"نقل الصراع إلى الداخل". شعار اختبأت وراءه قيادة منظمة التحرير، لتبرير جنوحها إلى "الحل المرحلي"، الذي اختزل القضية الفلسطينية في حدود دولة منشودة على الأراضي المحتلة عام 1967، وتمخض عن إبرام اتفاقية أوسلو عام 1991، التي أسفرت بدورها عن الاعتراف بالكيان الصهيوني بوصفه "دولة شرعية"، وتفريغ ميثاق المنظمة من مضمونه الثوري، ناهيك بتصفيتها معنوياً لصالح إقامة سلطة حكم ذاتي تحت ظل الاحتلال.
هذا المسار الذي كان ثمنه التخلي رسمياً عن 89% من مساحة فلسطين التاريخية، أفضى إلى تقويض مبدأ وحدة الأرض والشعب والقضية، وتشظيتها في ملفات منفصلة، وإهمال جوهرها المتمثل بحق العودة، وبالتالي تهيئة الظروف المواتية لمحاولات إخراج فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948، وكذلك اللاجئين في دول الشتات، من معادلة الصراع، الأمر الذي انعكس سلباً على دورهم النضالي، وقاد إلى جانب عوامل سياسية واقتصادية - اجتماعية أخرى، إلى تقييد هذا الدور، باستثناءات محدودة للغاية، في حدود حملات التضامن، وردات الفعل العفوية العابرة.
من "المرحلية" إلى الانقسام
الحل "المرحلي" الذي تبنته قيادة منظمة التحرير الفلسطينية عام 1974، أدى إلى انقسام سياسي جذري، منذ بدايات طرحه، بين الفصائل المنضوية في إطار المنظمة، وتلك التي آثرت العمل خارج إطارها من جهة، وبين فصائل هذه المنظمة نفسها، التي اختلفت على تأويل "النقاط العشر"، وكيفية إخراجها وطرحها في الخطاب السياسي، وترجمتها في العمل على أرض الواقع، من جهة أخرى، لكن بلغ هذا الانقسام منعطفات أخطر على واقع القضية الفلسطينية ومستقبلها عند توقيع اتفاقية أوسلو، وتأسيس سلطة رام الله، ومن ثم تفاقم الصراع على السلطة إلى درجة إقامة حكومتين منفصلتين في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة.
المفارقة أن كلتا "الحكومتين" تدعي "شرعية" تمثيل الشعب الفلسطيني، دون أن يكون لهذا الشعب، خاصة في "مناطق الـ 48" ودول الشتات، أي دور في صنع قراراتهما السياسية، أو حتى انتخاب أعضائهما أو ممثليهما في المجلسين الوطني والتشريعي! انتخابات المجلس التشريعي في العامين 1996 و2006، وكذلك انتخابات "الرئاسة" في العامين 1996 و2005، التي منحت الأولوية للصراع على السلطة على حساب التناقض التناحري مع وجود الاحتلال، جرت وكأن الشعب الفلسطيني لا وجود له خارج حدود الضفة وغزة، بل وكأن القضية الفلسطينية هي قضية إقامة دولة، عوضاً عن حقيقة كونها قضية عودة وتحرير!
إذا كان من شأن الحل المرحلي إقصاء الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة منذ النكبة، وكذلك في دول الشتات، فإن الانقسام المستمر في تعمقه لم يقد إلى فصل الضفة عن غزة فحسب، بل انعكس أيضاً على الشعب الفلسطيني في الخارج، الذي انقسمت "نخبه" بين تيار مؤيد لحركة فتح وسلطة رام الله، وآخر مؤيد لحركة حماس وحكومة غزة، مقابل الغالبية المحبطة من واقع تمزيق الجاليات الفلسطينية، وتشظية القضية، في سياق الصراع المستعر على سلطة افتراضية، و"شرعية" منزوعة الدسم الشعبي!
ليس العامل السياسي - التنظيمي الذاتي هو وحده ما يقوض دور الشعب الفلسطيني في دول الشتات
وهكذا، أسفر تشتيت البوصلة السياسية عبر منظور المرحلية السلطوية، وإقصاء غالبية أبناء الشعب الفلسطيني عن عمليات صنع القرار، وغياب القيادة الموحدة القادرة فعلاً على تمثيل هذا الشعب في أماكن وجوده كافة، عن حصر دور اللاجئين في مختلف دول الشتات، في إطار أنشطة ردات الفعل الآنية، خارج سياق مراكمة العمل النضالي وفق رؤية استراتيجية واضحة. حتى البدائل التي يحاول بعض النشطاء طرحها في كيانات اجتماعية مستقلة، من محطة إلى أخرى، لم تنجُ من ارتدادات هذا الواقع، الذي كرسته معادلة: "الدولة قبل التحرير".
لا شك في أن مختلف التنظيمات الفلسطينية، سياسية كانت أو حتى اجتماعية، تعرضت عبر عقود، لمختلف أشكال القمع والاضطهاد على يد حكومات "الدول المستضيفة". لكن هذا لا يلغي حقيقة أن العامل الذاتي المتعلق بسياسات هذه التنظيمات هو ما يلعب اليوم الدور الحاسم في تقويض دور اللاجئين الفلسطينيين خارج الأراضي المحتلة منذ نكسة حزيران. وقد تفاقم الدور السلبي لهذه السياسات في ظل عاصفة التجاذبات والاستقطابات الإقليمية، التي استعرت مع اندلاع ثورات الربيع العربي نهاية عام 2010، لدرجة أن بعض الفصائل باتت منغمسة تماماً في دعم مصالح أنظمة إقليمية معينة على حساب مصالح الشعوب العربية، وبالتالي على حساب القضية الفلسطينية نفسها.
في مواجهة البؤس والتهميش
على أي حال، ليس العامل السياسي - التنظيمي الذاتي هو وحده ما يقوض دور الشعب الفلسطيني في دول الشتات، فهناك أيضاً عوامل سياسية تتحمل مسؤوليتها الأنظمة العربية والإقليمية، التي تستغل القضية الفلسطينية في سياق قمع شعوبها، وكأنها تضع القضية في خندق التناقض مع مسألة الحرية، وحق هذه الشعوب في صناعة مستقبلها، ناهيك بدور النظام العالمي بأسره، الذي لا يزال يسعى لنزع صفة اللجوء عن أبناء الشعب الفلسطيني خارج الوطن، وتصفية أي مشروع سياسي يهدف إلى التحرير. لكن لا ننسى أيضاً العامل الاقتصادي الاجتماعي، الذي يتجسد في سياسات الإفقار والعزل والتهميش المستمرة ضد اللاجئين.
إفقار اللاجئين الفلسطينيين، وإغراقهم في دوامة البحث عن لقمة العيش، وعزلهم عن جذورهم الوطنية داخل الأراضي المحتلة، وعن محيطهم الاجتماعي في البلدان المستضيفة على حد سواء، عوامل من شأنها أن تزعزع أي جهد نضالي بشكل مسبق. فقدان الأمل بالقيادة الفلسطينية وبالحكومات العربية من جهة، والانغماس اليومي في محاولات الإفلات من وطأة ضنك العيش من جهة أخرى، وضعت الفلسطيني في موقع لا يمكن أن يحسد عليه. ومع هذا، لا ننسى كيف كانت كثير من الحكومات العربية توجه أصابع "الاتهام" إلى اللاجئ "الغريب" في اللحظة الأولى التي انتفضت فيها شعوبها بوجه دكتاتورياتها المستبدة.
في الأردن مثلاً، ذلك البلد الذي يستضيف العدد الأكبر من اللاجئين الفلسطينيين خارج الوطن، نأت المخيمات بنفسها عن أية مشاركة فاعلة في مظاهرات الربيع العربي، خشية من استخدام مشاركتها كذريعة لسحق الحراك الشعبي الأردني في مهده. وقد بقيت هذه المخيمات بعيدة عن دائرة الفعل المباشر حتى اندلاع هبّة تشرين عام 2012، التي لم تلبث أن انطفأت وهدأ الحراك، خلال نحو أسبوع. رغم هذا، هناك من حاول اتهام الفلسطينيين بتأجيج الأوضاع خلال تظاهرة 24 آذار عام 2011، التي تُعَدّ إحدى أبرز محطات الربيع العربي في الأردن.
في ظل هذا الواقع الذي كرّس عزل مخيمات اللاجئين عن صيرورة الحراك الشعبي في الأردن، لم يكن من الممكن أيضاً أن تنخرط هذه المخيمات بشكل فاعل في العمل النضالي التراكمي المتصل بالقضية الفلسطينية مباشرةً، فبالإضافة إلى العامل السياسي - التنظيمي الذي سبق ذكره، لا تزال هذه المخيمات تعاني الإفقار والتهميش، وإن كانت الأوضاع فيها أقل بؤساً مقارنة بأوضاع مخيمات لبنان. لكن مخيم غزة الواقع في محافظة جرش شماليّ البلاد، على سبيل المثال، يعد بؤرة فقر مدقع، حيث لا يزال سكانه يعانون الحرمان من أبسط الحقوق، سواء على المستوى الصحي، أو التعليمي، أو الخدمي، أو حتى الحق في العمل، والسكن اللائق.
أما بالنسبة إلى مخيمات اللاجئين في لبنان، فلا تزال السياسات العنصرية تحرم سكانها، البالغ عددهم 460 ألف لاجئ، أية فرصة لمجرد العيش بما يليق بالكرامة الإنسانية، حيث لا يمكنهم العمل في معظم الوظائف، بل ولا يمكنهم حتى إدخال مواد البناء والترميم إلى هذه المخيمات، منذ أكثر من ربع قرن، ما ينذر بانهيار المنازل على ساكنيها. حتى في ظل جائحة كورونا عمدت الدولة اللبنانية إلى استثناء المخيمات من إجراءاتها الوقائية. وقد تفاقمت معاناة اللاجئين الفلسطينيين في ظل الأزمة الاقتصادية التي تشهدها الدولة اللبنانية إلى درجة دفعت وكالة "الأونروا" إلى دق ناقوس الخطر، ولا سيما إثر صدور قرار نقابة الصيارفة بمنع اللاجئين من شراء الدولار. ووفقاً لمدير وكالة "الأونروا" في لبنان، كلاوديو كوردوني، وصلت نسبة الفقر بين اللاجئين إلى 73%.
وفي سورية، التي يبلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين فيها، وفقاً لوكالة الغوث، 560 ألف لاجئ، بلغت نسبة الفقر 91% من مجموع اللاجئين، وتدمرت المخيمات، وخاصة مخيم اليرموك، بنسبة 80%، إثر الأحداث الناتجة من تداعيات القمع الدموي لنظام الأسد، وهُجِّر ثلثا مجموع اللاجئين من أماكن سكنهم، حيث نزح 280 ألف لاجئ داخل سورية، و160 ألفاً إلى بلدان أخرى، حسب أرقام المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان. ومن لجأ منهم إلى الدول الأوروبية، لا يزال يعاني من "عقد قانونية وتعريفية تمنعه من الحصول على حق اللجوء"، وفقاً لما نقلته صحيفة دوتشه فيله الألمانية.
في النهاية، إن الدور النضالي للاجئين الفلسطينيين في دول الشتات لا يمكن تفعيله دون مواجهة هذه العوامل السياسية والتنظيمية والاقتصادية، عبر مراكمة الجهود لصياغة بدائل ومنظمات شعبية مستقلة، تجمع بين الحراك المطلبي والكفاح السياسي، بين النضال المتعلق بالقضية الفلسطينية مباشرةً، والنضال من أجل قضايا الخبز والعدالة والحرية للشعوب العربية، التي لا يمكن فصلها عن قضية فلسطين المركزية. بدائل شعبية ثورية، تعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية بوصفها قضية عودة وتحرير، وليس مشروع دولة سلطوية.