لا تبدي الطغمة العسكرية في ميانمار، على ما يبدو، أي اكتراث للتنديد الدولي المتواصل منذ شهر ونصف الشهر، وللعقوبات الدولية الجديدة التي فرضت على هذا البلد إثر الانقلاب الذي نفذّه العسكر في الأول من فبراير/ شباط الماضي ضد السلطة المدنية، وزعيمتها أونغ سان سو تشي، وحزب "الرابطة الوطنية للديمقراطية". وفي بلد اعتاد فيه الجيش طوال عقود، على ممارسة السلطة والديكتاتورية والقمع، يحصي الجنرالات اليوم بدم بارد أعداد القتلى من المدنيين المعترضين على الانقلاب، والذين يتساقطون في شوارع رانغون وماندالاي وميينغيان. وإذا كان صمّ الآذان متبادلاً في السابق، بين المجتمع الدولي وجيش ميانمار، على قاعدة إبقاء هذه الدولة في جنوب شرقي آسيا في حالة عزلة مع كل ما يحصل فيها من مجازر ضد الشعب وتحديداً الأقليات، فإن العسكر يراهنون هذه المرة أيضاً على هذا الواقع، أو أنهم، كما تشير معظم التسريبات المسجلة عما يحصل على الأرض، يقتلون شعبهم بدم بارد، معتبرين أن أياً من الحلول الأخرى، ومنها الدولة المدنية المُختبرة، لم تؤمن لهم الحدود الدنيا للخروج من هذه العزلة.
تحاول المعارضة تنظيم صفوفها طالبة الدعم من الإثنيات
وتزامناً مع جولة إلى آسيا هي الأولى التي يقوم بها وزيرا الخارجية والدفاع الأميركيان الجديدان، أنتوني بلينكن ولويد أوستن، إلى الخارج، منذ تسلمهما منصبيهما، وسّع الجيش في ميانمار من حملته القمعية العنيفة ضد المتظاهرين الرافضين لانقلابه، وهم من العمال والمهندسين والأطباء وموظفي القطاع الرسمي، الذين يواصلون العصيان المدني والنزول إلى الشوارع منذ ستة أسابيع، متحدين رصاص الأمن وحظر التجول وإغلاق الطرقات والضرب بالعصي والاعتقالات، وصولاً إلى فرض الأحكام العسكرية العرفية. ولا يبدو أن ميانمار، التي أكد بلينكن في فبراير الماضي، أن بلاده سترد على الانقلاب العسكري فيها بـ"تحرك صلب"، ستكون على أجندة الأخير خلال جولته، أو ستبرز كثيراً فيها، حتى مع سقوط أكثر من 50 قتيلا من المتظاهرين في يوم واحد، أول من أمس الأحد، في أكثر الأيام دموية منذ اعتقال أونغ سان سو تشي. ويراهن الجيش على أن آلة القتل المتواصلة ستسفر في النهاية عن تطويع المحتجين، فيما تحاول المعارضة تنظيم صفوفها، متوجهة إلى الإثنيات الكثيرة في البلاد، والتي عانت الكثير منها طويلاً من بطش الـ"تاتماداو"، كما يطلق على الجيش، بالانضمام إليها، لإنشاء "الديمقراطية الفيدرالية". وفيما الجيش يقتل حتى القوميين في الوسط، إلا أن الحراك الشعبي لا يبدو أنه في طور التراجع، ما من شأنه أن يخلط ربما الكثير من المعادلات التي يحاول الجيش فرضها، لا سيما إذا استمر تراجع الوضع الاقتصادي، ومع استهداف التمرد الشعبي للمصالح الصينية في هذا البلد.
وشهد يوم أمس، الإثنين، مقتل 11 متظاهراً على الأقل بنيران الجيش والشرطة في أنحاء البلاد، بعد يومٍ دامٍ شهد الحصيلة الأعلى من الوفيات في صفوف المتظاهرين منذ انقلاب فبراير. وبالتزامن، أعلن المجلس العسكري في ميانمار فرض "الأحكام العرفية" في 6 بلدات تابعة لمدينة رانغون التي تعد أكبر مدن البلاد. وذكرت قناة "إم آر تي في" الحكومية، أمس، أن بلدات نورث داغون، ساوث داغون، داغون سيكان، وأوكالابا خضعت لهذه الأحكام، وذلك بعد صدور إعلان أولي، الأحد، يقول إن بلدتين أخريين، هما هلينغ ثار يار وشويبيثا، وضعتا تحت الأحكام العرفية. وللحدّ من وتيرة الاحتجاج، قطعت السلطات خدمة الإنترنت عبر الهاتف.
وكانت السلطة العسكرية قد فرضت حال الطوارئ إثر الانقلاب. وتحول المحتجون، الذين أعلنوا العصيان المدني، مع الوقت إلى اعتماد أساليب دفاعية، مثل إحراق الإطارات ونصب الحواجز، وصولاً إلى استهداف مصالح اقتصادية. وبحسب قانون الأحكام العرفية، الذي فرض مرتين في 1989 و1974، فإن "منتهكي النظام" يمكن محاكمتهم في محاكم عسكرية، وقد يواجهون عقوبات تصل إلى الإعدام أو السجن مدى الحياة. وسجّلت "جمعية مساعدة السجناء" توقيف أكثر من ألفي شخص منذ الأول من فبراير.
وكان الوضع قد توتر بشدة الأحد، خصوصاً في هلينغ ثار يار، الضاحية الصناعية لرانغون، عاصمة البلاد الاقتصادية، التي تضمّ عدداً كبيراً من مصانع النسيج، مع مقتل عدد كبير من المحتجين، بعدما فتحت قوات الأمن النار عليهم إثر إضرامهم النار في عدد من المصانع الصينية. ويتهم المحتجون الصين بالتغاضي عن الانقلاب وممارسات العسكر، أو دعمهم. وفي المحصلة، فإن أكثر من 50 متظاهراً في ميانمار، أكثرهم في رانغون، قتلوا أول من أمس برصاص الجيش. وتحدثت "جمعية مساعدة السجناء السياسيين" (غير حكومية)، عن مقتل 44 متظاهراً على الأقل على أيدي الأمن، محصية مقتل أكثر من 120 متظاهراً منذ الانقلاب (خمسهم بإصابات في الرأس، وفق إحصاء لـ"نيويورك تايمز"). كما تحدثت الأمم المتحدة أمس عن مقتل 138 شخصاً من الانقلاب. من جهتها، أكدت "بي بي سي" مقتل أكثر من 50 شخصاً في أماكن مختلفة من ميانمار، معظمهم في رانغون. وكتب مراسلها لمنطقة جنوب شرقي آسيا جوناثان هيد أنه "خلال نهاية الأسبوع، كان الجنود والشرطة يطلقون النار من أسلحتهم مباشرة على الحشود، ويجرّون الجثث والجرحى من دون اهتمام"، مضيفاً أن "ازدراءهم للشعب المدني كان يمكن رؤيته في الكثير من الفيديوهات التي نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي: إنه العسكر يشنّ الحرب على شعبه". وتحدثت وكالتا "أسوشييتد برس" عن مقتل 38 شخصاً الأحد، و"رويترز" عن مقتل 53. وذكرت "رويترز" أن أكبر الخسائر وقعت في منطقة هلينغ ثار بار (37 قتيلاً على الأقل)، بعد الهجوم على المصانع الصينية.
أضرم المحتجون النار في عدد من المصانع الصينية
وبعدما تحول الاقتراب من المصالح الصينية إلى مبرر للقتل بالنسبة لعسكر ميانمار، اتجهت الأنظار إلى الصين، التي أبدت "قلقها"، أمس، حيال سلامة مواطنيها في ميانمار، مؤكدة أنها "تتابع عن كثب الوضع" في هذا البلد الذي يعتبر أحد "الممرات" الحيوية لـ"طريق الحرير" الصيني، والذي يحتل موقعاً جيو - استراتيجياً حيوياً بالنسبة إلى العملاق الصيني. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية تجاو ليجيان إن بلاده "تأمل بأن تأخذ ميانمار تدابير عملية لضمان سلامة الصينيين"، داعياً الصينيين في ميانمار إلى "توخي الحذر". ولدى سؤاله عما إذا كانت الصين تنوي إجلاء مواطنيها قريباً من ميانمار، اكتفى بالقول إن بكين "تتابع الوضع عن كثب"، وإنها "قلقة جداً" حيال سلامتهم. وحضّ تجاو السلطات في ميانمار على "إحالة مرتكبي (أعمال التخريب) على القضاء". وكانت السفارة الصينية في ميانمار قد أكدت أنه جرى "تدمير ونهب وإحراق" مصانع يملكها صينيون في رانغون، مشيرةً إلى أن بعض المواطنين الصينيين أُصيبوا بجروح، لافتة إلى أن معظم المصانع مرتبطة بقطاع النسيج.
وإزاء عمليات القتل والاضطهاد والاختفاء القسري والتعذيب، ندّد مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، بـ"جرائم ضد الإنسانية" محتملة ارتكبتها المجموعة العسكرية. وكتب مقرر الأمم المتحدة الخاص لميانمار توم أندروز، في تغريدة على "تويتر"، أمس، أن القادة العسكريين "يجب ألا يكونوا في الحكم، إنما خلف القضبان"، داعياً إلى وقف "تزويد العسكريين بالمال والأسلحة" فوراً. بدورها، ندّدت مبعوثة الأمم المتحدة الخاصة إلى ميانمار كريستين شرانر بورغنر بشدة بإراقة الدماء، فيما أعربت بريطانيا، القوة الاستعمارية السابقة، عن استيائها بسبب استخدام القوة "ضد أبرياء". ومنحت الولايات المتحدة مواطني ميانمار الموجودين على أراضيها "وضعاً محمياً مؤقتاً". في غضون ذلك، أرجئت أمس، جلسة محاكمة أونغ سان سو تشي إلى 24 مارس/ آذار الحالي. أوضح محاميها خين مونغ زاو أنه كان مقرراً أن تمثل سو تشي عبر الفيديو أمام القضاة، إلا أن الجلسة أُرجئت لانقطاع خدمة الإنترنت. وتلاحق سو تشي بأربع تهم على الأقل: استيراد أجهزة اتصالات لاسلكية بشكل غير قانوني وعدم احترام القيود المرتبطة بكورونا، وانتهاك قانون الاتصالات والتحريض على الاضطرابات العامة. ويتّهمها الجيش أيضاً بالفساد، مؤكداً أنها حصلت على رشى بقيمة 600 ألف دولار وأكثر من 11 كيلوغراماً من الذهب.
(العربي الجديد، رويترز، فرانس برس، أسوشييتد برس)