على مدار عام ونصف العام، تصّدت محافظة مأرب، شمالي اليمن، لهجوم عسكري حوثي غير مسبوق منذ بدء النزاع اليمني، لكن الصلابة التي أظهرها المدافعون عن الأطراف الغربية والشمالية للمحافظة النفطية لم تكن حاضرة في الخاصرة الجنوبية، حيث تداعت التحصينات في زمنٍ قياسي جرّاء سوء تقدير للموقف العسكري وانقسامات مدمرة في صفوف المعسكر المناهض لجماعة الحوثيين. وأكد السيناريو، الذي سقطت فيه مديرية جبل مراد في قبضة الحوثيين من دون قتال يوم الأربعاء الماضي، اتساع فجوة الانقسامات داخل تحالف الجيش اليمني ورجال القبائل، والتي تم القفز عليها طيلة الأشهر الماضية، حتى بدت مدينة مأرب مكشوفة الظهر أكثر من أي وقت مضى.
وجدت جماعة الحوثيين في مديريات جنوبي مأرب بيئة خصبة لزرع الانقسامات داخل صفوف القبائل المناهضة لها. وبعد نحو أسبوعين من سقوط غامض لمديريات بيحان وعين وعسيلان في شبوة، وحريب جنوبي مأرب، كانت مديريتا الجوبة وجبل مراد تنضمان إلى خريطة نفوذ الحوثيين في المعركة الأهم من حرب اليمن. وفي ظلّ التطورات المتسارعة، بات الحوثيون يحكمون قبضتهم على كافة بلدات ومديريات جنوبي مأرب، ابتداء من مديريات رحبة وماهلية وحريب والعبدية، وصولاً إلى جبل مراد والجوبة، في مكاسب هامة جعلت الجماعة تتفوق على القوات الحكومية في خريطة السيطرة والنفوذ من حيث عدد المديريات. وتقول جماعة الحوثيين إنها باتت تسيطر على 12 من أصل 14 مديرية في المحافظة النفطية، إلا أن المساحة الجغرافية الأكبر والأهم، والمتمثلة بمديرية مأرب الوادي، ومدينة مأرب عاصمة المحافظة، لا تزال في قبضة الجيش اليمني.
وعلى الرغم من محاولة الجيش اليمني التقليل من وطأة الانتكاسات الأخيرة، فإن سقوط ست مديريات جنوبية في محافظة مأرب قد يشكل درساً بليغاً للحكومة حول ضرورة حماية الخاصرة، حيث تحاول جاهدة ترتيب وضع الجبهة الجنوبية وحماية آخر معاقلها شمالي البلاد استعداداً للمعركة الحقيقية التي لم تبدأ بعد. لكن كيف تحقق للحوثيين كل هذا؟
دشّنت جماعة الحوثيين حرباً شاملة استخدمت فيها القوة المفرطة والضغط النفسي
حرب شاملة
لم تكن القوة المفرطة هي الطريق الوحيد الذي سلكه الحوثيون لتحقيق المكاسب الأخيرة، حيث دشنت الجماعة حرباً شاملة من أجل السيطرة على حقول النفط والغاز داخل مدينة مأرب، وسخرت من أجل ذلك كافة الوسائل. واعتمد الحوثيون الحرب النفسية سلاحاً فتاكاً لخلخلة الموقف الدفاعي للجيش اليمني ورجال القبائل وضرب معنوياتهم، من خلال ضخ الانتصارات في فترة زمنية مخطط لها، بالتوازي مع نشاط واسع في تغذية الانقسامات بين القبائل والجيش الوطني.
بعد نحو عام ونصف العام من التكتم وإخفاء حقائق الوضع الميداني داخل مأرب، استغلت جماعة الحوثيين الذكرى السابعة للانقلاب كتوقيت مناسب للإفصاح عن مكاسبها التي تحققت في آخر معاقل الحكومة المعترف بها دولياً شمالي اليمن، ولو بأثر رجعي. ففي 11 سبتمبر/ أيلول الماضي، ظهر المتحدث العسكري للجماعة يحيى سريع لإعلان السيطرة على مديريتي ماهلية ورحبة جنوبي مأرب، على الرغم من أن الأولى كانت قد خسرتها القوات الحكومية أواخر العام الماضي، فيما حاولت القوات الحكومية استعادة مديرية رحبة في أغسطس/آب الماضي، قبل أن تخسرها مجدداً بعد أسابيع. وبعد نحو أسبوع، وتحديداً في 17 سبتمبر، كان المتحدث العسكري للحوثيين يعود للكشف عن مكاسب ميدانية في الأطراف الغربية لمحافظة مأرب، تحققت للجماعة خلال الموجة الأولى من الهجوم في العام الماضي، وذلك بإعلان السيطرة على مديريتي مدغل ومجزر بعد عملية طويلة الأمد امتدت من مارس/آذار حتى نوفمبر/تشرين الثاني 2020.
كانت مناطق مدغل ومجزر مسرحاً لأكبر عملية استنزاف تتعرض لها الجماعة، وكذلك القوات الحكومية ورجال قبائل عبيدة على وجه التحديد. وبحسب حصيلة حوثية، فقد بلغ عدد قتلى الجيش اليمني خلال تلك العملية ثلاثة آلاف قتيل، فضلاً عن سقوط أكثر من 12 ألف جريح، فيما تقدر الخسائر الحوثية بنحو خمسة آلاف قتيل، وفقاً لمصادر عسكرية.
واصلت جماعة الحوثيين تقسيط المكاسب القديمة. وفي 12 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، أعلنت عن عملية عسكرية أطلقت عليها اسم "فجر الانتصار"، وقالت إنها تمكنت خلالها من تحرير مساحة جغرافية بلغت 600 كيلومتر مربع، وجعلت قواتها تصل إلى مشارف مدينة مأرب.
ومن الواضح أن استراتيجية ضخ الانتصارات بأثر رجعي، فضلاً عن الانهيارات التي شهدتها محافظة البيضاء، ابتداء من مديرية الزاهر وصولاً إلى الصومعة، قد أربكت بالفعل قبائل مأرب وجعلتها عاجزة عن أي رد فعل حقيقي، مع انتقال الحوثيين إلى الهجوم الشامل على مديريات شبوة وجنوبي مأرب. وخلافاً للحرب النفسية، كانت أيد خفية في أطراف مختلفة تنشط بشدة لتفكيك صفوف القبائل وتعبيد الدرب للمليشيات المتعطشة لانتصارات كهذه.
نجح الإعلام الحوثي في تسويق الجماعة قوةً ضاربةً، على الرغم من أن المناطق التي جرى التوغل فيها كانت أشبه بمساحات جغرافية شاغرة من أي وجود عسكري، وخصوصاً مديريات البيضاء. ومنتصف أكتوبر الحالي، أعلن الحوثيون رسمياً السيطرة على خمس مديريات استراتيجية، هي عسيلان وبيحان وعين من محافظة شبوة وحريب والعبدية جنوبي مأرب، ضمن عملية عسكرية سمّيت "ربيع النصر" وامتدت على مساحة تقدر بـ3200 كيلومتر مربع.
واجهت جماعة الحوثيين مقاومة حقيقية في مديرية العبدية التي صمدت أربعة أسابيع
وخلافاً للاجتياح السلس الذي تمّ في مديريات عسيلان وبيحان وعين في شبوة وحريب في مأرب، واجهت جماعة الحوثيين مقاومة حقيقية في مديرية العبدية، التي صمدت أربعة أسابيع على الرغم من الحصار الخانق والقصف الصاروخي المكثف، إلا أن الاستبسال اللافت والقيادة الموحدة للمقاومة لم يشفعا لها بالصمود وقتاً أطول مع تفاقم الوضع الإنساني للمدنيين والمقاتلين الذين أصيبوا في المعارك.
وفي حين لم يُعرف مصير غالبية أفراد مقاومة العبدية الذين كان عددهم قد وصل إلى نحو 1700 بعد الاجتياح الحوثي، كان عدد من القادة الميدانيين، وعلى رأسهم العقيد عبد الحكيم الشدادي، يصلون إلى مدينة مأرب بعد نجاحهم في كسر الحصار الحوثي. وأكدت مصادر عسكرية حكومية لـ"العربي الجديد" أن الشدادي، الذي حرم الحوثيين من الحصول على أي غنائم بعد نسف كميات من العتاد العسكري الثقيل الذي يُصعب حمله، وقام أيضاً بنسف مقر شرطة العبدية حتى لا يتسنى للحوثيين التفاخر بالتقاط الصور أمامه كما جرت العادة، انتقل إلى سلسلة جبلية متاخمة لمدينة حريب تدعى المكنّة، ومن هناك استطاع التسلل إلى مناطق القوات الحكومية في مدينة مأرب.
انقسامات قبلية
كان من المتوقع أن تسير قبائل مراد على نهج بني عبد في مديرية العبدية نظراً للعداء التاريخي الذي تكنّه للمليشيات الحوثية، إلا أن الانقسامات التي بدأت على شكل انتقادات موجهة لحزب التجمع اليمني للإصلاح الإسلامي، وتتهمه بالاستحواذ على القرار العسكري في إدارة المعركة، غيّرت المسار الذي كان مرتقباً، وجعلت البعض من قادتها ينحنون للعاصفة. ومعلوم أن لدى الحوثيين أذرعاً متعددة داخل قبيلة مراد، وعلى رأسهم الزعيم القبلي والوزير في حكومة صنعاء غير المعترف بها دولياً حسين حازب. وعلى الرغم من الحضور المحدود داخل القبيلة، كان هناك من ينشط في شراء ولاءات الوجاهات والمشايخ وتحريضهم ضد الحكومة.
لكن مصدراً قبلياً أكد لـ"العربي الجديد" أنه على الرغم من تنامي سخطها من طريقة إدارة المعركة، فإن قبائل مراد قدمت قوافل من المقاتلين في المعركة ضد الانقلاب الحوثي، كما رفضت الإغراءات الحوثية طيلة سنوات الحرب الماضية، وسيكون من الإجحاف التعميم واتهامها بالخيانة، على حدّ قوله. وبحسب المصدر، فإن "قبائل مأرب صمدت في وجه الحوثيين أكثر من قبائل اليمن كافة، لكنها عندما تشعر بالخذلان من الشرعية ولا تجد قوة تسندها، تقاوم قليلاً وتميل للسلام، كما فعلت قبيلة مراد".
من جهتها، لم تتعمد جماعة الحوثيين إذلال القبيلة، على الرغم من الاجتياح الحوثي السلس لمركز مديرية مراد بالمدرعات، وترديد الصرخة الإيرانية أمام المجمع الحكومي، كما لم يظهر أي زعيم قبلي أو قائد عسكري من مراد في وسائل إعلام حوثية للترحيب الإجباري بالمجاميع الحوثية. وفي هذا الإطار، لم يظهر القائد العسكري المخضرم وقائد محور بيحان مفرح بحيبح، المتحدر من قبيلة مراد، منذ الاجتياح الحوثي لمديرية جبل مراد. وبعد أنباء متضاربة عن انزوائه والتزام الحياد، أكد مصدر عسكري في القوات الحكومية لـ"العربي الجديد" أن تلك الأنباء غير دقيقة، وأن بحيبح لا يزال جزءاً من المعركة ضد الانقلاب الحوثي. وبحسب المصدر، "فإن قبيلة مراد تقارع الغزو الحوثي بكل إمكانياتها حتى اللحظة". أما بالنسبة لجماعة الحوثيين، فإن الزعامات التي رفضت الرضوخ لها ستكون عرضة لأعمال انتقامية قاسية، كما حصل مع الشيخ عبد اللطيف القبلي نمران، الذي تعرض منزله في بلدة العامود بمديرية الجوبة لقصف بصاروخ بالستي، مساء الخميس الماضي، في هجوم فقد فيه اثنين من أبنائه، إلى جانب 11 آخرين.
وأفرطت جماعة الحوثيين باستخدام الصواريخ الباليستية في معركتها صوب مدينة مأرب. ففي شهر أكتوبر الحالي، أقر المتحدث العسكري للجماعة باستخدام 144 صاروخاً باليستياً خلال عمليتين عسكريتين فقط جنوبي المحافظة النفطية.
يراهن الجيش اليمني على سلسلة جبال البلق الاستراتيجية، التي تبدو بمثابة حاميات طبيعية تطوق مدينة مأرب
السيناريوهات المتوقعة
بعد سيطرة الحوثيين على مديريتي الجوبة وجبل مراد، بدأت الجماعة الترويج أن مدينة مأرب باتت تحت فكّي كمّاشة مُحكمة، وأن سقوطها مسألة وقت، لكن القوات الحكومية تبدو مطمئنة حتى الآن، على الرغم من الخسائر التي منيت بها أخيراً في الجبهات الجنوبية للمحافظة. وترفض القوات الحكومية الاستسلام لحالة الهلع المتزايدة جراء الزحف الحوثي، حيث اعتبرت مصادر عسكرية حكومية، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن ما حدث جنوبي مأرب "مرونة عملياتية لصالح المعركة ومسارها الأشمل". وقالت المصادر إن تشعب الجغرافية وكثافة الأنساق الهجومية للحوثيين يفرضان إعادة التموضع في جغرافية مناسبة لاستنزاف المليشيات، ومن ثم استعادة زمام المبادرة وعكس الهجوم من كافة المواقع التي سيطر عليها الحوثيون أخيراً.
على الورق، يبدو طموح القوات الحكومية ممكناً في حال لم تباغتهم جماعة الحوثيين بتكتيكات غير متوقعة تخلط أوراق الجيش والتحالف الذي تقوده السعودية، خصوصاً أن المعركة اقتربت بشدة من عاصمة مأرب، التي لا يفصلها عن أقرب نقطة تمركز للحوثيين في الجوبة سوى قرابة 30 كيلومتراً مربعاً. من هذا المنطلق، من المتوقع أن يشن الحوثيون هجمات صوب سلسلة جبال البلق الجنوبية المطلة على مدينة مأرب، من دون اكتراث للكلفة البشرية، لكن مصادر استبعدت ذلك، كون التوغل نحو مناطق مفتوحة تتجاوز بلدة الجرشة في الجوبة أو أطراف البلق سيجعل المقاتلين الحوثيين يغرقون في مستنقع.
فخلافاً للتحصينات الهشة في المديريات الجنوبية، تبدو مدينة مأرب ومديرية الوادي ملغمتين بقوات عسكرية احترافية، كما أن الجيش الموالي للحكومة يراهن على سلسلة جبال البلق الاستراتيجية، التي تبدو بمثابة حاميات طبيعية تطوق مدينة مأرب من الشرق والشمال والجنوب، وهو ما قد يجعل جماعة الحوثيين تفضل استكمال حصار المدينة من كافة المنافذ بالالتفاف على حقول صافر، وقطع المنفذ الأخير الذي يربط مأرب بمدينة المكلا شرقاً.
على الرغم من الصدمات الأخيرة والانقسامات المدمرة في تحالفها مع القبائل، لم تفقد القوات الحكومية الأمل بعد، حيث تبدو مستعدة للتعامل مع كافة الاحتمالات، سواء بالغزو المباشر أو بمنع الحوثيين من إحكام الحصار الشامل. وفي هذا السياق، قلل مصدر عسكري حكومي، على اطلاع واسع بمجريات معركة مأرب، من التهويل الحوثي وتصوير أن المعركة باتت في نهايتها بعد الاختراقات التي تحققت جنوباً، مؤكداً أن المقاتلين في الميدان يبذلون جهوداً ضخمة ومضنية لتحصين مأرب. وفي تقدير المصدر، بحسب ما صرّح لـ"العربي الجديد"، فإن "المعركة الحقيقية لم تبدأ بعد، ومأرب، بوضعها الحالي، قادرة على الصمود سنوات، ولن يتمكن الحوثيون من دخولها".
وتمثل أيضاً تصريحات حديثة لمحافظ مأرب سلطان العرادة، التي قال فيها إن المحافظة "لم تفقد أي من عوامل صمودها"، مصدر اطمئنان لقوات الجيش والمقاتلين القبليين. ووفقا للمصدر ذاته، فإن "نظرة عن قرب من داخل مأرب تكشف أن المدينة أكثر عزماً وتحدياً واندفاعاً لخوض معارك فاصلة مع الحوثيين، لن تنتهي إلا بانتصار الجيش والمقاومة والقبائل".
لكن في مقابل الاطمئنان الذي قد يبدو مبالغاً فيه من قبل القوات الحكومية، خصوصاً إذا ما أخذ في الاعتبار الأداء الهش للحكومة التي يستند إليها الجميع، أقرّ الصحافي المواكب مسرح العمليات ميدانياً سلطان الروساء بتأزم الوضع نسبياً داخل مأرب. وقال الروساء الذي غطّى معارك الجوف ومأرب، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن مستقبل مدينة مأرب لن يتغير كلياً بعد الانتكاسة التي شهدتها المديريات الجنوبية، لكنها "ستدفع ضريبة صعبة"، وستتمكن "من قلب الطاولة لصالحها في حال الثبات المعتاد والإسناد المتوقع". ولفت إلى أن "وتيرة المعركة تتغير بين حين وآخر، فعندما سقطت الجوف مثلاً، جاء الحوثي بزحف لا يمكن أن تشاهد نهايته، لكن المعارك التي دارت في الحسف وشرق الحزم ورغوان أجبرته على التوقف، حيث عجز عن تحقيق أي تقدم هناك". وفي ظلّ الآمال الحذرة، رأى الروساء أن إنقاذ الموقف عسكرياً "يتطلب قادة نزيهين في الجيش أو المقاومة مع استبعاد الفاشلين"، لافتاً إلى أن الانتكاسات الأخيرة "كانت نتائج طبيعية لفشل عام في إدارة الدولة وفشل في إدارة المعركة العسكرية".