طرحت الحكومة المصرية، أمس الأول، للمرة الأولى، مشروع تعديل على قانون المحكمة الدستورية العليا، يُمكنها من وقف تنفيذ الأحكام والقرارات الصادرة عن محاكم ومنظمات وهيئات دولية ذات طبيعة سياسية أو قضائية في مواجهة الدولة المصرية، أو التي ترتأي السلطة الحاكمة في مصر أنها تخالف الدستور أو التشريعات المحلية.
وكشفت مصادر حكومية مطلعة، في أحاديث خاصة لـ"العربي الجديد"، أن السبب الرئيس لتقديم هذا المشروع هو تخوف الدولة من صدور أحكام وقرارات تنفيذية عن منظمات دولية ودول أجنبية ضد مصر في الفترة المقبلة، على خلفية بعض الدعاوى القضائية المرفوعة ضد الحكومة المصرية، وبعض قياداتها بصفاتهم وأشخاصهم في الوقت الحالي، وكذلك تخوفها من صدور أحكام ضد مصر عن هيئات تحكيم دولية مخالفة لما ترنو إليه الدولة في عدد من المنازعات ذات الطبيعة الاقتصادية، بالإضافة إلى ما يمكن صدوره من أحكام وقرارات خاصة بتنفيذ القاهرة التزاماتها الحقوقية، في إطار الحريات الشخصية والعامة، بموجب المعاهدات الدولية التي وقعت عليها في فترات سابقة.
لم تسمح السلطات المصرية للمحاكم بتقييد الأحكام الدولية الصادرة ضد القاهرة إلا في حالات معدودة
وينص المشروع الجديد على أن تتولى المحكمة الدستورية العليا "الرقابة على دستورية قرارات المنظمات والهيئات الدولية، وأحكام المحاكم وهيئات التحكيم الأجنبية المطلوب تنفيذها في مواجهة الدولة". ويجيز المشروع "لرئيس مجلس الوزراء أن يطلب من المحكمة الدستورية العليا الحكم بعدم الاعتداد بالقرارات والأحكام المشار إليها في المادة 37 مكرر، أو الالتزامات المترتبة على تنفيذها. ويختصم في الطلب كل ذي شأن، ويُرفق به صورة مبلغة للقرار أو الحكم المطلوب عدم الاعتداد به، وترجمة معتمدة له. ويجب أن يبين في الطلب النص أو الحكم الدستوري المدعى بمخالفته، ووجه المخالفة، وتفصل المحكمة في الطلب على وجه السرعة، فيما تعلقت المادة الثانية بالنشر".
والترجمة العملية لهذه النصوص هي أنه في حال صدور حكم ضد مصر، أو قرار ملزم لها بأداء مستحقات، أو تعويضات مالية، أو أدبية، أو الالتزام بنصوص معينة من معاهدات دولية، أو توقيع عقوبات، تتطلب رفع الضرر الواقع على أشخاص، أو أطراف أو جهات، فإن رئيس الوزراء يمكنه التقدم إلى المحكمة الدستورية العليا طالباً وقف تنفيذ تلك الأحكام أو القرارات، بحجة مخالفتها للدستور المصري.
ويعتبر هذا الاتجاه مخالفاً بشكل صريح لاتفاقية فيينا، التي وقعت القاهرة عليها، بشأن المعاهدات الدبلوماسية، والحاكمة لجميع اتفاقيات الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها. إذ إن هذه الاتفاقية تسمح للدول بالتحفظ على بعض مواد أو بنود الاتفاقيات التي توقع عليها، ليكون تنفيذها مقيداً بالنصوص الدستورية المحلية، لكنها تحظر وقف تنفيذ القرارات والأحكام الخاصة بتلك الاتفاقيات، أو المترتبة عليها بأحكام قضائية محلية. ففي هذه الحالة تكون الاتفاقية هي الشريعة الأعلى التي يجب الالتزام بها.
وسبق لمصر بالفعل أن نفذت الشروط الخاصة بالاتفاقية، عندما صدقت على العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الصادر عام 1966 بقرار من الرئيس الراحل أنور السادات في 1981، مع التحفظ، شرط التقيد بتطبيق المادة الثانية من الدستور التي تنص على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، ما سمح للقاهرة بتلافي بعض الالتزامات الخاصة بالحريات الشخصية في السنوات التالية، بحجة مخالفتها للشريعة. كما صادقت مصر، في الإطار ذاته، على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، واتفاقيات مناهضة التعذيب وحقوق الطفل وحظر التمييز العنصري، خلال عهد الرئيس المخلوع الراحل حسني مبارك.
لكن السلطات المصرية لم تسمح للمحاكم على الإطلاق بتقييد الأحكام الدولية الصادرة ضد القاهرة في هذه الشؤون، أو قضايا التحكيم التجاري الدولي، إلا في حالات معدودة كانت الدولة تلجأ فيها للقضاء للتعبير عن وجود تنازع أو تضارب في تنفيذ القوانين المحلية ذات الصلة بين القضاء المحلي وهيئات التحكيم الدولية، كما حدث في قضية المستثمر اللبناني وجيه سياج، التي انتهت بالتصالح، أو قضية شركة "ماليكورب" البريطانية التي انتهت لصالح مصر.
وفي كل الأحوال كانت مصر تتعمد الحفاظ على المسار القانوني الدولي، بهدف جذب المزيد من الاستثمارات بناء على إعطاء ضمانات بأن القاهرة تملك سجلاً جيداً من الالتزام بالأحكام الدولية، خاصة ما يتعلق بالمنازعات مع المستثمرين المنتمين لدول موقعة على اتفاقية حماية الاستثمارات، والمركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار (إكسيد).
من الملفات المؤرقة لمصر بشأن الحقوق والحريات الدعاوى التي قد ترفع في محاكم أجنبية من نشطاء أو لاجئين مصريين
وأوضحت المصادر الحكومية أن الأسباب السابقة كانت من الملاحظات الأساسية التي أثيرت داخل الحكومة لدى مناقشة المقترح التشريعي الجديد، مصحوبة بتحذيرات من تأثيراتها على علاقات مصر الاستثمارية وجاذبيتها لرؤوس الأموال، في ظل الخشية من عدم التزام القاهرة بتنفيذ الأحكام القضائية، أو التحكيمية، الصادرة لمصلحة المستثمرين. وأضافت أنه من الصعب إقناع هؤلاء المستثمرين، خاصة من الدول التي تربطها بمصر تشريعات تحكيمية، بأن القاهرة لا تخطط لاستخدام هذا التعديل التشريعي في منازعات الاستثمار، أو التركيز على القضايا الخاصة بالحقوق والحريات فقط، وخاصة أن النص يتحدث بشكل صريح عن "هيئات التحكيم".
وعن نوعيات المنازعات التي تخشاها الدولة، قالت المصادر إن المجموعة الأولى منها خاصة بالدعاوى المرفوعة حالياً ضد مصر كسلطة، أو ضد أشخاص، ولكن قد تترتب عليها مقاضاة مصر كسلطة، مثل قضية مقتل الشاب الإيطالي جوليو ريجيني، والتي ستبدأ المحاكمة الغيابية لأربعة ضباط مصريين على ذمتها في الخريف المقبل. لأن الحكم الصادر ضد هؤلاء - وإن كان شخصياً - فهو يمكن استغلاله في دعاوى جديدة تطالب السلطة بالتعويض، أو فرض عقوبات معينة، الأمر الذي ترى الدولة أنه يتصادم مع الدستور المصري في قواعد اختصاص المحاكم الجنائية، وأنه لا يجوز القبول بأحكام جنائية صادرة بشأن قضايا محلية من محاكم أجنبية. وتضم هذه المجموعة أيضاً الدعاوى التي حاول عدد من النشطاء رفعها ضد الدولة، وضد شخصيات بعينها من المسؤولين المصريين بين عامي 2013 و2015، سواء في قضية فض اعتصامي رابعة والنهضة أو التعذيب، أمام محاكم أميركية وبريطانية ودولية. ورغم تعثر الإجراءات الخاصة بتلك الدعاوى، إلا أنها تبقى مصدر قلق للنظام المصري.
ومن الملفات المؤرقة بشأن الحقوق والحريات أيضاً الدعاوى التي قد ترفع في محاكم أجنبية، من نشطاء أو لاجئين مصريين، بحجة الاضطهاد على خلفية النوع والجنس أو الدين، خاصة مع عدم استعداد مصر للاعتراف بحقوق وحريات المثليين والمتحولين جنسياً، لتضارب هذا مع المادة الثانية من الدستور الخاصة بالشريعة الإسلامية، واعتبار تلك الممارسات من ضروب الفسق والفجور. فضلاً عن أن الطوائف الدينية، من غير المسلمين والمسيحيين واليهود، مثل البهائيين وغيرهم، حاولوا سابقاً مقاضاة القاهرة في الخارج أيضاً، ولن تعترف الدولة بأحقيتهم في شيء بناء على المادة الثانية من الدستور أيضاً، وكذلك المادة الثالثة التي حددت الطوائف غير الإسلامية التي تحظى بالحقوق، وهي المسيحية واليهودية فقط. ولطالما كانت اتهامات الاضطهاد الديني من الدوافع الأساسية للانتقادات الأممية والأميركية تحديداً للسلطة المصرية، بما في ذلك التعليقات خلال المراجعة الأخيرة لأوضاع حقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة.
المجموعة الثانية من الملفات التي تقلق السلطة هي الخاصة بمنازعات الاستثمار
أما المجموعة الثانية من الملفات التي تقلق السلطة، فهي الخاصة بمنازعات الاستثمار، خاصة بعد الأحكام المختلفة التي استصدرتها جهات عدة ضد مصر، بسبب الإخلال بالتعاقدات في سنوات ما بعد ثورة 2011، بما في ذلك ما حصلت عليه دولة الاحتلال الإسرائيلي من أحكام، انتهت إلى التوصل لتسوية مالية ضخمة، استخدمت لاحقاً لتدشين تعاون متعدد الصور في مجال الطاقة. والمستجد البارز في هذا الملف أن عدداً كبيراً من المستثمرين الأوروبيين الصغار قد انسحبوا من السوق المصرية في الشهور القليلة الماضية، بعد فشلهم في توفيق أوضاعهم وفق قانون الاستثمار الجديد، أو اعتراضهم على احتكار الدولة لعدد من الأنشطة الاقتصادية وصعوبة المنافسة. يذكر أن النظام في مصر، بعد 2013، كان قد أصدر عدة قوانين تمنع الطعن بتعاقدات الدولة مع المستثمرين المحليين والأجانب، خشية صدور أحكام قضائية ببطلانها، تدفع المستثمرين للجوء إلى التحكيم ضد القاهرة، على غرار ما حدث بين 2010 و2013.