كشفت مصادر دبلوماسية مصرية، لـ"العربي الجديد"، أن تنويع مصر لأسواق أسلحتها، وعرقلة منتدى غاز شرق البحر المتوسط لطموحات روسيا في دخول المنطقة بثقلها، وحصول المنتدى على دعم مباشر من الولايات المتحدة، والاتفاقات المبدئية بين دول المنتدى وشركات غربية لمنحها حقوق التنقيب عن ثروات المنطقة، تمثل السبب الرئيس للبرود الذي يكتنف العلاقات المصرية الروسية في الوقت الحالي. كما أن هذا الأمر أدى إلى تصاعد التنسيق الروسي مع إثيوبيا في مجالات شتى، وليس سد النهضة فقط، بما يحولها لرأس حربة السياسة الروسية في المنطقة، وجعلها الذراع المساعدة الأولى لموسكو في شمال وشرق القارة الأفريقية، بدلاً من الدور الذي كان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يأمل في لعبه بعيد صعوده إلى السلطة.
ومع مرور أسبوع على جلسة مجلس الأمن لنظر قضية سد النهضة، واستمرار فشل الاتصالات الدبلوماسية لإصدار بيان لدعوة إثيوبيا إلى الالتزام بالتفاوض بحسن نية، أصبح واضحاً لعب روسيا دوراً حيوياً ضد مصر، لا يقتصر على كلمتها في الجلسة برفض إلزام إثيوبيا بأي شيء، وتوجيه انتقاد مبطن لمصر، مطالبة إياها بوقف التهديد باستخدام القوة لحل هذه الأزمة، بل يتخطى ذلك إلى إفشال محاولات لحلحلة الموقف.
أيقنت موسكو أن السيسي كان يستخدم توثيق العلاقة بها لاستفزاز واشنطن
وبعيداً عن ملف السياحة والطيران الذي اتفق الجانبان مؤخراً، وبعد عناء من المصريين وإنفاق مئات الملايين من الدولارات على تحديث نظم المطارات الأمنية، على تجنيبه الخلافات السياسية والدبلوماسية الأخرى، أضافت المصادر أن موسكو أيقنت منذ التقارب الاستثنائي بين السيسي والرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أن الأول كان يستخدم توثيق العلاقة بها كوسيلة لاستفزاز واشنطن وجذب اهتمامها بمصر والتعامل مع نظامه، وأن القاهرة فشلت على مدار العامين الماضيين في تبديد هذه الرؤية، التي انعكست على العديد من الملفات الاقتصادية والعسكرية.
وأوضحت المصادر أن تردد مصر في شراء مزيد من الأسلحة الروسية، حسبما كان يرغب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وقرب تراجعها للمركز الخامس على لائحة مصدري الأسلحة للجيش المصري، الذي أصبح إلى جانب المجر ودول الخليج من أكبر مستوردي الأسلحة في العالم خلال السنوات الخمس الأخيرة، كان له أيضاً تأثير سلبي مباشر على العلاقة بين البلدين. وأشارت إلى أن هذا الأمر أدى إلى إلغاء بعض الزيارات الرسمية التي كانت مقررة بين الدولتين منذ مطلع 2020، واكتفاء بوتين بإرسال وزير الخارجية سيرغي لافروف للقاء السيسي منذ ثلاثة أشهر، بدلاً من حضوره في زيارة كانت مخططة وتم التحضير لها بالفعل في الربيع الماضي.
وبحسب وثائق حكومية، اطلع عليها "العربي الجديد"، فإن مصر أنفقت نحو 15 مليار دولار بين 2014 و2017 على التسليح، منها نحو 60 في المائة على الأسلحة الروسية. لكن في السنوات التالية استوردت نحو 43 في المائة من أسلحتها من فرنسا، تليها الولايات المتحدة وروسيا، بينما من المقرر بعد الصفقة التاريخية بقيمة 10 مليارات يورو الموقعة مع إيطاليا، وزيادة الواردات الألمانية في المجال البحري تحديداً، أن تتراجع روسيا إلى المركز الخامس، في ظل تهديدات أميركية بتعليق المساعدات ومراجعة العلاقات حال المضي قدماً في صفقة المقاتلات الروسية "سوخوي 35". وهذه الصفقة كان من المتفق أن تتم نهائياً بين 2021 و2022 بقوام 20 طائرة، وصلت منها فقط، بحسب الإعلام الروسي، 5 طائرات، بينما يحيط بباقي الكمية مصير مجهول، في ظل حرص مصر المتصاعد على توثيق علاقتها بالإدارة الأميركية لإحداث اختراق في مفاوضات سد النهضة، والاهتمام الروسي الضعيف بالملف برمته، الأمر الذي كان له تأثير مباشر على العلاقات بين القاهرة وباريس، إذ اتفق الجانبان على صفقة لشراء 30 طائرة "رافال" جديدة، بقيمة 3.9 مليارات يورو، بقرض تمويلي يمتد لأكثر من 10 سنوات.
وبحسب المصادر فإن روسيا كانت حتى قبل التدخل الأميركي المباشر في قضية سد النهضة، برعاية المفاوضات التي أدارها وزير الخزانة السابق ستيفن منوتشين، تلوح باهتمام استثنائي بقضية السد، بعد حديث بوتين والسيسي المطول عنها على هامش قمة "روسيا-أفريقيا" في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، وحديث رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد آنذاك عن "ارتياحه للتدخل الروسي"، ما دفع الكرملين لإصدار بيان يعرض فيه الوساطة.
لوحت موسكو باشتراط تدخلها في حل مشكلة السد بتطوير العلاقات العسكرية مع القاهرة
لكن ما حدث بعد ذلك، بحسب المصادر المصرية، أن موسكو لوحت باشتراط تدخلها في حل مشكلة السد بتطوير العلاقات العسكرية مع القاهرة، والتي تعد محوراً أساسياً للتعاون منذ صعود السيسي إلى السلطة. فبينما كانت واشنطن ممتنعة عن إرسال مساعداتها العسكرية السنوية إلى مصر بين 2013 و2014، زار السيسي روسيا أكثر من مرة لعقد صفقات عسكرية، شملت منظومة "بريزيدنت - إس" المخصصة لحماية الطائرات والمروحيات المدنية والحربية من الصواريخ، وصواريخ "أرض - جو" و"جو - جو" وبحرية أيضاً، ومروحيات "مي - 28 " و"مي - 26" و"كا - 52"، والصواريخ المضادة للطائرات "أنتي - 2500"، ومنظومة "إس 300"، وطائرات "ميغ 29 إم" و"ميغ 35"، ومقاتلات "سوخوي 30"، وزوارق صواريخ، وقاذفات "آر بي جي"، ودبابات "تي 90"، وفوق كل ذلك أهدت روسيا مصر طراداً من طراز "مولنيا".
وفي 2014 توصلت روسيا ومصر إلى اتفاقيات حول التعاون العسكري التقني بنحو 3.5 مليارات دولار. وشملت الاتفاقات عمليات تسليم القاهرة 46 مقاتلة من طراز "ميغ-29" حتى عام 2020، و46 مروحية استطلاع وهجوم من طراز "Ka-52" (التمساح)، تسلمت مصر 40 منها. وفي مايو/ أيار 2017، فازت روسيا بمناقصة لتزويد مصر بطوافات من طراز "Ka-52K Katran" لوضعها على متن حاملة المروحيات من طراز "ميسترال" التي حصلت عليها من فرنسا في 2015.
وبحسب المصادر فإن التدريبات العسكرية التي جمعت بين جيشي البلدين نهاية العام الماضي، وتمثيل مصر في عدد من المناورات الروسية، لا يعدو كونه أمراً رمزياً إذا ما قورن بالتأثير الكبير الذي تخشاه روسيا إذا استمر التقارب بين مصر وتركيا، وأسفر هذا عن انضمام الأخيرة إلى منتدى شرق البحر المتوسط للغاز، إذ سيعني هذا عملياً تراجع نفوذ موسكو الاقتصادي في المنطقة، ومحاصرة جهودها التي رصدتها واشنطن منذ عدة سنوات، والتي رعت جهود مصر والاحتلال الإسرائيلي واليونان وقبرص - وبخاصة الدول الثلاث الأخيرة - لإنشاء المنتدى أولاً، ثم التحرك المشترك لاحتكار أنشطة التنقيب عن الغاز وتوريده من المنطقة إلى أوروبا. ويأتي الطموح التركي للانضمام إلى المنتدى، على خلفية إيمان الجميع بأن توحيد السوق يصب في مصلحتهم الكلية، لتفاقم مشاكل الروس.
اتفاق التمويل الفني والمالي لمشروع الضبعة النووي لا يزال قائماً بين البلدين
وبمعزل عن هذه الخلافات، فإنه لا يزال قائماً بين البلدين اتفاق التمويل الفني والمالي لمشروع الضبعة النووي، بقرض قياسي في تاريخ مصر، قالت الحكومة إنه يبلغ 25 مليار يورو، فيما كشفت روسيا في 2018 أنه زاد إلى 45 ملياراً، دون الكشف عن تفاصيل تتعلق بالسداد أو حجم الفائدة، بدعوى حاجة شركة "روس آتوم" الحكومية الروسية إلى مزيد من الأموال، التي ترجمت إلى اتفاقية اقتراض، هي زيادة أسعار السلع والخامات والخدمات المرفقية الضرورية لإنشاء المفاعل المصري، قياساً بسعر السوق العالمية، بسبب تعويم الجنيه المصري نهاية 2016، وليس زيادة أسعار التكنولوجيا والخبرات والأيدي العاملة الروسية نفسها. وتخضع تفاصيل القرض الروسي لتغيير دائم بين البلدين. فبعدما كان من المقرر أن تبدأ روسيا في منح مصر دفعات القرض منذ 2016، فقد تم تأخيرها إلى 2018، مع تعويض غياب الدفعات الأولى بزيادة المبالغ في الدفعات اللاحقة. وكان من المتفق عليه أن تستخدم مصر القرض بين 2016 و2028. كما أقرضت روسيا مصر ثمن جرارات القطارات المجرية في 2020، والتي تضمنت شراء 1300 عربة سكك حديدية جديدة، بقيمة مليار و17 مليون يورو.
في مقابل ذلك، تمضي روسيا قدماً لتكون ثاني أكبر مستثمر مباشر في إثيوبيا بعد الصين، وهو مجال لا يسعها المنافسة فيه بمصر في ظل الوجود الأوروبي القوي. كما أن تطوير العلاقات العسكرية بين البلدين لم يعد قاصراً، كما السنوات الماضية، على التدريب والتسليح الخفيف، بل أصبحت روسيا المورد الأول للجيش الإثيوبي منذ عامين، وتعزز ذلك بعقد منتدى الحوار العسكري بين البلدين منذ أيام في موسكو، ثم أديس أبابا، وتوقيع بعض الاتفاقيات العسكرية. وفي مايو 2020 كشف مصدر إثيوبي، لـ"العربي الجديد"، أن الجيش نفذ مرحلة أساسية من مراحل نشر منظومات دفاع جوي متطورة حول سد النهضة، استعداداً لأي هجوم مصري محتمل. ثم اكتمل نشر المنظومات خلال يونيو/ حزيران 2020. وبنهايتها أصبح لدى إثيوبيا قاعدتان متكاملتان للدفاع الجوي عن السد، إحداهما قريبة للغاية منه والأخرى على بعد استراتيجي. وذكر المصدر أن بلاده حصلت على المنظومات الجديدة من عدة دول، أبرزها روسيا، وأنه تم تجريبها جميعاً في عدة مناسبات مطلع 2020، قبل نقلها إلى ولاية بني شنقول التي يقع فيها السد. وبدأت أديس أبابا تشغيل نظام الدفاع الجوي الروسي "بانتسير-إس1" في فبراير/ شباط 2019 بعد حصولها عليه بعدة أسابيع.