يحضر التهديد التركي بشن عملية عسكرية واسعة ضد "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) في الشمال السوري، كأبرز بنود زيارة وفد من الخارجية الروسية برئاسة نائب وزير الخارجية سيرغي فيرشينين، إلى إسطنبول، والتي بدأت أمس الخميس. ويبدو أن الطرفين يسعيان إلى تفاهمات جديدة حول مناطق النفوذ الروسية في شمال سورية، تحاول موسكو خلالها تعزيز وجود حليفها، نظام بشار الأسد.
وتقود موسكو جهود وساطة بين الجانب التركي والنظام السوري من أجل تطبيع العلاقات ونقل المباحثات الأمنية التي تجري بين دمشق وأنقرة إلى مستوى سياسي.
عبد الواحد: روسيا تدفع باتجاه تسليم النظام شمال سورية
ومن جهة أخرى، تتوسط موسكو بين الأتراك و"قسد" المهددة بعملية عسكرية واسعة تتحدث أنقرة عنها منذ منتصف الشهر الماضي، بعد اتهامها لـ"قسد" التي تشكل الوحدات الكردية ثقلها الرئيسي، بتدبير التفجير الذي وقع في إسطنبول في 13 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي وأسفر عن 6 قتلى وعدد من المصابين، وهو ما نفته هذه القوات، التي صد "الجيش الوطني السوري" المعارض، بحسب مصادر، محاولة تقدم لها على محور حاجز الشط جنوب اعزاز.
وتعارض موسكو أي عملية عسكرية تركية في الشمال السوري لا تصب في النهاية لصالح النظام السوري الذي يريد الحلول محل "قسد" في المناطق التي تطالب أنقرة بإخلائها من هذه القوات، وهي: تل رفعت في ريف حلب الشمالي، ومنبج وعين العرب شمال شرقي حلب.
ويملك الجانب الروسي القرار بخصوص منطقة تل رفعت الواقعة غربي نهر الفرات، فهي تقع ضمن نطاق نفوذه، بينما منبج وعين العرب هي ضمن مناطق نفوذ واشنطن، وهو ما يعيق أي توغّل تركي باتجاه المنطقتين.
ربط روسيا الشمال السوري بملفات أخرى
ومن المرجح أن تربط موسكو ملف الشمال السوري بملفات أخرى، لعل أبرزها ملف الحرب الروسية في أوكرانيا والتقارب المحتمل بين أنقرة ودمشق، والذي بدأ أخيراً على صعيد أمني، وتأمل موسكو بانتقاله إلى مستويات أعلى، منها عقد لقاء قمة بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس النظام السوري بشار الأسد.
ورأى المحلل السياسي المختص بالشأن الروسي طه عبد الواحد، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "موسكو تحاول استغلال ثغرة موجودة في العلاقة التركية الأميركية بما يخص الشمال السوري"، معرباً عن اعتقاده أن "موسكو ستقترح على الأتراك صيغة معدلة من اتفاقية أضنة".
وكان النظام السوري وقّع في 1998 اتفاقاً مع الأتراك عُرف باتفاق أضنة، أعطى تركيا حق "ملاحقة الإرهابيين" في الداخل السوري حتى عمق خمسة كيلومترات، و"اتخاذ التدابير الأمنية اللازمة إذا تعرّض أمنها القومي للخطر".
وأشار عبد الواحد إلى أن الجانب الروسي يدفع حالياً باتجاه تسليم الشمال السوري لقوات النظام لـ"ضمان عدم تعرّض الأمن القومي التركي لأي تهديد من قبل قسد".
وأعرب عن اعتقاده بأنه "لا يمكن الحديث عن تأثير تركي على القرار الروسي بما يخص الشمال السوري". وأضاف أن "أنقرة تتعامل مع أي مقترحات روسية وفق رؤية الأتراك لمصير الشمال السوري. أعتقد أنه لا نيّة للجانب التركي الانسحاب من سورية على الأقل في المدى المنظور".
ترتيب تفاهمات جديدة حول مناطق النفوذ الروسية
من جهته، رأى مدير وحدة تحليل السياسات في مركز "الحوار السوري" للدراسات محمد سالم، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "محور هذه الاجتماعات بين الطرفين الروسي والتركي سيكون ترتيب تفاهمات جديدة حول مناطق النفوذ الروسية التي تسيطر عليها قسد في شمال سورية".
وتابع: "حتى الآن، لا يبدو أن التفاهمات قد نضجت. هناك عروض روسية لتركيا وعروض تركية مقابلة، وعروض روسية لقسد، ورفض من قسد وطروحات مقابلة".
ولفت إلى أن "سيناريو عفرين يمكن أن يتكرر حين فشلت مفاوضات قسد مع الروس، فغضت روسيا الطرف عن الهجوم التركي". وكان الجيش التركي قد طرد الوحدات الكردية من منطقة عفرين شمال غربي حلب بعملية عسكرية واسعة سميت "غصن الزيتون" مطلع 2018.
منعرجات العلاقة الروسية التركية في سورية
ومرت العلاقة الروسية التركية في سورية بمنعرجات منذ أواخر 2015، حين تدخّلت موسكو بشكل مباشر إلى جانب النظام السوري في الحرب. وكاد البلدان أن ينزلقا إلى صدام عسكري مباشر عندما أسقطت أنقرة طائرة روسية في شمال غربي سورية في 24 نوفمبر 2015 بعد انتهاك المجال الجوي التركي.
سالم: لا يبدو أن التفاهمات التركية الروسية قد نضجت
وفي خضم التوتر بين البلدين ساعدت موسكو الوحدات الكردية في السيطرة على منطقة تل رفعت ومحيطها في ريف حلب الشمالي، والتي كانت خاضعة للنفوذ التركي مطلع 2016، كما ساعدت قوات النظام في السيطرة على مساحات في ريف اللاذقية غربي البلاد.
ولكن التعاون بين البلدين عاد منتصف 2016، حيث أسهمت انقرة بالتوصل إلى اتفاق خرجت بموجبه فصائل المعارضة السورية من مدينة حلب، فانطلق مطلع عام 2017 مسار أستانة الذي سمح للنظام بالسيطرة على جل المساحات التي كانت تحت سيطرة هذه الفصائل في سورية.
واليوم يرتبط الجانبان بالعديد من التفاهمات والاتفاقات في سياق مسار أستانة وخارجه، أبرزها "اتفاق موسكو" الذي وُقع في مارس/آذار 2020 وأرسى دعائم وقف لإطلاق النار في شمال غربي سورية، وهو ما يزال سارياً حتى اليوم على الرغم من تعرّضه لانتهاكات من قبل قوات النظام والروس.
وفي ذلك الوقت، كان الجيش التركي قد دخل طرفاً مباشراً في الصراع، عقب مقتل أكثر من 30 جندياً تركياً، جرّاء قصف جوي لقوات النظام على نقطة تمركز عسكرية تركية في إدلب. وتحت الضغط الشعبي، ردّ الجيش التركي على مقتل جنوده بطريقة غير مسبوقة، فقصف عشرات المواقع لقوات النظام في أرياف إدلب وحلب.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2019، وقّع الجانبان التركي والروسي ما يعرف باتفاق سوتشي، الذي انتهت بموجبه عملية "نبع السلام" التركية ضد "قسد" في منطقة شرقي الفرات التي سيطرت أنقرة من خلالها على الشريط الحدودي ما بين مدينتي تل أبيض ورأس العين على طول نحو 100 كيلومتر وعمق نحو 30 كيلومتراً.
وتعهد الجانب الروسي وفق الاتفاق بإخراج الوحدات الكردية من طول الحدود السورية التركية وبعمق نحو 33 كيلومتراً، وتسيير دوريات مشتركة بعمق عدة كيلومترات في شرق وغرب منطقتي تل أبيض ورأس العين اللتين أصبحتا تحت النفوذ التركي المباشر منذ ذلك الحين. وترى أنقرة أن الجانب الروسي لم يفِ بتعهداته بموجب اتفاق سوتشي، وهو ما يخولها القيام بعملية عسكرية جديدة لحماية أمنها القومي.