تروي شوارع حي سيدي حسين السيجومي، المتاخم للعاصمة التونسية، قصة جديدة من معاناة الأحياء التي تشكّل أحزمة للمدن الكبرى في تونس، والتي توطّن فيها منذ سنوات الفقر وغياب الخدمات، في ظل فشل السلطة في احتواء هذه الأحياء ومعالجة مشاكلها، ما تسبّب بخلق حالة من التنابذ بين الأهالي والسلطة، تفجّرت آخر صورها في الاحتجاجات والمواجهات مع عناصر الأمن منذ خمسة أيام في هذا الحي. في ظل هذا الوضع، لا يعود غريباً انفجار الشارع إزاء أي انتهاك لرجال الأمن المتهمين بمعاملة الأهالي بشكل عنيف ما تسبب بمقتل شاب من الحي، وأدى إلى مواجهات مستمرة. وعلى الرغم من هذا الاحتقان الشعبي، فإن السلطة السياسية لا تزال غارقة في مناكفاتها، فالرئيس قيس سعيّد على موقفه بمهاجمة رئيس الحكومة هشام المشيشي، متمسكاً برفض "التحاور مع الفاسدين"، بما ينذر بمزيد من المآزق التونسية.
وبدا حي سيدي حسين هادئاً على غير عادته، أمس السبت، بعد أربع ليال من المواجهات بين عدد من الشباب الغاضب، ورجال الشرطة، والتي تأتي بعد وفاة الشاب أحمد بن عمار قبل أيام، وتشير بعض الروايات إلى تعرضه للتعنيف من قبل عناصر أمنية، إلى جانب تعرض قاصر يبلغ 15 عاماً إلى التعنيف وتجريده من ملابسه، وهو الفيديو الذي شكّل صدمة لدى الرأي العام في تونس. وظهرت آثار قنابل الغاز المسيل للدموع في كل مكان، والعربات المحروقة وسط الطريق، وبقايا النيران الليلية في كل مكان.
أصل الحكاية في سيدي حسين، وفاة شاب بعد توقيفه من قِبل دورية للشرطة
أصل الحكاية في سيدي حسين، وفاة الشاب أحمد بن عمار، التي أثارت غضب أبناء حيه فخرجوا للاحتجاج. لم تتضح بعد ملابسات موت أحمد على الرغم من أن روايات الحي تتحدث عن توقيفه من قِبل دورية للشرطة، وموته بعد ساعات من إيقافه، ولكن ظروف موته تبقى غامضة ومريبة، واعتبرتها جمعية المحامين الشبان في بيان لها "جريمة ضد الإنسانية وتكريساً لدولة البوليس".
في زيارة "العربي الجديد" إلى بيت الشاب الثلاثيني بن عمار، لا يزال الأهل يتقبلون العزاء، وسط حزن وغضب كبير يعمّان المكان. زوجه أبيه مبروكة، تقول لـ"العربي الجديد" إنها حتى الآن لا تزال تحت وقع الصدمة ولا تصدق ما حصل. وتروي أنها كانت قد تواصلت مع أحمد واتفقا على العشاء ثم خرج حوالي السادسة مساءً على دراجته النارية للقاء خطيبته، قبل أن يهاتفها أحد أصدقائه ليخبرها أن مكروهاً أصاب أحمد. وتوضح أنها لم تتمكن من رؤية ابنها في بيت الأموات في المستشفى على الرغم من توسلها رجال الأمن هناك، ولكنها لاحظت أثناء تغسيله كسوراً في يديه ورقبته ورأسه، وكان ينزف من أنفه، مضيفة أنه مهما كان التصرف أو الجرم الذي قد يقترفه الشخص فلا مبرر لضربه بتلك الطريقة، آملة أن تظهر حقيقة وفاة أحمد ويحاسب من اعتدى عليه.
وما أدى إلى تصاعد الغضب ضد رجال الشرطة، انتشار فيديو لاعتداء بعضهم على المراهق فادي (15 عاماً) وسحله وتجريده من ثيابه، في صور اهتزت لها البلاد كلها. يروي شقيق فادي، واسمه علي، أنه على الرغم من تعاطف ومساندة العديد من المنظمات مع شقيقه الذي تعرض لانتهاكات فظيعة، إلا أن وضعه النفسي سيئ جداً، خصوصاً بعد مشاهدته الفيديو الذي يوثق الاعتداء عليه. ويوضح علي، لـ"العربي الجديد"، أنه كان يومها وشقيقه في جنازة وعند العودة افترقا، وصادف مرور دورية شرطة بالقرب من فادي الذي حاول الابتعاد عنها، ولكن بعض رجال الشرطة انهالوا عليه بالضرب المبرح وتمت تعريته وهو طريح الأرض. ويلفت إلى أنه شاهد الفيديو على شبكات التواصل الاجتماعي وتعاطف مع الشاب الذي ظهر ولم يكن يعرف أنه شقيقه فادي، مبيناً أنهم افتقدوا شقيقه في البيت بعد ذلك وخرجوا للبحث عنه، إلى أن وصلتهم مكالمة من مركز الأمن تطلب من والدته الحضور، ولكنهم وجدوا شقيقه في وضع سيئ وملابسه ممزقة، وإلى اليوم لا يصدقون ما حصل.
خوف وغضب
في سيدي حسين يظهر الخوف على وجوه العديد من الشبان وحتى الباعة ممن يخشون ملاحقات قوات الأمن لهم بسبب تصريحاتهم لوسائل الإعلام أو تدويناتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، مؤكدين أن العلاقة مع عناصر الأمن في المنطقة جد متوترة. هذا الأمر يؤكده الشاب محمد، مشيراً إلى أن الاحتجاجات تتجدد ليلياً بين الشباب ورجال الأمن، ولكنهم قد يتعرضون إلى الملاحقات الأمنية بمجرد التعبير عن غضبهم أو الاحتجاج ضد عناصر الأمن. أما حسين فيقول لـ"العربي الجديد" إن الاستعمال المفرط لقنابل الغاز تجاه المحتجين كاد أن يتسبّب في كارثة، مؤكداً أن احتجاجات ليلية اندلعت في حيه وأن أحد الشباب قفز من سور منزله محاولاً الفرار من الشرطة، فكان الغاز في كل مكان ما تسبّب في اختناق رضيعته التي لم تتجاوز الأسبوعين وتم نقلها إلى المستشفى لإسعافها، مشيراً إلى أنهم تعرضوا لضغوط من أجل طمس الملف وتغيير أحداثه.
أما الشاب نذير، صاحب مطعم في الحي، والذي كان يزيل بقايا آثار التكسير من أمام محله وتنظيف ما خلفته الحرائق، فيقول لـ"العربي الجديد" إنه يأمل أن يعود الهدوء إلى منطقته لأن أصحاب المحال متضررون مما يحصل، وأنهم مضطرون لإغلاق محالهم حوالي السادسة مساءً، كما أن نشاطهم قد تراجع منذ بدء الأحداث. ويشير إلى أنه في اليوم الأول من الاحتجاجات اضطر إلى إلقاء بضاعة بنحو ألف دينار (حوالي 360 دولاراً) فسدت جراء إغلاق المحل.
السلطة في تونس فشلت على مدى 60 عاماً في احتواء الأحياء الشعبية، ما سبب ضرراً هيكلياً لهذه الأحياء وسكانها
ولا تختلف قصة سيدي حسين عن قصص أحياء شعبية أخرى شهدت احتجاحات مماثلة، حي المنيهلة والتضامن وغيرها من المناطق المتاخمة للعاصمة تونس. ويوضح الباحث في علم الاجتماع محمد الجويلي، أن "السلطة في تونس فشلت على مدى 60 عاماً في احتواء الأحياء الشعبية، ما سبب ضرراً هيكلياً لهذه الأحياء وسكانها الذين وجدوا أنفسهم خارج منوال التنمية واهتمام الدولة". ويؤكد الجويلي في تصريح لـ"العربي الجديد" أن "السلطة تعاملت بطريقة سيئة مع الأحياء التي تشكّل أحزمة للمدن الكبرى التي نتجت أساساً عن موجات الهجرة الداخلية والنزوح وتوطّن فيها الفقر وضعف خدمات التعليم والنقل والصحة"، لافتاً إلى أن "فشل السلطة في احتواء هذه الأحياء تسبّب في خلق شعور باللاانتماء لسكان الأحياء المفقرة، ولا سيما الشباب منهم ممن يعتبرون أن الدولة لا تهتم لأمرهم بل إنها تحتقرهم". ويضيف "التجاهل ينمّي في الشباب الإحساس بأنه منبوذ، وهو ما يفسر وجوده في مواجهة كل ما يمثل السلطة خلال الاحتجاجات"، معتبراً أن الأمن والشرطة هم ممثلو السلطة في منظور هذا الشباب في أغلب الأحيان.
ويرى الباحث الاجتماعي أن "العقيدة الأمنية لا تعطي اهتماماً للتعامل الأمني مع سكان الأحياء الشعبية والمفقرة، وغالباً ما يكون تدخل الأمن عنيفاً ويواجه بعنف مماثل من السكان عموماً والشبان على وجه الخصوص"، مطالباً بـ"ضرورة اعتماد مقاربة أمنية مختلفة تعتمد على شرطة الجوار التي تنصهر داخل هذه الأحياء، وتتحوّل إلى جزء منها لاحتواء نسب الجريمة داخلها من دون مصادمات"، مشيرا إلى أن "هذه التجربة أثبتت نجاحا في العديد من البلدان والمجتمعات التي كانت تشكو انفلات الأحياء الشعبية وتمردها على السلطة بسبب الفقر".
لا حلول سياسية
سياسياً، لم تخرج تداعيات الحادثة عن المألوف، فالرئيس قيس سعيّد غاضب بشدة ويوبّخ الحكومة وحزامها السياسي، والمعارضة تطالب بإسقاط الحكومة الفاشلة. ويتساءل مراقبون عما إذا ما كانت أحداث سيدي حسين ستعجل برحيل المشيشي هذه المرة، ولكن شروط ذلك غير متوفرة إطلاقا في المرحلة الحالية، إلا بتوافقات كبيرة ومفاجئة ستتبين إمكانية تحقيقها في مشاورات الساعات والأيام المقبلة.
وأكد القيادي في حركة "الشعب" المعارضة، النائب هيكل المكي، أنهم "بصدد صياغة عريضة لسحب الثقة من وزير الداخلية بالنيابة (رئيس الحكومة) هشام المشيشي". وأوضح في تدوينة نشرها أنّه سيتم في العريضة تعداد ما سماها "جرائم المشيشي في حق شعبنا والمطالبة بمحاسبته حساباً عسيراً وإقالته من منصبه". وتابع: "نقول لمشغله راشد الغنوشي وزبانيته سنعطل السير العادي لمجلس النواب إلى حين محاسبة المجرمين".
أعلن قيادي في حركة "الشعب" المعارضة تحضير عريضة لسحب الثقة من المشيشي
ورد المشيشي، في تصريح صحافي، أنه "بالنسبة إلى الأشخاص الذين استغلوا هذه الحادثة لتسجيل نقاط سياسية فهي لا تفيد في شيء وإنما ينبغي عليهم إعطاء الحلول الحقيقية"، مضيفاً "أبناء المناطق المهمشة، لا ينبغي أن يكونوا محل الحسابات السياسية الرخيصة". واعتبر المشيشي أن "حادثة سيدي حسين كانت صادمة للمؤسسة الأمنية التي تعمل منذ مدة على إرساء الأمن الجمهوري وعلى صورة جديدة للأمن الذي يحترم حقوق الإنسان والقانون". وشدد على أن هذه الحادثة "لا تمثل الأمنيين ولا تمثل سوى الأشخاص الذين قاموا بها"، مؤكداً أنه "تم إيقاف الأعوان المتورطين في الحادثة كما تم اتخاذ الإجراءات اللازمة في شأنهم وإحالتهم إلى القضاء".
بدوره، شدّد سعيّد على أن "التجاوزات المسجّلة معزولة وفردية"، مذكّراً بأن ليس هناك علاقة عداء بين الأمن والشعب.
ولكن المنظمات التونسية تعتبر أن "ما حدث في الجيارة وسيدي حسين السيجومي ليست أحداثاً فردية أو معزولة بل هي مواصلة لممارسات سادت طيلة سنوات ما بعد الثورة، وعرفت شيوعاً ملحوظاً في السنتين الأخيرتين، فضحها التعاطي الأمني مع التحركات الاجتماعية خلال شهري ديسمبر/كانون الأول 2020 ويناير/كانون الثاني 2021 التي تمت التغطية عليها من أعلى هرم السلطة، على الرغم من تقارير وتوصيات المنظمات الحقوقية الوطنية والدولية". وذكّرت المنظمات في بيان لها بـ"جرائم مشابهة على غرار ما حصل مع أنور السكرافي في 22 مايو/أيار 2017، وأيمن عثماني في 24 أكتوبر/تشرين الأول 2018، وخميس اليفرني في 8 يونيو/حزيران 2018، وعمر العبيدي في 2 إبريل/نيسان 2018، وأيمن ميلودي في 30 أكتوبر/تشرين الأول 2019، وهيكل الراشدي في 25 يناير 2021".
وتعليقاً على هذا السجال، اعتبر المحلل السياسي ماجد البرهومي، أن "الوضع السياسي متعفن، وأن بعض الأطراف تقوم باستغلال بعض الأحداث من أجل الشيطنة". وأضاف في تصريح لـ"العربي الجديد" أن البلاد "بلغت قمة النذالة السياسية"، متابعاً "دخلنا في صراع وحروب الملفات القضائية، فكل طرف سياسي يمكنه شيطنة الطرف الآخر من خلال تلفيق ملف قضائي وهتك الأعراض"، معتبراً أن "الطبقة السياسية التي تتصارع بالملفات وتقوم بتوظيفها تتسبب بانتشار الانتهاكات".
ولفت المحلل السياسي إلى أن "العديد من الأحزاب تشوّه بعضها البعض، ومن الطبيعي أنه كلما تحصل احتجاجات يتم استغلالها سياسياً وتتحول إلى سجالات، كما أن السياسة المنتهجة تغيب عنها المبادئ والأخلاق". وحول موقفه من الأحداث المستجدة في المنطقة، رأى أن "المؤسسة الأمنية مطالبة اليوم بمراجعة نفسها، لا سيما أمام تكرر الانتهاكات في الفترة الأخيرة". وتابع "يوجد خيط رفيع بين هيبة الدولة وحقوق الإنسان، وأمام الجرائم المنتشرة في البلاد لا يمكن التساهل مع المجرمين ويجب فرض الأمن، وفي المقابل هناك حقوق للمواطنين، وبالتالي هناك خيط رفيع بين المسألتين"، مؤكداً أن "هذا الأمر من شأنه أن يضرب عملية الاستقرار السياسي بالبلاد ويؤدي إلى الفوضى". ودعا المؤسسة الأمنية إلى "الرسكلة (إعادة التكوين) حتى تتمكن من التعامل السليم والجيد أمام مثل هذه الوضعيات".
وبدا لافتاً استقبال سعيّد، عشيّة يوم الجمعة، الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، نور الدين الطبوبي، خصوصاً أن الاتحاد غير راضٍ عن تعطيل مبادرته للحوار الوطني. وقال بيان للرئاسة إن الرئيس جدد "التأكيد على انفتاحه على الحوار من أجل التوصّل إلى حلّ للأزمة الراهنة". وشدّد، في السياق نفسه، على أنه "لا حوار مع من تعلّقت به شبهات فساد، وبأنه لا مجال للتفريط في أيّ مليم من أموال الشعب التونسي". ولا يشير البيان حرفياً إلى حلحلة في موقف سعيّد "الرافض للتحاور مع الفاسدين" وهو موقفه القديم نفسه، ولكن يمكن اعتماد بعض تأويلات قريبة تفيد بأن سعيّد قد يكون وافق على بحث صيغ حوار لا تحرجه شخصياً، وهو ما يؤكده تفاؤل الطبوبي الذي صرح إثر اللقاء بأن "هناك بوادر انفراج على مستوى الأزمة السياسية الحاصلة في البلاد" ، قائلاً: "بدأنا نتخطّى الأزمة السياسية واللقاء كان إيجابياً، وتونس ستتعافى قريباً".