعار والأغنيات التراثية الشعبية الروسية والأوكرانية في زمن تتباعد فيه المسافة بين موسكو وكييف.
وفي حين تتواصل الانتقادات له حول تخليه عن الشيوعية يقول غورباتشوف، إنه لا يزال يقدر أدب نيقولاي أستروفسكي ورائعته "أيقونة" الفترة السوفييتية "كيف سقينا الفولاذ".
وغورباتشوف الذي لم يكن في نظر كثيرين "بطلاً من هذا الزمان" كما في رائعة ليرمنتوف، والمتهم بانهيار الاتحاد السوفييتي يدعم الجهود لإحياء اتحاد على نمط جديد عبر تفعيل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي وهما الكيانان اللذان أسسهما بوتين رداً على "أكبر كارثة" كما وصف منذ ثلاث سنوات انهيار الاتحاد السوفييتي.