مع اقتراب موعد انتخابات الرئاسة الأميركية، التي يتنافس فيها الرئيس دونالد ترامب والمرشح الديمقراطي جو بايدن، تراقب موسكو عن كثب هذا السباق، لأسباب عدة، منها أهمية نتيجته لجهة تحديد مصير معاهدة الحدّ من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية "ستارت 3" (نيو ستارت، أو ستارت الجديدة). وتعد هذه المعاهدة آخر اتفاق بين الطرفين، لا يزال يحول دون احتدام سباق التسلح بين أكبر قوتين نوويتين.
وعلى الرغم من رفض البيت الأبيض اقتراح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أخيراً، تمديد "ستارت 3" لمدة عام من دون شروط، إلا أن وزارة الخارجية الأميركية أكدت يوم الثلاثاء الماضي، على استعداد الجانب الأميركي لعقد محادثات مع روسيا فوراً. وجاء ذلك رداً على إعلان نظيرتها الروسية قبول موسكو تجميداً "مشتركاً" لطرفي المعاهدة، لعدد الرؤوس الحربية النووية لدى كل منهما.
واقترحت الخارجية الروسية، في 20 من شهر أكتوبر/تشرين الأول الحالي، في بيان، "تمديد المعاهدة لعام"، مبديةً استعدادها "بشكل مشترك مع الولايات المتحدة إلى تجميد عدد الرؤوس النووية التي يملكها الطرفان خلال هذه المدة". ولفتت إلى أن هذا التجميد يجب ألا يصحبه "أي طلب إضافي آخر من الولايات المتحدة"، وأن يتيح "كسب الوقت" من أجل مواصلة المشاورات الثنائية حول مستقبل الحد من الأسلحة النووية. ورأت أن الوقت الذي سيتم كسبه نتيجةً لتمديد معاهدة "ستارت 3" التي تنتهي مفاعيلها في فبراير/شباط المقبل، يمكن استخدامه لعقد مفاوضات شاملة حول مستقبل مراقبة الأسلحة النووية، مع النظر في جميع العوامل المؤثرة على الاستقرار الاستراتيجي. وكان المفاوض الأميركي مارشال بيلينغسلي اقترح الأسبوع الماضي صيغة لتمديد المعاهدة لمدة عام، مع "تجميد" الترسانات النووية، متحدثاً عن "اتفاق مبدئي"، لكن موسكو رفضت الأمر في البدء باعتبار أن الشروط "غير مقبولة".
لا تزال معاهدة "ستارت 3" تحول دون احتدام سباق التسلح بين أكبر قوتين نوويتين
وأول من أمس الخميس، أعلن المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، أن الاتصالات بشأن معاهدة "ستارت 3" على مستوى الخبراء بين روسيا والولايات المتحدة ستجري خلال الأيام المقبلة، واصفاً هذه المحادثات بالصعبة للغاية. وجاء تأكيد بيسكوف، إثر تأكيد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أن بلاده لا تعارض انضمام الصين للمعاهدة، وهو مطلب أميركي، لكنه دعا إلى احترام حق بكين في أن تحدد طرق ضمان أمنها بنفسها. كما أعلن بوتين استعداد بلاده لمناقشة بناءة ومتكافئة مع الولايات المتحدة حول جميع المسائل، بما فيها الأمن الاستراتيجي وأمن المعلومات.
لكن نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، أضفى أمس الجمعة، مجدداً موقفاً متشائماً، إذ على الرغم من ترحيبه بالإشارات الصادرة من واشنطن لمواصلة الحوار، إلا أنه نفى في الوقت نفسه، أن تكون أكبر قوتين نوويتين على عتبة تمديد "ستارت 3". وقال ريابكوف في حوار مع صحيفة "كوميرسانت"، نشر أمس: "نحن بالطبع، رصدنا بدقة جميع الإشارات الصادرة من واشنطن على مختلف المستويات حول الوضع مع تمديد معاهدة ستارت 3، ومواصلة حوارنا حول الرقابة على الأسلحة. من الإيجابي أن الزملاء الأميركيين يركزون على تحقيق تقدم والبحث عن حلول للمشكلات القائمة". لكنه أضاف "نضطر إلى الإقرار بأن درجة خلافاتنا مهمة إلى حدّ كبير، بما في ذلك ما يتعلق ببعض النقاط الجوهرية. لذلك، لا أرى شخصياً دوافع لتفاؤل كبير. بيان وزارة الخارجية الروسية بتاريخ 20 أكتوبر/تشرين الأول يعبر عن نفسه. تمّ التوضيح فيه استعدادنا لتمديد ستارت 3 لمدة عام".
من جهته، يقلّل الخبير في مركز بحوث قضايا الأمن، التابع لأكاديمية العلوم الروسية، قسطنطين بلوخين، من احتمال تمديد معاهدة "ستارت 3" في حال إعادة انتخاب ترامب، بسبب اشتراطه إشراك الصين في المفاوضات. ويُرجع الخبير الروسي سعي موسكو لتمديد المعاهدة بنسختها الحالية، إلى عزمها على عقد سلسلة من المفاوضات وإبرام معاهدة جديدة في العام المقبل، خصوصاً أن الموقف الأميركي قد يتغير في حال فوز بايدن، في ظلّ ميل الديمقراطيين للحفاظ على الاتفاقيات في مجال مراقبة الأسلحة ومنع انتشارها.
ويوضح بلوخين، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه "طوال السنوات الأربع من ولاية ترامب، ظلّ الكرملين يتحدث عن ضرورة بدء العملية التفاوضية، إلا أن واشنطن انسحبت من معاهدة الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى، واتفاقية السماوات المفتوحة، رابطة تمديد ستارت 3 بانضمام الصين إليها". ويضيف بلوخين أن "بكين لا تزال ترفض ذلك بحجتي عدم مشاركتها في الاتفاقيات متعددة الأطراف، واستحواذ موسكو وواشنطن على 90 في المائة من الترسانة النووية العالمية، فيما روسيا غير قادرة على التأثير على الموقف الصيني".
وحول فرص تمديد المعاهدة في حال فوز بايدن، يرى الخبير الروسي أن "الميزة الوحيدة للمرشح الديمقراطي مقارنة مع ترامب، هي رغبة حزبه في تمديد المعاهدة التي أبرمت في عهد الرئيسين السابقين، الأميركي باراك أوباما والروسي دميتري مدفيديف، مثلما أبرم الاتفاق النووي الإيراني في عهد الإدارة الديمقراطية التي تبدي مسؤولية أكبر في قضايا نزع السلاح". ويلفت بلوخين إلى أن الانسحابات من اتفاقيات الأسلحة ليست مبادرة ترامب بشخصه، بل توجه راسخ في سياسات الحزب الجمهوري الأميركي. وذكّر بأن الولايات المتحدة انسحبت من معاهدة الدرع الصاروخية (موقعة بين البلدين في العام 1972)، في عهد الرئيس جورج بوش الابن.
مع ذلك، يذكر بلوخين عدداً من سلبيات فوز بايدن على العلاقات الروسية - الأميركية مقارنة مع ترامب. وبرأيه فإن بايدن "سيراهن على التضامن الأورو- أطلسي، وسيتعامل مع روسيا على أنها عدو، بينما سعى ترامب (خلال ولايته الأولى) إلى تحسين العلاقات مع موسكو، مقابل مناهضته الصين التي رأى فيها تهديداً وجودياً". كما أن ترامب، بحسب الخبير الروسي، كان يدرك أن إمكانات بلاده محدودة، ولذلك رأى ضرورة في الاستثمار في البنية التحتية، لا شنّ حروب حول العالم. أما بايدن، "فتهيمن عليه اعتبارات أيديولوجية، كما أن روسيا لا تحبذه"، على حدّ قوله.
يراهن بايدن على التضامن الأورو- أطلسي، وسيتعامل مع روسيا على أنها عدو
من جهته، يلفت مدير عام المجلس الروسي للشؤون الدولية، أندريه كورتونوف، إلى أن "ستارت 3" هي آخر اتفاقية ثنائية جادة متعلقة بالرقابة على الأسلحة النووية. وحذر من انتهاء عهد الرقابة الثنائية على الأسلحة من دونها، معتبراً أنّ مبادرة بوتين لتمديدها موجهة إلى ترامب، في حال احتاج الأخير إلى إظهار نفسه كـ"مناضل من أجل السلام" عشية الانتخابات.
ونقلت صحيفة "فيدوموستي" الروسية عن كورتونوف قوله إنه "في حال لم تتم إعادة انتخاب ترامب، سيواصل الجانب الروسي الحوار مع الديمقراطيين، خصوصاً أن بايدن يميل، على ما يبدو، للحفاظ على الرقابة الاستراتيجية على الأسلحة حتى في الإطار الثنائي".
ومع ذلك، يعتبر كورتونوف أنه لن يتسنى الحفاظ على الإطار الحالي لمراقبة الأسلحة حتى في حال تمديد المعاهدة، مضيفاً أنه "من الواضح أنه لن يتسنى على الأرجح إبرام معاهدة ستارت 4". وبرأيه، فإن الدولتين "ستضطران في جميع الأحوال للانتقال إلى نظام جديد، ليس من جهة إشراك الصين فحسب، وإنما أيضاً مع أخذ التغييرات في معايير الأسلحة النووية بعين الاعتبار". ويحذر مدير عام المجلس الروسي للشؤون الدولية من أن فترة "المخاطر العالية" قد تدوم لبضع سنوات، مرجعاً ذلك إلى أن إقامة منظومة جديدة للتعاون في مجال الاستقرار الاستراتيجي تتطلب خلفية سياسية مواتية نسبياً، وهي غير مواتية تماماً الآن في العلاقات الروسية - الأميركية والأميركية - الصينية على حدٍّ سواء.
يذكر أن مدفيديف وأوباما قد وقّعا في شهر إبريل/نيسان 2010 على معاهدة "ستارت 3"، وسط تحسنٍ ملحوظ في العلاقات بين بلديهما استمرّ حتى إقدام موسكو على ضمّ شبه جزيرة القرم في العام 2014، ودعمها لمنطقة دونباس الموالية لها، شرق أوكرانيا. وأبقت المعاهدة ترسانتي البلدين عند مستوى يقل كثيراً عما كانت عليه الحال خلال الحرب الباردة.
ونصّت "ستارت 3"، التي باتت تواجه مصيراً مجهولاً، على تقليص عدد الرؤوس الحربية النووية لدى كل من روسيا والولايات المتحدة إلى 1550، والصواريخ البالستية العابرة للقارات، والصواريخ البالستية التي تطلق من الغواصات والقاذفات الثقيلة إلى 700 قطعة، وعدد منصات الإطلاق والقاذفات الثقيلة إلى 800 قطعة، وذلك خلال سبع سنوات بعد دخول المعاهدة حيّز التنفيذ.