أعلى جسر السادس من أكتوبر، حيث كان يستقل سيارة نقل جماعي "ميكروباص" قادماً من حي الدقي متجهاً إلى وسط القاهرة، فوجئ "م.ع."، وهو صحافي في إحدى المؤسسات التابعة للشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، بمجموعة من أفراد الأمن في زي مدني، يأمرونه بالترجل من السيارة، وتسليم هاتفه المحمول بعد إدخال كلمة المرور الخاصة به، فلم يملك الشاب العشريني سوى تنفيذ الأوامر. لحظات قليلة قام فيها الضابط بفحص محتويات الهاتف، ثم ألقى القبض على الصحافي الشاب واصطحبه إلى أحد مقار الاحتجاز، والتي قضى فيها جزءاً من الليل قبل الإفراج عنه بعد تدخّل المؤسسة التي يعمل فيها.
حالة الصحافي "م.ع."، الذي رفض الكشف عن اسمه خوفاً من الملاحقة الأمنية، ليست الوحيدة التي وقعت خلال الأيام الماضية، إذ إن مناطق كثيرة في العاصمة المصرية، خصوصاً منطقة وسط القاهرة، شهدت كمائن شرطية بهذا الشكل، تقوم بتفتيش هواتف المواطنين وإلقاء القبض على أي شخص يشتبه فيه، وذلك قبل أيام من التاريخ الذي ضُرب لدعوات التظاهر "مجهولة المصدر".
مصر... دعوات للتظاهر مجهولة المصدر
وعلى الرغم من تصاعد الحديث داخل مصر وخارجها عما تسمى بدعوات "11/11" (يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل)، إلا أن أحداً لا يعلم على وجه التحديد من يقف وراء هذه الدعوات للتظاهر والخروج إلى الشوارع، ولماذا تم اختيار ذلك اليوم تحديداً، وما هي خطة التحرك خلاله.
لا يعلم أحد على وجه التحديد من يقف وراء دعوات التظاهر في مصر الشهر المقبل
وبينما لم يعلن أي حزب أو جماعة من المعارضة دعمه تلك الدعوات، وتشجيعه المواطنين على المشاركة بها، يبقى السؤال المطروح هو: لماذا يجرى الترويج لهذه التظاهرات والنفخ فيها أكثر من اللازم؟
وكان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قد ذكّر، خلال انعقاد المؤتمر الاقتصادي أمس الأحد، بتظاهرات 18 و19 يناير/كانون الثاني عام 1977، اعتراضاً على رفع أسعار بعض السلع، لكنه في الوقت ذاته ألقى باللوم في الوقت الحالي على الزيادة السكّانية.
سياسي مصري بارز، وهو قيادي حزبي سابق، قال لـ"العربي الجديد" إن "الظاهر حالياً هو أن الاهتمام والحديث عن تلك الدعوات لا يصدر سوى من جهة أجهزة ومؤسسات الدولة، فهي الوحيدة التي تتعامل مع الموضوع وكأنه أمر واقع، بينما المواطن العادي والقوى السياسية والمعارضة لا تتعاطى مع الأمر بجدية".
وأضاف السياسي المصري أن "المراقب والمتابع لوسائل الإعلام سوف يلاحظ توجهاً عاماً من قبل الإعلاميين والمذيعين بالتهويل والنفخ في تلك الدعوات وتصويرها وكأنها حقيقة واقعية خطيرة، تجب مواجهتها".
وعلمت "العربي الجديد" من مصادر صحافية أن هناك حالة من التوتر داخل المؤسسات التابعة للشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، للتعامل مع "دعوات 11/11" المزعومة، ومواجهتها بأخبار تؤكد "شعبية الرئيس عبد الفتاح السيسي"، وتبرز "إنجازاته"، على حدّ وصف المصادر.
مصادر سياسية وحزبية، وأخرى في تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين، كشفت عن اجتماعات جرت خلال الأيام القليلة الماضية، بشأن ترتيب الظهور الإعلامي لعدد من ممثلي أحزاب ما يعرفون بمعارضة معسكر 30 يونيو، والذين يشارك بعضهم في التنسيقية، في حين يشارك البعض الآخر في الحوار الوطني.
وقال مصدر حزبي مشارك في الحوار الوطني إنه "طُلب من عدد من السياسيين المحسوبين على المعارضة، الظهور إعلامياً، خلال الفترة المقبلة، للرد على ما وصفه بـ"الادعاءات" التي يروجها معارضو الخارج لحث المواطنين على التظاهر في 11-11".
وأكد السياسي المصري أنه "إذا كانت هناك مخاوف لدى دوائر صناعة القرار المصري، فإنها تعود لأسباب كثيرة، أبرزها تزايد حالة الاحتقان في الشارع، والتي لم تعد خافية على أحد، بسبب الأزمة الاقتصادية والنقص الحاد في الدولار، والتي دفعت أخيراً عدداً من أصحاب مزارع الدواجن لإعدام الكتاكيت بسبب عدم توافر الأعلاف اللازمة لها".
ضغوط اقتصادية وخارجية
الحديث بشأن دعوات التظاهر، أشارت إليه أيضاً شخصية اقتصادية مشاركة في الحوار الوطني، قائلة إن "مماطلة صندوق النقد الدولي في صرف القرض الذي طلبته الحكومة يضع ضغوطاً كبيرة على السلطة إزاء الاحتياجات العاجلة".
مماطلة صندوق النقد في صرف القرض الذي طلبته الحكومة المصرية، يضع ضغوطاً كبيرة على السلطة
ودعا رئيس حزب الإصلاح والتنمية محمد أنور السادات، أخيراً، السيسي إلى عدم الترشح لولاية جديدة في الانتخابات الرئاسية المقررة عام 2024، وإتاحة الفرصة أمام دماء جديدة، بحسب بيان صادر عن مكتبه.
في مقابل ذلك، كشفت مصادر حزبية في عدد من المحافظات عن إجراءات عاجلة قالت إنها تأتي لتخفيف الاحتقان في الشارع المصري، عبر التوسع في توزيع مواد تموينية مجانية على القرى والمراكز في هذه المحافظات.
وأشارت المصادر إلى أنه كان معتاداً خلال الفترات الماضية توزيع تلك المواد التموينية في المواسم فقط، ولكنهم فوجئوا بإخطارهم في دواوين المحافظات بالاستعداد لتسلم تلك المواد وتوزيعها، تحت شعار "هدية الرئيس".
ونهاية يوليو/تموز الماضي، وجّه الرئيس المصري بصرف مساعدات استثنائية لـ9 ملايين أسرة لمدة 6 أشهر مقبلة، بتكلفة إجمالية حوالي مليار جنيه (حوالي 51 مليون دولار أميركي) شهرياً، للأسر الأكثر احتياجاً، ومن أصحاب المعاشات الذين يحصلون على معاش شهري أقل من 2500 جنيه (حوالي 128 دولارا)، وأيضاً من العاملين في الجهاز الإداري للدولة الذين يحصلون على راتب أقل من 2700 جنيه شهرياً.
الحديث عن حالة القلق داخل المؤسسة الرسمية بشأن دعوات التظاهر هو أنها لا ترتبط بأسباب داخلية فقط، ولكنها ترتبط أيضاً بأسباب خارجية، تتعلق بالتزامن بين التاريخ المحدد للتظاهرات، وقمة المناخ التي ستنظمها القاهرة الشهر المقبل (من 7 إلى 18 نوفمبر)، في ظلّ ضغوط خارجية مرتبطة بالأوضاع الحقوقية في مصر.
وفقدت مصر 75 مليون دولار إضافية من المساعدات العسكرية الأميركية، بعدما منع عضو ديمقراطي كبير في مجلس الشيوخ الأميركي (باتريك ليهي) التمويلَ الأسبوع الماضي، بسبب مخاوف تتعلق بسجل القاهرة في ما يتعلق بحقوق الإنسان، بما في ذلك احتجاز سجناء سياسيين.
بالتزامن مع ذلك، تبنى البرلمان الأوروبي، في جلسته المنعقدة الخميس الماضي، قراراً بتكرار دعوته إلى الإفراج عن جميع المحتجزين تعسفياً في مصر، وبشكل خاص وملحّ علاء عبد الفتاح.
وكان عضوان في البرلمان الأوروبي يمثلان فرنسا والسويد تقدما، الإثنين الماضي، بطلب للبرلمان لتبني قرار يدين الاحتجاز التعسفي في مصر، نيابة عن مجموعة الخُضر في البرلمان.
وجاء ذلك بالتزامن مع اعتصام مفتوح بدأته سناء سيف، شقيقة علاء عبد الفتاح، أمام مقر وزارة الخارجية البريطانية في لندن، احتجاجاً على رفض السلطات المصرية السماح للمسؤولين البريطانيين بزيارة شقيقها المضرب عن الطعام جزئياً منذ 200 يوم.