تتحرك أطراف فاعلة في المشهد السوري لوضع ترتيبات جديدة لشمال البلاد، ربما تبدّل المعطيات في خريطة السيطرة، خصوصاً في شرقي نهر الفرات الذي يشهد بين وقت وآخر اشتباكات بين فصائل المعارضة المدعومة من الجيش التركي، وبين "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) التي وجدت نفسها بين الخيارات الصعبة. وتشي التحركات السياسية المتلاحقة بأن هناك صفقة ما في شمال سورية يجري التحضير لها لتفادي تصعيد عسكري أكبر من قبل الجانب التركي الذي يتطلع لتحقيق مكاسب على الأرض على حساب "قسد"، التي أوفدت مجدداً إلهام أحمد، رئيسة الهيئة التنفيذية لـ"مجلس سورية الديمقراطية" (مسد)، الجناح السياسي لهذه القوات، إلى موسكو للبحث في مقترحات روسية تخص الشمال السوري. وكانت أحمد قد كشفت قبل أيام "أن مسؤولي شمال شرقي سورية رفضوا مقترحاً روسياً بإدخال ثلاثة آلاف عنصر من القوات الحكومية إلى مدينة كوباني (عين العرب)"، وفق ما جاء في مواقع إخبارية تابعة لـ"الإدارة الذاتية". وأشارت إلى أن الرفض غايته "منع تكرار سيناريو درعا في مدينة كوباني".
توجهت إلهام أحمد إلى موسكو للبحث في مقترحات روسية تخص الشمال السوري
ولكن صحيفة "الوطن" التابعة للنظام السوري قالت أمس الإثنين إن أحمد تتناول في موسكو المقترح الروسي خلال مباحثات في وزارة الخارجية، زاعمة أن انتشار قوات النظام في مدينة عين العرب ذات الغالبية الكردية "لحمايتها من خطر الغزو التركي الذي لا يزال قائماً وداهماً". وقالت إن المقترح الروسي جاء بعد ورود أنباء عن استعداد الجيش التركي وفصائل المعارضة السورية في الشمال لاقتحام هذه المدينة التي تقع على الحدود السورية التركية في شرقي الفرات مباشرة.
وللمدينة أهمية قصوى بالنسبة لـ"قسد" كونها الثقل السكاني الأبرز للأكراد السوريين، وخسارتها تُفقد هذه القوات الكثير من رصيدها في الشارع الكردي الذي كان خسر منطقة لا تقل أهمية في عام 2018 وهي عفرين في ريف حلب الشمالي الغربي في غربي نهر الفرات. وكان الجانبان التركي والروسي قد وضعا ترتيبات تخص عين العرب أواخر عام 2019، تقوم على تسيير دوريات مشتركة على حدود المدينة للتأكد من خلو المناطق المحيطة بها من أي وجود عسكري من "قسد". وسيّر الجانبان منذ ذلك الحين عشرات الدوريات بعمق 5 كيلومترات. وتقع عين العرب ضمن الحدود الإدارية لمحافظة حلب، وتضم مئات القرى المختلطة ما بين أكراد وعرب. وتقع المدينة إلى الشرق من نهر الفرات بنحو 30 كيلومتراً، وهي كانت خضعت للوحدات الكردية في عام 2012 في سياق اتفاق مع النظام الذي أخلى المنطقة في ذلك الحين. وتعرّضت عين العرب لهجوم واسع النطاق من قبل تنظيم "داعش" الذي هاجمها من أكثر من محور، ولكن طيران التحالف الدولي وقوات كردية وفصائل سورية معارضة حالت دون سقوط المنطقة بيد التنظيم.
ويبدو أن "قسد" تبحث عن صيغة تتيح للروس والنظام الانتشار في محيط مدينة عين العرب لدرء الخطر التركي عنها من دون السيطرة الفعلية على المنطقة، أو ربما تمنح النظام امتيازات جديدة في منطقة شرقي الفرات أو غربه، من بينها السماح له بإنشاء مربع أمني إما في منبج أو الطبقة أو الرقة. ولكن هذا الأمر لن يرضي أنقرة التي تريد دفع هذه القوات بعيداً عن حدودها، مع الحصول على مناطق في غربي الفرات مثل تل رفعت أو منبج أو شرقي الفرات مثل عين عيسى أو تل تمر.
ورأى المحلل السياسي السوري الكردي فريد سعدون، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "مجلس سورية الديمقراطية" (مسد) "يكرر الأخطاء السابقة نفسها"، مضيفاً: "مسد لا تتنازل، وفي الوقت نفسه الروس والحكومة السورية لا يقدّمون أي تسهيلات لعقد اتفاق". وأعرب عن اعتقاده بأن "الأمر منوط بالأميركيين، فواشنطن من تقرر اتفاق قسد والنظام برعاية روسية من عدمه". وتابع: واشنطن لم تحدد بعد مصير شرقي الفرات، ومن ثم فإن زيارة إلهام أحمد لن تؤدي إلى نتيجة. القرار الأميركي هو الفصل، فإما أن تقرر الولايات المتحدة الانسحاب من شرقي الفرات وتترك الأمر للروس، ومن ثم عودة النظام إلى كل المنطقة وليس فقط عين العرب، أو يبقى الأميركيون في المنطقة ما يعني عدم السماح بأي اتفاق بين "قسد" والنظام.
كل الأطراف تبحث عن مكاسب على حساب "قسد" التي تجد نفسها دائماً أمام الخيارات الصعبة
ومن الواضح أن كل الأطراف تبحث عن مكاسب على حساب "قسد" التي تجد نفسها دائماً أمام الخيارات الصعبة بل المؤلمة، في ظل موقف "متراخٍ" على الأقل إعلامياً من قبل الولايات المتحدة، الداعم الرئيسي لهذه القوات. وتدرك "قسد" التي تشكّل الوحدات الكردية عمودها الرئيسي، أن تجنّب الخطر التركي يعني إرضاء الجانب الروسي وتقديم مكاسب له في المناطق التي قُتل الآلاف من مقاتليها لتحريرها من تنظيم "داعش".
من جهته، يتحرك الجانب الروسي لضمان ترسيخ أقدامه أكثر في شرقي الفرات، وهي المنطقة الأهم في سورية، والحصول على مكاسب حقيقية للنظام في المنطقة الزاخرة بالثروات، والتي يخطط النظام لاستعادتها لتحسين اقتصاده. وكان ملف الشمال السوري حاضراً على طاولة مباحثات روسية إيرانية جرت أمس الأول الأحد، في العاصمة الإيرانية بين المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سورية ألكسندر لافرنتييف ومساعد وزير الخارجية سيرغي فيرشينين، وبين وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان وكبير مستشاري الأخير للشؤون السياسية الخاصة علي أصغر خاجي. وتعد تركيا وروسيا وإيران "الثلاثي الضامن" لتفاهمات مسار أستانة حول الأوضاع في شمال سورية، والمقرر أن يعقد جولة جديدة في العاصمة الكازاخية قبل نهاية العام الحالي.
في الأثناء، يستعد الجانبان التركي والروسي لخوض جولة مباحثات في العاصمة التركية أنقرة خلال الأسبوع الحالي لوضع ترتيبات خاصة بالشمال السوري تسمح للجانبين بالحصول على مكاسب. ويبدو أن موسكو تدفع باتجاه "مقايضة" مع الجانب التركي تشمل الشمال الغربي من سورية، إذ تبحث عن مكاسب لها وللنظام في محافظة إدلب مقابل مكاسب لأنقرة إما في ريف حلب الشمالي أو في شرقي نهر الفرات.
ويعتقد المحلل السياسي التركي هشام جوناي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "تركيا مصرة على البقاء في الشمال السوري، خصوصاً في إدلب وريفها، بينما يريد الروس أن يسيطر النظام على المنطقة"، مضيفاً: "هذا خلاف جوهري بين أنقرة وموسكو". وأعرب عن اعتقاده بأنه "يمكن أن تكون هناك مساومة إذا صح التعبير بحيث تنسحب تركيا تدريجياً من شمال غربي سورية، مقابل القضاء على بعض معاقل تنظيم حزب العمال الكردستاني في شمال شرقي سورية"، مضيفاً: "لا أعتقد أن اللقاء المرتقب في أنقرة ستتمخض عنه نتائج مهمة".