بدلاً من أن تدفع حوادث القطارات الأخيرة التي شهدتها مصر، إلى مراجعة الاستراتيجية الحكومية في مجال النقل والسكك الحديدية التي يشرف عليها رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي شخصياً ويديرها وزير النقل كامل الوزير، بترشيد الإنفاق على المشاريع الجديدة التي لا يشعر المواطنون بها، وتوجيه مليارات الجنيهات التي تدفع بالفعل إلى تطوير شبكة المواصلات الأكثر فاعلية في مصر فنياً وبشرياً، حوّل الوزير اتجاه الحديث خلال الخطاب الذي أدلى به الإثنين الماضي في مجلس النواب، معلقاً فشله المتكرر على من سماهم الموظفين المتطرفين والمنتمين لجماعة "الإخوان"، والصبية الذين يقذفون القطارات بالحجارة. ويشكّل ذلك تنصّلاً واضحاً من المسؤولية السياسية وتجاهلاً غير مسبوق لما يحفل به هذا القطاع من كوارث إدارية وفنية.
ويبدو أن الوزير الذي يوفر له السيسي حماية استثنائية من المحاسبة، باعتباره رئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة سابقاً، قد حقق بالفعل ما كان يستهدفه السيسي من تعيينه وزيراً للنقل، فما طرأ بالفعل على تعامل الدولة مع الحوادث والأزمات في هذا القطاع هو التخفيف المقصود لحالة الهلع والغضب الجماهيري إزاء تكرار حوادث القطارات، والإحالة السريعة للسائقين والعاملين في المرفق إلى التحقيقات الجنائية والتأديبية والمحاكمات، من دون تحميل المسؤولية للوزير. وبات الأخير متحصناً بخلفيته العسكرية ورتبته التي منحها له السيسي تكريماً له بعد اختياره وزيراً "فريق"، وامتدت هذه الحصانة إلى سلبيات القطاع ككل، فلم يعد مسموحاً لوسائل الإعلام والنواب بفتح القضايا، وكأن الحل كان في قمع الانتقادات لا التعامل بإيجابية معها.
حفل عهد كامل الوزير منذ بدايته بالحوادث لكنه لم يعترف بمسؤوليته في أي مرة
وحفل عهد كامل الوزير منذ بدايته بالحوادث، التي تحوّلت أخيراً إلى وتيرة شبه يومية، لكنه نجا منها جميعاً ولم يطبّق عليه ما حدث مع أسلافه، كما لم يعترف ولا مرة واحدة بمسؤوليته على عكس وزراء النقل السابقين. وعلى الرغم من سوء حالة القطارات وعدم دقة المواعيد والتأخر والحوادث، ظل الوزير بمعزل عن الرقابة، بل إنه، وبمباركة من السيسي، حصل على مساحة أكبر كواجهة للمشاريع المستقبلية، كمشروع القطار فائق السرعة بين العلمين الجديدة والعين السخنة، والمونوريل، والموانئ البرية الجديدة، فضلاً عن توليه التنسيق مع الجيش في شق وإنشاء الطرق الجديدة التي تديرها الهيئة الهندسية.
وعكس حديث الوزير عن مسؤولية الموظفين "الإخوان" والمتطرفين "وسعيهم لإفشال التطوير" وربطه بعض الحوادث بعرض مسلسل "الاختيار 2"، مخالفته الواضحة وازدراءه لقرارات النيابة العامة بحظر استباق نتائج تحقيقاتها، بل ومضيه في اتجاه مناقض للتحقيقات المبدئية في حادث قطار بنها الذي وقع الأسبوع الماضي، والتي أثبتت وجود مخالفات فنية ومسلكية لعدد من عاملي ومسؤولي السكة الحديد، مثل تزوير أوراق الحضور والانصراف والتواجد في أماكن المراقبة والتسيير وعدم الإخطار بضرورة إبطاء السرعة في أماكن معينة.
ولم يعلّق الوزير إطلاقاً على سبب إنفاق مئات الملايين من الجنيهات، حسب قوله سابقاً، على نظام الربط الإلكتروني بين القطارات الذي تم استيراده من الخارج وتطبيقه في معظم محطات وقطارات الجمهورية منذ عام، ثم إصدار تعليمات بوقف استخدامه لعدم ملاءمته بعض القطارات وفشل السائقين في التعوّد عليه، الأمر الذي يفتح ملف إهدار المال العام في هذا القطاع الحيوي.
لكن اللافت أنه بعد ساعات معدودة من حديث الوزير، خرجت صفحات مختلفة على مواقع التواصل الاجتماعي معروفة بتبعيتها لأجهزة رسمية في الدولة، بقوائم معدة سلفاً تضم أسماء أشخاص غير معروفين وعناوينهم وبيانات شخصية عنهم تزعم أنهم عاملون في السكة الحديدية ينتمون لجماعة "الإخوان"، في تحريض واضح ضد مجموعة من المواطنين من دون أدلة أو براهين مشروعة، في عودة لأجواء الانتقام "المكارثي" من الإسلاميين في أعقاب انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013.
وقالت مصادر مطلعة في وزارة النقل لـ"العربي الجديد" إن الوزير أصدر تعليمات بإبعاد أكثر من 35 عاملاً في السكك الحديدية عن مواقعهم ونقلهم إلى وظائف إدارية، أو وقفهم عن العمل، في ترجمة عملية سريعة لتصريحاته أمام البرلمان.
الوزير أصدر تعليمات بإبعاد أكثر من 35 عاملاً في السكك الحديدية عن مواقعهم
وأضافت المصادر أن تحديد العمال تم بناء على تقارير أعدها الأمن الوطني سابقاً وطلبها الوزير مجدداً منذ أيام. ورجحت أن تكون هذه الخطوة مقدمة لتطبيق خطة الحكومة للتنكيل بجماعة "الإخوان المسلمين" وامتداداتها في المجتمع المصري، على قطاع السكك الحديدية، كما حدث في قطاعات عدة، منها التعليم والبنوك وشركات البترول ودواوين الوزارات والهيئات العامة والجامعات منذ عام 2019، بإصدار قرارات بفصل أكثر من أربعة آلاف موظف (منهم ألف وخمسمائة من وزارة التربية والتعليم وحدها) من الوزارات الخدمية وكذلك في الجهات الحساسة في الدولة، ونقل العشرات الآخرين إلى وزارات وهيئات خدمية، بحجة انتمائهم أو انتماء أقاربهم من الدرجتين الثالثة والرابعة إلى جماعة "الإخوان"، واستحالة إسناد مهام عالية المستوى لهم بسبب "حظرهم أمنياً".
ووضع الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة هذه الروزنامة عام 2019، وكشفت عنها "العربي الجديد" في حينه، بهدف خفض أعداد الموظفين الحكوميين إلى نحو 4 ملايين، وذلك بإجراء تحريات أمنية غير اعتيادية على الموظفين الحاليين، فضلاً عن آلاف الموظفين المحبوسين احتياطياً، والذين سافروا في إعارات أو انتدابات خارج مصر بعد انقلاب 2013 والإطاحة بحكم الرئيس محمد مرسي، للعمل في دول عربية أو خليجية، بهدف إجبارهم على تقديم استقالاتهم وإخلاء عدد كبير من الدرجات المالية والوظيفية في مختلف الجهات الحكومية.
ويرسل جهاز الأمن الوطني التابع لوزارة الداخلية بشكل دوري إلى النيابتين العامة والعسكرية قوائم كاملة بجميع الموظفين الحكوميين المحبوسين احتياطياً والمدانين في قضايا عنف أو تظاهر أو الانضمام لجماعة "الإخوان" وأي جماعات أخرى، وتم توزيعها بصورة مفهرسة ومقسمة جغرافياً على فروع النيابة الإدارية في المحافظات المختلفة، لتفتح الأخيرة (وهي الهيئة القضائية المنوط بها دستورياً التحقيق مع الموظفين) تحقيقات صورية في مدى انتظام عمل هؤلاء الموظفين المحبوسين، ومدى حاجة أعمالهم إليهم. وفي مرحلة لاحقة، أجريت تحريات أمنية تمتد لدرجة القرابة الرابعة لاستبعاد الموظفين الأقارب للمتهمين أو المحكومين في قضايا "الإخوان".
ولا يقتصر الأمر على الموظفين المقيمين في مصر؛ فبحسب المصادر، أرسلت بعض الأجهزة الرقابية، كالجهاز المركزي للمحاسبات وجهاز التنظيم والإدارة، تعميمات بعودة العديد من موظفيها الحاصلين على إجازات من دون مرتب للعمل خارج مصر، وزعمت التحريات الأمنية انتماءهم لجماعة "الإخوان" أو معارضتهم للنظام الحالي، طالبة منهم ضرورة قطع إجازاتهم والعودة إلى مصر أو الاستقالة والاستمرار في الخارج، وهو ما حدث في ربيع 2019 في قطاعات التعليم والصحة والبترول.
تعوّل الحكومة على اتّباع آلية التقاعد المبكر وحظر التعيينات الجديدة للتخلص من مليوني موظف
ووفقاً لاستراتيجية التنمية المستدامة (2030) التي أعلنها السيسي العام الماضي، تعوّل الحكومة على اتّباع آلية التقاعد المبكر المذكورة في قانون الخدمة المدنية الجديد، مع حظر التعيينات الجديدة نهائياً، إلا في صورة تعاقدات مؤقتة كالتي ترغب وزارة التعليم في تطبيقها، أو عقود استشارية مؤقتة، أو في الجهات ذات الطابع الاستثنائي التابعة لرئاسة الجمهورية، للتخلص من 50 في المائة على الأقل من الرقم المراد تخفيضه، وهو مليونا موظف، حتى يصل الجهاز الحكومي لحوالي 3 ملايين و900 ألف موظف فقط بعد عامين. علماً أن العدد الحالي للموظفين هو 5 ملايين و800 ألف موظف تقريباً، منهم 5 ملايين في الجهاز الإداري الأساسي، و800 ألف يتبعون لقطاع الأعمال العام المكوّن من الشركات القابضة والتابعة التي تديرها الحكومة وتساهم فيها مع مستثمرين آخرين.
وأقر مجلس النواب المصري في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي مشروع قانون لتنظيم فصل العاملين في الدولة بغير الطريق التأديبي، أي الفصل المباشر بقرار إداري، من دون العرض على جهات التحقيق المختصة بالتعامل مع موظفي الخدمة المدنية وغيرهم من العاملين، ومن دون أن يكون القرار صادراً من النيابة الإدارية، وحتى من دون عرض الأمر على المحاكم التأديبية. وسُوّق مشروع القانون في البرلمان ووسائل الإعلام على أنه تنظيم جديد يهدف في الأساس للتخلص من العاملين المنتمين لجماعات إرهابية، وعلى رأسها بالطبع جماعة "الإخوان".
لكن الواقع الذي تحمله وثائق تمرير هذا المشروع يشي بتغييرات أوسع على التنظيم الحكومي في مصر، ويعكس سعياً حثيثاً لإزالة ما يتبقى من عقبات تحول دون البطش الكامل بـ"الإخوان" ومعارضي النظام وبصورة تترك آثاراً سلبية عميقة على النظام العام كما جرت العادة في عهد السيسي.
ويتضمّن المشروع تطبيق الفصل بغير تأديب على جميع العاملين في مختلف أجهزة الدولة من دون استثناء تقريباً، باسطاً سلطته على "وحدات الجهاز الإداري للدولة ووحدات الإدارة المحلية وأي من الجهات المخاطبة بأحكام قانون الخدمة المدنية والذين تنظّم شؤون توظيفهم قوانين أو لوائح خاصة، وذلك من غير الفئات المقرر لها ضمانات دستورية في مواجهة العزل، وكذلك يطبق على الموظفين والعاملين بالهيئات العامة الخدمية والاقتصادية أو المؤسسات العامة أو أي من أشخاص القانون العام أو شركات القطاع العام أو شركات قطاع الأعمال العام". ويعني هذا بدء تطبيقه على ضباط الجيش والشرطة وموظفي شركات القطاع العام والشركات القابضة والتابعة والبنوك المملوكة للدولة وغيرها من المؤسسات، باستثناء القضاة فقط الذين يحظّر الدستور -حتى الآن- عزلهم بشكل مباشر من دون العرض على التفتيش ومحاكمتهم تأديبيا، علماً بأن الدرجة الدنيا حديثة العهد بالتعيين في القضاء يمكن تطبيق هذا القانون عليها، إذ لا تحظى بنفس الحماية المقررة للقضاة.
وينص المشروع صراحة على فصل العامل بغير الطريق التأديبي إذا أدرج العامل على قوائم الإرهابيين، على أن يعاد إلى عمله في حالة إلغاء قرار الإدراج، علماً بأنه لم يسبق لأي شخص أن خرج من تلك القوائم التي تحوّلت إلى أداة عقاب وتنكيل بدلاً من كونها في الأساس -نظرياً- إجراء احترازياً لحين انتهاء التحقيقات في القضايا.
ويغيّر المشروع طريقة التقاضي في هذه المنازعات، ففي السابق كان القضاء الإداري ملزماً بالفصل في الطعون التي يقيمها الموظفون أو العاملون ضد قرارات فصلهم بغير الطريق التأديبي خلال سنة واحدة من رفع الدعاوى، لكن المشروع الجديد يفتح المدة من دون قيود ليسمح بتأخير الفصل في الطعون لأجل غير مسمى.