تشهد تونس هذه الأيام بداية معركة كبرى مهمة في تحديد ملامح مستقبلها، هي استقلال القضاء. ويعيش القضاة التونسيون، منذ أسابيع، تحت ضغط كبير من الرئيس قيس سعيّد، لـ"القيام بدورهم التاريخي" و"تطهير القضاء"، لأن "العدالة خرجت من قصر العدالة عندما دخلتها السياسة".
لا ينكر القضاة أن هناك شوائب كثيرة بحاجة إلى إصلاح، لكنهم يصرّون على أن يتم ذلك من داخل الجسم والمؤسسة القضائية، وليس بيد السلطة التنفيذية. ويتمسك القضاة بـ"استقلال السلطة القضائية بأصنافها، العدلي والإداري والمالي، وبهياكلها، من هيئات حكمية ونيابة عمومية، طبق الضمانات والمكتسبات الدستورية الواردة في الباب الخامس من الدستور". ويؤكدون، في أكثر من بيان وموقف، على "التمسك بالمكسب الديمقراطي للمجلس الأعلى للقضاء كمؤسسة مستقلة لنظام الفصل بين السلطات والتوازن بينها، بما يضمن حسن سير القضاء واستقلاله، ويسهر على حماية الهيئات القضائية من الوقوع تحت أي ضغوط، أو تدخل في المسارات المهنية للقضاة يضعف ويقوّض دورهم في حراسة الحقوق والحريات ودولة القانون".
وستبدأ قريباً معركة جديدة حول المجلس الأعلى للقضاء، بعدما طرح سعيّد مشروع قانون جديد للمجلس، من دون أي توضيح لخفايا هذا المقترح أو دوافعه وأهدافه، برغم أنه لم يمر على قانون المجلس أكثر من خمس سنوات، وجاء نتيجة نضالات كبيرة من القضاة لفرض استقلاليتهم عن باقي السلطات. ولكن هذا المشروع، إن تم من طرف الرئاسة وحدها، فسيجمع نهائياً كل السلطات في يدي الرئيس، وهو الذي كان أعلن، في 25 يوليو/تموز الماضي، نيته تولي رئاسة النيابة العمومية، لكن موجة الرفض الواسعة من القضاة دفعته إلى التراجع. ولا يخفي سعيّد، في أكثر من اجتماع، غضبه من القضاة، وينعتهم بشتى النعوت، ويسلط عليهم ضغوطاً كبيرة.
قد يكون في القضاء، كما في أي مجال آخر، مشاكل وهنات تستوجب الإصلاح والتدخل والمراجعة، ولكن ذلك لا يمكن أن يتم إلا بشكل تشاركي وحوار هادئ، ينظر بموضوعية إلى هذه الملفات. هذا إذا كان الهدف إصلاحها فعلاً وليس السيطرة عليها. وتستوجب عملية الإصلاح إشراك أهل المهنة والعارفين بها وليس إسقاطها وفرضها عليهم. ويشدد معاونو الرئيس، في أكثر من مناسبة، على أنه سيعلن "قريبا" عن خريطة طريق تبيّن نواياه بشأن مستقبل البلاد وتنهي حالة الغموض، ولكن هذه الـ"قريباً" مر عليها ثلاثة أشهر ولم تأت، بينما ينظر التونسيون بكثير من التوتر والتوجس إلى مستقبلهم، خصوصاً مع تصاعد موجات الكراهية الرقمية وخطابات التحريض والتخوين.