مصطفى بن لطيف لـ"العربي الجديد": دستور سعيّد يفتح المجال لحكم فردي

08 يوليو 2022
إرساء ديمقراطية جديدة يأخذ وقتاً (محمد كريت)
+ الخط -

يتحدث عميد كلية الحقوق والعلوم السياسية في جامعة تونس المنار، الدكتور مصطفى بن لطيف، في مقابلة مع "العربي الجديد"، عن مشروع الدستور الجديد الذي طرحه الرئيس قيس سعيّد للاستفتاء، والسياق التاريخي والسياسي الذي جاء فيه، مقدّماً جملة من الملاحظات حول هذا المشروع. علماً أن سعيّد كان قد عيّن بن لطيف رئيساً للجنة القانونية المكلفة بكتابة الدستور الجديد مع عمداء كليات الحقوق في تونس، ولكنهم أصدروا بياناً رفضوا فيه المشاركة في هذه اللجنة "تمسكاً بحياد المؤسسات الجامعية والنأي بها عن الشأن السياسي".

بن لطيف حاصل على دكتوراه الدولة في القانون من كلية الحقوق والعلوم السياسية في تونس، وعلى الدكتوراه في القانون العام من كلية العلوم القانونية والاجتماعية والسياسية في جامعة ليل الفرنسية، بالإضافة إلى الإجازة في اللغة والآداب الإنكليزية من جامعة ليدز في المملكة المتحدة وشارل ديغول في ليل الفرنسية.

تولى التدريس بصفة أستاذ زائر أو مدعو في عديد الجامعات الأجنبية، منها جامعة بولونيا في إيطاليا، وجامعة ليل في فرنسا، وجامعات كولورادو وكارولينا الشمالية وجنوب كاليفورنيا في الولايات المتحدة، وجامعة باريس واحد السوربون، وجامعة باريس 2 في فرنسا.

كان عضواً في لجنة الخبراء بالهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي بعد الثورة التونسية، مكلفاً بملف إصلاح الإعلام السمعي والبصري.


كيف تقرأون السياق التاريخي والقانوني والسياسي الذي قاد إلى مشروع الدستور الذي يطرحه الرئيس قيس سعيّد على الاستفتاء؟

هذا الدستور يأتي في سياق سياسي فريد من نوعه على مستويات عدة، بعد 11 سنة من فترة انتقالية غير مستقرة ما زلنا نبحث فيها عن هوية قانونية واستقرار المؤسسات، وكانت عشرية مليئة بالفشل ونقاط الضعف أدت إلى تبرير وإعطاء مشروعية لما وقع يوم 25 يوليو/تموز 2021. الوضع الاقتصادي والسياسي رديء، وتراجعت القيم في عدة مجالات، والحياة السياسية من دون بوصلة واضحة، وكان من الضروري تجاوز هذا الوضع، وربما هو ما برر 25 يوليو وأعطى أسس التطورات العامة التي جاءت بعده.

ولكن هل كان لهذه العوامل أن تقود إلى إصلاح سياسي فقط وربما إصلاح دستور 2014، أم إلى كتابة دستور جديد بالكامل؟

ما حدث هو عملية سياسية كان فيها الدستور غطاء وليس أساساً مقنعاً لما وقع من تأويل للفصل 80 ولإعلان حالة الاستثناء، وتم اتخاذ العديد من الإجراءات بناء عليه كحل البرلمان، بينما الدستور لا يسمح بذلك ويفترض على العكس أن يبقى منعقداً بشكل دائم.

حصلت خروقات للدستور بمبررات سياسية وأعتقد أن وراءها تصوراً خاصاً لسعيّد لمستقبل البلاد

هناك خروقات للدستور حصلت بمبررات سياسية، وأعتقد أن وراءها تصوراً خاصاً للرئيس الحالي لمستقبل البلاد، ولا أقول تصوراً أيديولوجياً، ومسارا يبدو أنه متمسك به، بقطع النظر عن مشروعيته. ويبدو أن الرئيس لديه موقف من الديمقراطية التمثيلية، ويفضّل عليها الديمقراطية المباشرة، فضلاً عن فكرة مشروع البناء القاعدي. ولكل هذه الأسباب والعوامل اختلط الجانب السياسي بالقانوني الدستوري، والإرادة السياسية لرئيس الدولة أدت إلى تجاوز دستور 2014 ثم تعليقه وحتى إلغائه تماماً.

كانت هناك مآزق قانونية ودستورية ثبتت منذ سنوات بعد دستور 2014، ولكن هل كان ينبغي إصلاحها أم الذهاب في اتجاه دستور جديد؟

بالنسبة لي كان من الممكن طرح تعديل دستور 2014 أو حتى التفكير في دستور جديد، وبدا لي أن هناك جوانب في دستور 2014 جيدة، الباب المتعلق بالحريات وخصوصاً الفصل 49 من أفضل ما شاهدت على مستوى الدساتير وليس في تونس فقط. كما يوجد باب كامل حول السلطة المحلية مهم جداً، وقد تم إلغاؤه بالكامل اليوم، بما يوحي بالعودة لدستور 1959 بالتنصيص على فصل وحيد للمجالس الجهوية والبلدية تمارس صلاحيتها وفق ما يضبطه القانون، ولكن التوجّه والنيّة لما سيضبطه القانون قد يكون مختلفاً تماماً عن دستور 59 وهو ما يمهد لبناء النظام القاعدي الذي يفكر فيه الرئيس.

ما هي ملاحظاتك الجوهرية حول مشروع الدستور الجديد الذي ترى الأغلبية أنه يقود إلى حكم فردي وتسلطي؟

الأكيد أن هذا الدستور يذهب في التخلي تماماً عن النظام البرلماني في اتجاه نظام رئاسي قوي وربما رئاسوي، وهناك معطيات تقود إلى هذا. أولاً فيه نقاط ضعف وأحكام تترك المجال للرئاسوية ولحكم فردي قوي، وإذا ربطناه بخلفية البناء القاعدي التي يدعو إليها الرئيس، وبمحكمة دستورية تتكوّن فقط من تسعة قضاة من أقدم رؤساء دوائر، يتأكد هذا الاعتقاد. فتركيبة المحكمة الدستورية في المشروع الجديد تتكون من 9 قضاة من أقدم القضاة في الدوائر، وهناك من أطلق عليها نادي المتقاعدين، بغياب كلي للجامعيين والمحامين ومعنيين آخرين بشكل مباشر بالشأن القضائي، ففي كل المحاكم الدستورية في العالم تقريباً هناك جامعيون، لأنهم يمثلون العنصر التقدمي والمدافعين عن تطور فقه القضاء والبحث والبُعد النظري والمواكبة، أكثر من القضاة المنغمسين في الممارسة اليومية. وعموماً، لكي يكون لدينا قضاء ديناميكي كان ينبغي أن يتوفر حد أدنى من التنّوع.

الدستور الجديد لا يتضمن أي رقابة على رئيس الجمهورية

أيضاً هذا الدستور لا يتضمن أي رقابة على رئيس الجمهورية، ولا تستطيع المحكمة الدستورية المعيّنة من الرئيس أن تكون بهذا الشكل سلطة مضادة له. والرئيس حذف كل سلطة مضادة تسمح بالمساءلة أو الرقابة، مع تحكّم كلي في الحكومة والأعضاء، وله تحكّم بشكل أو آخر في البرلمان لأن لديه سلطة حله وإعفاء الحكومة. نحن بالتالي أمام دستور فيه مخاطر حقيقية لحكم فردي قوي، وفيه العديد من الأحكام التي تمثل أبواباً على المخاطر والمجهول.

ماذا عن تحجيم دور السلطة التشريعية وضرب التوازن بين السلطات في هذا المشروع؟

من المطبّات والأحكام الغامضة ألا يتم انتخاب البرلمان بشكل مباشر، وهو يفتح الأبواب أمام البناء القاعدي. ما يسود في العالم اليوم هو الديمقراطية التمثيلية على علاتها، وليس الديمقراطية المباشرة، ولا توجد تجربة مقنعة في هذا المجال، ولذلك فالتوجه العالمي اليوم يسير نحو الديمقراطية التشاركية، وهي حل وسط بين الديمقراطية التمثيلية والمباشرة.

الديمقراطية التشاركية تكون بانتخاب مباشر للمؤسسات، ولكن القرارات والسياسات تُتخذ بتشريك السكان والمجتمع المدني والنقابات والأحزاب. وما يعاب على الرئيس سعيّد وعلى المشروع الحالي هو غياب التشاركية وذهابه نحو المباشر، وهو ما يعتبره البعض طوباوية وغير واقعية.

هناك أيضاً مسألة تحويل السلطات إلى مجرد وظائف وتحجيمها

هذا أيضاً محل جدال كبير، يمكن أن نرى أن السلطة تمارس وظيفة، ولكن في السياق التونسي حذف السلطات وجعلها مجرد وظيفة قد يُفهم منه تهميش هذه السلطات والحد من دورها، وهو يحمل هذا الخطر.

ماذا عن الجدل حول قضايا الهوية، بالتخلي عن الإشارة إلى مدنية الدولة في مشروع الدستور الجديد؟

في الحقيقة دستور 2014 لم يحسم الجدل، بل أجّل موضوع مدنية الدولة ونقاش الهوية، كما حدث مع دستور 1959، في انتظار التوفيق بين كل الأطراف، وفي ذلك بقي شيء من الغموض وحصل نوع من الوفاق بالإبقاء على الفصل الأول من الدستور كما هو. هذه المرة عدنا إلى صيغة 1959، حُذف منها دين الدولة، ولكن في توطئة الدستور تم التنصيص على الانتماء إلى الأمة الإسلامية والعربية، وهو ما خلق جدلاً جديداً نحن في غنى عنه، وكأننا حذفناه من الفصل 1 وأكدناه في التوطئة وكذلك في الفصل 5 الذي يحمل العديد من التأويلات.

توطئة الدستور الجديد كُتبت بخطاب أدبي وعبارات فضفاضة وتحمل تأويلات خطيرة

التوطئة طويلة جداً وكُتبت بخطاب أدبي وعبارات فضفاضة وتحمل تأويلات عديدة وخطيرة في عدد من التقاليد المتعلقة بهوية الشعب التونسي، وتونس نعرفها العربية الأفريقية المتوسطية، والصيغة التي جاءت تفتح جدلاً كبيراً وتفتح الباب للتأويل والمخاطر.

التوطئة جاءت وكأنها تحمل قراءة شخصية للتاريخ من سعيّد يريد دسترتها بالقوة

هذه التوطئة بقطع النظر عن كونها قراءة شخصية، تحمل تأويلات، لأن النصوص ليست سرداً للتاريخ ويُفترض أن تكون أكثر اقتضاباً ودقة وصرامة في الصياغة القانونية.

بعد كل هذا نتساءل من صاغ هذا الدستور وكيف تمت صياغته؟

صياغة الدستور جاءت بشكل مُسقط، وغريبة لمن ينادي بالديمقراطية المباشرة، غابت عنها الصبغة التشاركية بتغييب كل الأطراف تقريباً، بلجنة صغيرة، وحتى العمداء والمتخصصون رفضوا المشاركة لأنها جاءت بتعيين مُسقط وبشكل فوقي ومن دون تشاور.

صياغة الدستور جاءت بشكل مُسقط، وغريبة لمن ينادي بالديمقراطية المباشرة

كنتم من بين الموقّعين على بيان العمداء الذين عيّنهم سعيّد لعضوية اللجنة القانونية لكتابة الدستور، واليوم يتبيّن فعلاً أنكم كنتم محقين، خصوصاً مع ما كشفه العميد الصادق بلعيد

نعم، كنت من بين الموقّعين على بيان العمداء الذين رفضوا المشاركة في الصياغة، لأننا رفضنا الدخول في الصراع السياسي من أجل الحفاظ على حياد الجامعة واستقلاليتها، وقد كانت دائماً فضاء مفتوحاً أمام الجميع للنقاش الفكري والسياسي، ونريد أن نحافظ على هذا التساوي والحياد أمام الجميع، ويبدو أنه كان خياراً مشروعاً.

انطلاقاً من اطلاعكم الواسع على تاريخ الدساتير في العالم وطريقة صياغتها، أين نحن اليوم؟ هل عدنا سنوات إلى الوراء؟

نحن في وضع نراوح مكاننا بين تاريخ فيه كثير من التسلطية، والانفراد باتخاذ القرار، وهي تقاليد موجودة في بلادنا ومحيطنا، وكان منتظراً أن يتم القطع معها بعد 2011. وفي الحقيقة أسأنا استعمال الفرصة التاريخية في تكريس الحريات والتشاركية، خصوصاً أن تكون أرضية لبناء نظام سياسي جديد، وأرضية تنموية حقيقية. ولكن الفشل في التجربة بين 2011 و2014 هو فشل اقتصادي وتنموي إلى جانب الفشل السياسي فتح الباب أمام المد والجزر وأحياناً الحنين الضمني إلى دستور 59 كما في هذا المشروع.

ما نعيشه اليوم، هل هو مجرد صدمة تاريخية، ضرورية ربما، أم هو سقوط نهائي كبير يصعب تجاوزه؟

أنا أحافظ على التفاؤل، لأن كل الثورات في تاريخ العالم عرفت فترات مد وجزر، والانتقال وإرساء ديمقراطية جديدة يأخذ وقتاً، و10 و15 عاماً ليست مدة طويلة، فالثورة الفرنسية استقرت مع الجمهورية الثالثة أي بعد 80 أو 90 سنة.

المساهمون