يكسر إعلان كييف أمس الجمعة السيطرة على مواقع على الضفة اليسرى لنهر دنيبرو التي يحتلها الروس في منطقة خيرسون جنوبي أوكرانيا، حالة الاستقرار على خطوط التماس في جبهات الحرب، وسط غياب كامل للأحداث في أوكرانيا عن الأجندة السياسية والإعلامية العالمية المنشغلة بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
وفي مثل هذه الفترة من العام الماضي كانت روسيا قد تعرّضت لمجموعة من الضربات في الشرق الأوكراني، تخللها الانسحاب من مقاطعة خاركيف وواقعة تفجير جسر القرم الرابط بين روسيا القارية وشبه الجزيرة التي ضمتها موسكو في عام 2014، والانسحاب من الضفة الغربية لنهر دنيبرو. يومها كانت الضربات تتوالى، حتى إن بعض الخبراء الروس كانوا يتحدثون عن هزيمة محتملة في النزاع مع أوكرانيا، ويطلقون العد التنازلي لموعد تسليم مزيد من المناطق. في المقابل، سادت حالة من التفاؤل في الغرب وأوكرانيا، وكأنّ ضربة حاسمة واحدة تفصلهما عن إحداث انهيار نهائي للجيش الروسي و"النظام البوتيني" المعادي للغرب. لكن مع اقتراب الخريف الحربي الثاني من نهايته، شهدت جبهات الحرب في أوكرانيا حالة من الاستقرار، قبل الإعلان عن تطورات دنيبرو أمس.
وقالت القيادة البحرية الأوكرانية على "فيسبوك" أمس الجمعة: "نفذت قوات الدفاع الأوكرانية سلسلة من العمليات الناجحة على الضفة اليسرى لنهر دنيبرو"، وأضافت أنه "بالتعاون مع وحدات أخرى في قوات الدفاع، تمكنت قوات البحرية الأوكرانية من الحصول على موطئ قدم على رؤوس جسور عدة" في هذه المنطقة، متحدّثة عن إلحاق "خسائر فادحة" في الصفوف الروسية. لكن هيئة الأركان العامة للجيش الأوكراني تحدثت في وقت لاحق أمس عن "قتال عنيف مستمر" على الضفة اليسرى لنهر دنيبرو.
في المقابل، أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن قواتها تكبد الجنود الأوكرانيين خسائر كبيرة عند نهر دنيبرو. وأضافت: "العدو على الضفة اليمينية (غرب) لنهر دنيبرو وخلال محاولات النزول على الجزر، خسروا أكثر من 460 جندياً بين قتلى وجرحى ودبابتين و17 مركبة".
وسيكون التقدم، إذا تحقق، النجاح الأول الذي يعلنه الأوكرانيون في هجومهم المضاد منذ سيطرتهم في أغسطس/آب على قرية روبوتينه في منطقة زابوريجيا الجنوبية. ومن شأن السيطرة على مواقع على الضفة اليسرى لنهر دنيبرو أن تسمح للقوات الأوكرانية بتنفيذ هجوم أكبر باتجاه الجنوب.
رهان روسي على استنزاف أوكرانيا
قبل تطورات دنيبرو، تحوّلت الأخبار الواردة من الجبهة الأوكرانية في الداخل الروسي إلى مملة، وسط رهان موسكو على استنزاف كييف وتراجع الدعم الغربي وانعدام الرغبة في تضخيم "العملية العسكرية الخاصة" بحسب التوصيف الروسي لغزو أوكرانيا، إلى خارج إطار نزاع محدود، بما يتيح للبلاد الحفاظ على استمرار الحياة، لا سيما في القطاع الاقتصادي، عشية الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في مارس/ آذار المقبل، وسط توقعات بترشح الرئيس الحالي، فلاديمير بوتين، لولاية جديدة.
في السياق، يعتبر الصحافي المتخصص في الشأن الأوكراني المقيم في موسكو، ألكسندر تشالينكو، أن كييف وداعميها الغربيين أساؤوا تقدير قدرة الجيش الروسي على الصمود في وجه الهجوم المضاد، مقراً في الوقت نفسه بأن روسيا عاجزة هي الأخرى عن إحداث اختراق عسكري على الجبهة. ويقول تشالينكو في حديث لـ"العربي الجديد" إن "الهجوم الأوكراني المضاد لم يسفر عن تحقيق هدفه الاستراتيجي المتمثل في السيطرة على مدينة ميليتوبول، في مقاطعة زابوريجيا، والوصول إلى ساحل بحر آزوف (المتفرع من البحر الأسود)، الذي وضع انطلاقاً من تقديرات خاطئة بأن الجيش الروسي سيظهر أداءً ضعيفاً لجيش يعود للقرن الـ20، مثلما كان وضعه في العام الماضي".
ألكسندر تشالينكو: لا يمكن لبوتين إعلان تعبئة جديدة ستُفقده دعم السكان
ويعزو تشالينكو قدرة القوات الروسية على التصدي للهجوم المضاد إلى مجموعة من العوامل، مثل إقامة "خط سوروفيكين" للدفاع؛ نسبة للقائد السابق لمجموعة القوات الروسية في أوكرانيا سيرغي سوروفيكين، والاعتماد على مسيرات "شاهد" الإيرانية، والاستعانة بالمتطوعين وشركة "فاغنر" التي أدى عناصرها دوراً حاسماً في السيطرة على مدينتي سوليدار وباخموت.
ومع ذلك، يقرّ تشالينكو بعجز روسيا عن السيطرة على أي مدينة كبرى أخرى، مضيفاً: "تفتقد روسيا للأسلحة الحديثة تكنولوجياً، على غرار تلك التي توفرها بلدان حلف شمال الأطلسي لأوكرانيا. ومن الصعب إحراز تقدم على الجبهة في ظروف التكافؤ في عدد الأفراد، فيما لا يمكن لبوتين إعلان تعبئة جديدة ستُفقده دعم السكان الذين لا يبدون استعداداً للتضحية بأرواحهم". ويخلص تشالينكو إلى أنه "لا جدوى من السيطرة على المدن بأساليب عسكرية مباشرة، نظراً لصعوبة حروب الشوارع وكثرة ضحاياها، فأصبح الرهان الرئيسي على استنزاف أوكرانيا، لا إلحاق هزيمة بها".
من جهته، يرى الأستاذ بقسم العلاقات الدولية بالجامعة الوطنية للطيران في كييف، مكسيم يالي، أن المأزق على الجبهة يعود إلى حالة التكافؤ بين القوات الروسية والأوكرانية، من دون أن يستبعد في الوقت نفسه احتمال تحقيق كييف بعض النجاحات العسكرية بعد حصولها على مقاتلات "أف 16" الأميركية.
ويقول يالي في حديث لـ"العربي الجديد" إن "هناك حالة من التكافؤ، إذ تمكنت أوكرانيا من سد العجز في المدفعية، ولكن الروس أقاموا تحصينات مهمة شملت خطاً دفاعياً وحقولاً ملغّمة خلال الفترة التي سبقت الهجوم الأوكراني المضاد (بدأ في يونيو/ حزيران الماضي)، مما أبطأ تراجعهم. كما أنهم تكيفوا مع الظروف الجديدة لإجراء الحرب مثل استخدام المسيّرات، فباتت هناك حالة من التكافؤ التكنولوجي".
مع ذلك، يعتبر يالي أن الوضع على الجبهة لم يصل إلى مأزق تام، موضحاً: "حقق التقدم المضاد بعض النجاحات المهمة، مثل إرغام القسم الأكبر من أسطول البحر الأسود الروسي على مغادرة حوض القرم والانتقال إلى نوفوروسيسك مع التخطيط لإقامة قاعدة في إقليم أبخازيا المحتل في جورجيا، مما خفض خطر شن ضربات صاروخية على إثر تراجع القدرات الهجومية للسفن الروسية، كما لم تعد سفن الإنزال الروسية تقترب من أوديسا (الأوكراني)".
مكسيم يالي: المأزق على الجبهة يعود إلى حالة التكافؤ بين القوات الروسية والأوكرانية
وكان رئيس جمهورية أبخازيا الانفصالية في جورجيا، المدعومة من موسكو، أصلان بجانيا، قد أكد في مطلع أكتوبر/ تشرين الأول الماضي أن روسيا ستنشئ قريباً نقطة وجود دائمة للأسطول البحري الحربي الروسي في منطقة أوتشامتشير في الإقليم.
وفي سياق العدوان الإسرائيلي على غزة وتأثيره على الدعم الغربي لأوكرانيا، يقرّ يالي بأنها تصب في مصلحة موسكو، قائلاً: "تحوّل جزء من الاهتمام الدولي من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط. ولما كانت الولايات المتحدة تتحمل التزامات أمنية أمام إسرائيل، فهذا يضطرها لدعمها عسكرياً، بما في ذلك على حساب المساعدة التي كانت ستذهب لأوكرانيا، مما يصب في مصلحة روسيا".
لا مفاوضات في الأفق
مع إطالة أمد الوضع الراهن على خطوط المواجهة في أوكرانيا، باتت تتعالى الأصوات حتى في الداخل الأوكراني لعقد مفاوضات مع روسيا من أجل إنهاء النزاع أو تجميده على الأقل. وفي مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، دعا أوليكسي أريستوفيتش، المستشار السابق للرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، إلى عقد مفاوضات سلام، معلناً عن عزمه خوض سباق الانتخابات الرئاسية رغم تأكيد زيلينسكي عدم إجرائها في موعدها الدستوري في مارس المقبل، نظراً لحالة الحرب الساري مفعولها في البلاد.
إلا أن يالي لا يستبعد احتمال تحقيق أوكرانيا بعض النجاحات العسكرية الإضافية قبل التفاوض، قائلاً: "لا تزال هناك آمال أن نتمكن من تغيير الوضع على الجبهة بعد تسلمنا مقاتلات أف 16، لأن أحد أسباب المأزق على الجبهة هو السيطرة الروسية على الأجواء". ويرجح "ألا تعقد أي مفاوضات قبل الصيف المقبل، لأن هناك انتخابات رئاسية في روسيا في الربيع المقبل، ولن يقبل بوتين بالتفاوض ما لم تتم مراعاة مطالبه. ولن يقبل زيلينسكي هو الآخر التفاوض قبل موعد الانتخابات بصرف النظر عن إجرائها من عدمه".
يذكر أن زيلينسكي رأى في وقت سابق من نوفمبر الحالي أن الوقت حالياً ليس مناسباً لإجراء الانتخابات في أوكرانيا، معتبراً أن الزمن الحالي هو زمن للدفاع والمعركة سيحدد مصير الدولة. ووافق الرئيس الأوكراني السابق، الخاسر أمام زيلينسكي في انتخابات 2019، بيترو بوروشينكو، هو الآخر، على أنّه لا ينبغي على أوكرانيا إجراء الانتخابات في فترة النزاع مع روسيا، معتبراً أنه لا يحق لكييف إجراء "ألاعيب سياسية" في ظروف التهديدات لوجود الدولة الأوكرانية.