مقاتلون من أجل الحرية: سجن جلبوع يفتح ملف الأسرى العرب

26 سبتمبر 2021
الملعقة باتت رمزاً لتحدي الأسرى للاحتلال (إيمان كانيك/الأناضول)
+ الخط -

 


الأسرى الذين انتزعوا حريتهم من سجن جلبوع، في السادس من أيلول، هم ستة فقط، هزموا منظومة أمنية كاملة كانت تتبجح أمام العالم بأنها المنظومة الأكثر كمالاً ودقة في العالم، هزموها وخرجوا تحت أعين الكاميرات والطائرات والجنود والاستخبارات والكلاب البوليسية.
لم تكن محاولات الهروب من السجن غريبةً أو دخيلةً على عالم السجون، ففكرة السجن توازيها بالضرورة فكرة الحريّة، لم تكن تلك المعركة الأولى ولن تكون الأخيرة التي تعتبر نقاطا فاصلة في تغيير موازين القوى، وتوحيد الجهود، واستعادة الحرية، والكرامة. كل ما علينا هو أن نكتب تاريخنا ونروي حكايات الأمل ولا ننسى أولئك القابعين خلف الأسوار في انتظار الأمل.

انتفاضة سجن شطة: "الهروب الكبير" عام 1958
كانت مدينة بيسان على موعد في صيفها القائظ في حزيران/يونيو 1958 مع تمرد سجن شطة الإسرائيلي الذي يحوي 190 أسيرًا
فلسطينيًا وعربيًا، بينهم الأسير المصري أحمد عثمان، وأسيران لبنانيان بالإضافة إلى سبعة سجناء جنائيين إسرائيليين.
ضمّت المجموعة المصريَّ عثمان، وفلسطينيًا من غزة عرف باسمه الأول صبحي، وآخر من الخليل، ومعهم سمير جهجاه جد زكريا الزبيدي، إضافة إلى أربعة أسرى آخرين، وضعت المجموعة خطة الفرار وحددت الساعة السادسة من مساء يوم 31 تموز/يوليو 1958 موعدًا لتنفيذها.
كانت أعمال السخرة سببا لنجاح عملية الهروب الكبير، حيث قامت إدارة السجن بتشغيل الأسرى في عملية توسيع السجن وبناء سور خارجي له وفي أعمال التنظيف لغرف ضباط السجن، وكانت البداية حينما قررت مجموعة من الأسرى أن تخطط لتحرير المعتقلين، فعملوا على الوصول لمخططات السجون والتوسعة ومواعيد الدوريات والقرارات والأوامر من قبل إدارة السجن.
بعدما حصلوا على مفاتيح القسم حرر الأسيران اللبنانيّان مع مسؤول المجموعة الأسير صبحي بقية سجناء القسم كله، وفتح الأسير المصري عثمان الباب الفاصل بين أقسام الأسرى ومكاتب إدارة السجن، وتوجهت المجموعة إلى غرفة السجّانين وسيطروا على أحد الضباط، ثم قطعوا خط الهاتف، وحطموا جهاز اللاسلكي لعزل السجن عن العالم الخارجي، وقطعوا التيار الكهربائي، وسيطروا على أبراج المراقبة التي تواجد بها اثنان من الحراس بدلا من خمسة حراس كانوا في استراحات أو اجازات أسبوعية.
سيطرت المجموعة على مخزن الأسلحة، وتبادل الحرّاس والأسرى إطلاق النار، أدى إلى مقتل اثنين من الحراس وجرح ثلاثة آخرين. واستشهد أحد المعتقلين من المجموعة وهو من الخليل وجرح الأسير المصري بالإضافة الى ١١ أسيراً. وفرّ ٦٦ أسيرا وعبَرَ بعضهم إلى الأردن ومنهم من دخل الي جنين، بينما قبض على باقي الأسرى في السهول المجاورة للسجن.
وبعد ثورة الأسرى في سجن شطة، شاع في إسرائيل أن أحمد عثمان هو العقل المدبر والمخطط لهذا الهروب، تم القبض عليه، وحوكم بتهمة التخطيط للهروب، وظل في السجن ولم يخرج منه إلا عام 1966.

في سجن عسقلان "ابتكارات الهروب"
"يُظهر مدير السجن ساقطاً على الأرض، بينما يمرّ من فوقه شابٌ عربيٌّ قائلا له: عن إذنك .. أنا ذاهبٌ إلى غزة". هذا الكاريكاتير نشر في جريدة معاريف بتاريخ ١٨ نيسان/إبريل ١٩٦٤، بعد هروب فلسطينيين وعربي من سجن الرملة للمرة الثانية.
في بداية عام ١٩٦٤، وقعت مناوشات بين الملاكم الفلسطيني حمزة يونس وابن عمه مكرم يونس وبين مجموعة من الإسرائيليين في إحدى محطات الوقود في الأراضي المحتلة هربا على أثرها إلى قطاع غزة التي كانت تحت السيطرة المصرية، لم تساعدهم السلطات فقرروا النجاة بأنفسهم، وبعد شهور وصلا إلى عسقلان وقبض عليهما، ووُجّهتْ لهما التّهم التالية: مغادرة البلاد والعودة إليها دون تصريح، والاتّصال مع العدوّ، وتزويد العدوّ بمعلوماتٍ تضرُّ بأمن الدولة، وخيانة الدولة، وإخفاء معلوماتٍ عن رجال الأمن، والإصرار على الاتصال بالعدوّ.
بعد أسبوع واحد من اعتقالهما، قرر الأسيران الهروب وضما لهما أسيراً عربياً ثالثاً معهما في نفس غرفة التوقيف يُدعى حافظ مصالحة، متهما بالتخابر مع المصريّين، بنيّة الهروب، فانضمّ الأخير إليهما في خطتهما. أما باقي المساجين، فكانوا فلسطينيّين اثنين وعشرة آخرين من اليهود المتّهمين بتهمٍ جنائيةٍ.
لم تكنْ خطّة الهروب التي فكّر بها حمزة معقدةً، وكانت تعتمد أساساً على عنصريْ المباغتة والجري السّريع. تنصّ الخطّة على استدراج أحد الحرّاس لفتح الباب الحديديّ، بينما يكون الأسرى الثلاثة – حمزة ومكرم وحافظ – قد كَمِنوا خلفه، وبمجرّد فتح الباب يهمّ الثلاثة بالفرار بأقصى سرعةٍ إلى خارج السجن.
وصل الأسرى الثلاثة إلى غزة في منتصف الليل بعد يوم حافل من الاشتباكات مع حراس السجن والجري نحو الأحراج والبيادر في تلك المنطقة. وقد أثارت تجربة الهروب هذه عاصفةً في دولة الاحتلال، إذ عقد الكنيست جلسةً لبحث الأمر ومساءلة الحكومة عن سياسات الأمن في السجون. لم تكنْ تلك التجربة الأخيرة للبطل حمزة في الهروب من السجن. حيث سجن مرتين عام ١٩٦٩ وعام ١٩٧١ وتمكن من الهرب كل مرة.

النسيان القسري: الأسرى العرب في سجون الاحتلال
منذ انطلاق الثورة الفلسطينية عام 1965 التحق بالمقاومة الفلسطينية الكثير من الأحرار العرب والأجانب، ووقع المئات من أولئك المقاتلين الذين يطلق عليهم اسم "مقاتلي الدوريات" في الأسر فزج بهم في السجون الإسرائيلية إلى جانب الفلسطينيين، وبعد الخروج الفلسطيني من بيروت تراجع عدد مقاتلي الدوريات، وبالتالي أدى إلى تراجع أعداد الأسرى العرب في سجون الاحتلال.
وفقا للإحصائيات العربية الرسمية يتواجد حاليا داخل المعتقلات الإسرائيلية واحد وثمانون أسيرا عربيا موزعين كما يلي: من جمهورية مصر العربية 53 أسيرا، ومن الأردن 29، ومن سورية 4 أسرى، بالإضافة إلى آلاف المتسللين السودانيين والإريتريين والمصريين الذين تحتجزهم إسرائيل في معسكرات اعتقال كبيرة في صحراء النقب.
على الرغم من عدم وجود إحصائيات نهائية وحاسمة حول عدد الأسرى العرب الذين دخلوا إسرائيل واختفت آثارهم فيها بعد ذلك إلا أن البيانات المتوفرة من خلال إفادات ذويهم وإفادات أسرى محررين مروا بتلك المعتقلات شاهدوا أسماء بعض المفقودين محفورة على جدران زنازين معتقلات عتليت، وصرفند، وبتاح تكفا، والجلمة، ثم تبادل بعض الأسرى المحررين الحديث عن أولئك الأسرى الذين لم تظهر لهم أسماء في سجلات الصليب الأحمر وسجلات مصلحة المعتقلات الإسرائيلية العامة وبيانات الجيش الإسرائيلي، حيث أفاد العديد من الأسرى المحررين بأنهم تحدثوا مع أسرى فلسطينيين من عرب الـ 48 وأسرى لبنانيين ومصريين، وطلب هؤلاء من محدثيهم أن يبلغوا العالم بأن إسرائيل تنكر وجودهم وهم أحياء، "وتستخدمهم فئران تجارب على الأدوية العسكرية" وخلاف ذلك.
كانت إسرائيل قد أسرت، خلال الحرب مع مصر في العام 1973 وما قبلها، ما لا يقل عن 10 آلاف مصري، غالبيتهم من العسكريين، فيما أفرجت عن عدد كبير منهم بموجب صفقات لتبادل الأسرى والرفات الذي كانت مصر تحتجزه أيضاً خلال الحرب، إلا أن عدداً منهم ما زال قيد الأسر.
اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي مئات من أبناء سيناء وكذلك من الجنود المصريين، إلا أنها أفرجت عن غالبيتهم ضمن صفقات تبادل الأسرى بين الطرفين. كما بقي عدد منهم في سجون إسرائيل، فيما أفرجت عن جزء منهم بعد قضائهم محكوميات طويلة، وصلت إلى 30 سنة. يستذكر أهالي سيناء، الأسرى الستة في سجون إسرائيل، بالتزامن مع استمرار تجاهل الدولة المصرية قضيتهم، وعدم السعي، ولو بأدنى حد، للسؤال عنهم.
تؤكد مصادر فلسطينية حقوقية لجهات مصرية وأفراد التقوا بهم بشكل شخصي وجود عدد غير محدد من الأسرى المصريين من أبناء سيناء في سجون إسرائيل المختلفة، ذكر الأسرى المصريون الرأي العام المصري والعربي بقضيتهم من خلال مذكرة جماعية وجهوها للرئيس المصري السابق عدلي منصور، مطالبين إياه بالعمل على إطلاق سراحهم من المعتقلات الإسرائيلية. حدث ذلك في 10 تموز 2013، ونشرت صحيفة يديعوت أحرنوت الإسرائيلية نص تلك المذكرة التي جاء فيها أنه "آن الأوان بعد سنوات من تجاهلهم للعمل على مبادلتهم.
رغم مرور أكثر من أربعة عقود من الزمان على توقيع معاهدة السلام المصرية/ الإسرائيلية، لا يزال ملف الأسرى المصريين في السجون الإسرائيلية معلقًا، حتى أنه لا يُعرف عددهم الحقيقي، وهناك أرقام عربية رسمية متضاربة، ففيما تقدر التقارير المصرية الرسمية عددهم بـ 74 أسيرًا، تم إطلاق سراح ٤٢ أسيراً عام ١٩٩٩ لكن لم يعودوا إلى مصر، بل إلى غزة. كما أشارت المصادر الرسمية إلى أنه تم الإفراج عن 6 طلاب مصريين في أعقاب تفاهم جرى بين الحكومتين المصرية والإسرائيلية في ديسمبر 2004، مقابل الإفراج عن الجاسوس الإسرائيلي عزام عزام، و٦ طلبة آخرين في إطار صفقة إطلاق سراح الجاسوس الإسرائيلي عودة ترابين في عام ٢٠١٥. بينما أشارت الحملة المصرية للإفراج عن المعتقلين المصريين في السجون الإسرائيلية بلجنة الحريات في نقابة المحامين عام ٢٠١٣ إلى أن عدد الأسري المصريين ٥٣ أسيرا، دون الإشارة إلى أي صفقات تبادل جرت في السابق كما صرحت الدولة المصرية.
تشير المعلومات الإسرائيلية الرسمية إلى أن عدد المصريين لديهم 280 بين أسير وسجين جنائي. بينما تخبرنا مصادر حقوقية إسرائيلية أن العدد الحقيقي للأسرى العرب غير معلوم وغير دقيق، ويعتقد العديد من المهتمين بحالة الأسرى والمفقودين الفلسطينيين والعرب، داخل المعتقلات الإسرائيلية بأن الجزء الأعظم منهم موجودون داخل المعتقلات السرية، وأن قسما آخر في دور للعجزة ومصحات عقلية بمدينة تل أبيب المعروفة باسم "دار المسنين".
خلال العقدين الأخيرين، أطلق سراح 42 أسيرًا منهم في إطار اتفاقية شرم الشيخ في سبتمبر/أيلول 1999، ولكن إلى قطاع غزة لا إلى بلدانهم، إلا أن باقي المعتقلين الذين تتعنت اسرائيل في ذكر أعدادهم لا يزالوا قابعين في سجون تل أبيب.
تذكر بعض التقارير الحقوقية الفلسطينية، أنه لا يزال قابعا خلف قضبان الاحتلال 80 أسيرا أردنيًا، منهم 30 من أصل فلسطيني، وسبعة مصريين، وستة سوريين من الجولان، وأسير سعودي يدعى عبد الرحمن العطوى وقد انتهت محكوميته، إلى جانب 120 سودانيا طلبوا حق لجوء سياسي وتلقوا الأسر بدلا عنه. كما يقبع في سجون الاحتلال 20 أسيرا أجنبيًا من الهند وباكستان واليونان وسويسرا وفرنسا، ما زالوا أسرى عند الاحتلال.
رغم أنه لم يتم تدوين وتسجيل جميع محاولات الهروب على مر التاريخ، سواء تلك التي باءت بالفشل أو التي توجت بالنجاح لأسرى فلسطينيين وعرب، يظل من الثابت لدى المقاتلين من أجل الحرية أن مجرد محاولة الفرار هو تحد لقبضة السجان، وهدم لمزاعمه بقوته التي لا تقهر. ولكن تظل حقيقة أخرى لا يمكن السكوت عنها، مفادها: متى يبصر الأسرى العرب الحرية؟