إنها الورطة التي تحدث عنها المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد حين قال "إن عرفات ورط شعبه بمصيدةٍ لا مخرج منها". ولعل بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة قد ورطا دولته في مستنقع لا يمكن الفكاك منه.
كشفت عملية الجيش الإسرائيلي الأخيرة في جنين مدى ضعف السلطة الفلسطينية، والمخاطر التي تنتظر إسرائيل إذا حلت مجموعات المقاومة الفلسطينية محلها. ينسب بعض المحللون ضعف السلطة إلى إسرائيل لتجريدها مواردها، وبعضهم الآخر ينسبه إلى رئيسها محمود عباس، الذي أمضى عقدين في السلطة، ولم يحقق شيئًا.
في الأيام الأخيرة، دار نقاشٌ مكثفٌ في الدوائر الإسرائيلية، ووسائل الإعلام الإسرائيلية، بشأن قرار الكابينيت انقاذ السلطة الفلسطينية من الانهيار، عبر حزمةٍ من المساعدات الاقتصادية، وفي ظل رغبة حكومة نتنياهو زيادة التنسيق الأمني معها لمنع الفوضى، رغم رفض اليمين المتطرف، بقيادة بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير.
كذلك قالت أغلبية ساحقة 86%، أنه لا يحق للسلطة اعتقال أعضاء هذه المجموعات المقاومة لمنعهم من القيام بأعمالٍ مسلحةٍ ضد الاحتلال
لكن على ما يبدو فإن الأزمات الداخلية، والتصدع الإسرائيلي، على خلفية التعديلات القضائية، وتصاعد المواجهات بين الاحتلال وفصائل المقاومة، خاصةً بعد فشله في اقتحام مخيم جنين، قد دفع حكومة نتنياهو إلى إعادة النظر في محاولاتها حماية رئيسها، وربما إنقاذ ما يمكن إنقاذه، بحجة تعزيز السلطة ومنع انهيارها.
من جهةٍ أخرى، صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن إسرائيل تعتبر السلطة الفلسطينية ضروريةً، وتستعد لمساعدتها ماليًا، لتجنب انهيارها. هذا يشير إلى الاعتراف بأهمية استدامة السلطة سياسيًا واقتصاديًا، وتجنب الفراغ السياسي والأمني في المناطق الفلسطينية.
"منذ عام 2014؛ حين توقفت المفاوضات، يسعى نتنياهو جاهدًا إلى تهميش دور السلطة، وجعله غير فاعلٍ، وبلا قيمةٍ أو تأثيرٍ. وقد روج مرارًا لفكرةٍ لا أساس لها؛ طرحها زئيف جابوتنسكي لأول مرة في مؤتمر هرتسليا، وهي: لا يمكن تحقيق السلام مع السكان الأصليين؛ أي الفلسطينيين. بدلاً من ذلك؛ سعت إسرائيل إلى عقد اتفاقات سلامٍ مع الدول المجاورة، على أمل إحباط السلطة الفلسطينية وإجبارها على قبول شروط إسرائيل. كانت هذه فلسفة نتنياهو الأساسية، التي تهدف إلى إضعاف الجانب الفلسطيني.
اليوم؛ يدرك نتنياهو أن نهاية دور السلطة الوظيفي يعني تحمل السلطات الإسرائيلية المسؤولية الكاملة عن إدارة الأراضي الفلسطينية وحكمها، وهذا يعني بأن الأوضاع السياسية والأمنية ستتدهور كثيرًا، ما يزيد من التوتر في المنطقة، ويؤثر على الحكومة الإسرائيلية، فمن المحتمل أن تتسبب هذه الأوضاع الجديدة في إعادة رسم الخريطة السياسة وبنية النظام السياسي الإسرائيلي وهيكليته.
يؤمن اليمين الإسرائيلي المتطرف بضرورة الدفع نحو انهيار السلطة وسيادة الفوضى، وانتهاز الفرصة لملء الضفة الغربية بالمستوطنات، ودفع الفلسطينيين إلى الرحيل، ويعتبرون أن في هذه الفوضى مصلحةً أكبر لإسرائيل. في حين ترى بعض التيارات الإسرائيلية؛ وكذلك الجيش، ضرورة إبقاء كيانٍ فلسطينيٍ مستقلٍ (أقل من دولة وأكثر من حكمٍ ذاتيٍ)، والحفاظ على السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وحكم "حماس" في قطاع غزّة؛ لضمان النظام، وإعفاء إسرائيل من مهمة إدارة الشؤون الفلسطينية اليومية وتكلفتها.
لم تقبل السلطة الفلسطينية بالشروط الاسرائيلية، التي طرحها نتنياهو في اجتماع الكابينيت، بخصوص منع انهيارها. وهي التوقف عن ملاحقة إسرائيل في المحاكم والمنظمات الدولية، ومحاربة التحريض في وسائل الإعلام والتعليم الفلسطينية، وقطع التمويل عن عائلات منفذي العمليات، ومنع البناء غير القانوني في المناطق ج. فهي تعلم جيدًا أن القيام بذلك سيؤدي بالتأكيد إلى زوالها، في ضوء الاتجاهات الحالية في المجتمع الفلسطيني، لذا دعت الآن إلى إحياء تشكيل حكومة وحدة وطنية، تتألف من عدة فصائل، منهم حماس والجهاد الإسلامي.
ينسب بعض المحللون ضعف السلطة إلى إسرائيل لتجريدها مواردها، وبعضهم الآخر ينسبه إلى رئيسها محمود عباس
لا تحظى السلطة اليوم بشعبيةٍ حقيقةٍ، بل وتقترب من انهيارها الفعلي، خاصةً بعد قيامها بحملة اعتقالاتٍ واسعةٍ لشبابٍ من المقاومة في جنين، ما خلق مزيدًا من العداء لها، ينذر بتفاقم العنف بين الفلسطينيين، ويهدد السلطة ذاتها. وهو ما تؤكده الاستطلاعات الأخيرة، إذ يُظهر الاستطلاع رقم 88، الذي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، بين 7-11 يونيو/حزيران الماضي، في قطاع غزّة والضفة الغربية، أن معظم الجمهور الفلسطيني يعتبر انهيار السلطة الفلسطينية شيئًا جيدًا. إذ قال 43% منهم إن إجراءات الاحتلال العقابية ضد السلطة تهدف لإضعافها، في حين اعتبر 25% منهم إن الاحتلال يدفع السلطة نحو الانهيار، في مقابل 28% يرون أن الاحتلال لا يريد إضعاف أو انهيار السلطة. كما ذكر 63% من المستطلعة آراؤهم أن "مصلحة الاحتلال في بقاء السلطة"، مقابل 34% ترى مصلحة الاحتلال في انهيارها.
يشعر الفلسطينيون أن السلطة الفلسطينية غير قادرةٍ على حماية المدنيين من الهجمات الإسرائيلية، التي زادت منذ تشكيل الحكومة اليمينية الجديدة. بل تقوم الأولى بملاحقة واعتقال المقاومين، وعليه يدعم 71% من الجمهور الفلسطيني تشكيل مجموعاتٍ مقاومةٍ، مثل "عرين الأسود" و"كتيبة جنين"، لا تخضع لأوامر السلطة، وليست جزءًا من قوى الأمن الرسمية، مقابل 23% يعارضون ذلك. وأعلن 80 % ممن شملهم الاستطلاع معارضتهم تسليم أفراد المقاومة أنفسهم وأسلحتهم للسلطة، لحمايتهم من اغتيالات الاحتلال، مقابل 16% قالوا إنهم يؤيدون ذلك.
كذلك قالت أغلبية ساحقة 86%، أنه لا يحق للسلطة اعتقال أعضاء هذه المجموعات المقاومة لمنعهم من القيام بأعمالٍ مسلحةٍ ضد الاحتلال، أو لحمايتهم، فيما اعتبر 11% أنه يحق لها القيام بذلك. وأعرب 58% عن اعتقادهم بأن هذه المجموعات المقاومة ستمتد وتنتشر في مناطق أخرى بالضفة. كما وتوقعت أغلبية 51% تصعيدًا يؤدي إلى انتفاضةٍ ثالثةٍ مسلحةٍ.
في الحقيقة؛ من المرجح أن محاولات إسرائيل إنقاذ السلطة الفلسطينية لن تؤدي إلى أي شيءٍ، إذ تدعوا السلطة الفلسطينية الآن إلى إحياء تشكيل حكومة وحدةٍ وطنيةٍ، تتألف من عدة فصائل، منها حماس والجهاد الإسلامي، ليس من أجل المصالح الوطنية، ولكن للدفاع عن بقائها، ومصالح نخبها الحاكمة، مع رهانها على أن دورها الوظيفي لم ينته إقليميًا بعد، والأوضاع الدولية والإقليمية تتطلب الإبقاء على وهم الدولة الفلسطينية، وعلى سلطةٍ فلسطينيةٍ، وإن كانت ضعيفة.