شرع البرلمان التونسي قبل أيام في مناقشة مشروع قانون المنظمات غير الحكومية الذي قدمته مجموعة من البرلمانيين في 10 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. ويهدف مشروع القانون لاستبدال قانون الجمعيات الحالي، والذي جاء بعد ثورة 2010، لفرض رقابة على تشكيل منظمات المجتمع المدني في تونس ومراقبة تمويلها ونشاطها.
وبالتزامن، يرى نشطاء من المجتمع المدني في تونس أن المشروع يمنح السلطات التنفيذية سلطات واسعة وغير مقيّدة، تتعارض تعارضاً تاماً مع القانون الدولي والمعايير الدولية لحقوق الإنسان في ما يخص حرية تكوين الجمعيات أو الانضمام إليها، كما يزيل الضمانات الأساسية ضد التدخل غير المبرر من جانب السلطات في عمل الجمعيات.
وكان ممثلو جمعيات ومنظمات غير حكومية في تونس قد اعتبروا أن السلطات تسعى لفرض قيود غير ضرورية وغير متناسبة مع حرية تشكيل وتنظيم نشاط وتمويل منظمات المجتمع المدني في تونس. ورأوا أن هذه القيود تهدد استقلالها عبر السماح للحكومة بالتدخل غير المبرر في عملها ونشاطاتها.
ورفضت نحو 50 منظمة وجمعية، في بيان مشترك في ديسمبر/ كانون الأول الماضي رفضاً قاطعاً مقترح القانون، مطالبة مجلس نواب الشعب بسحبه حالاً. وأكدت "تمسكها بالمرسوم عدد 88 لسنة 2011 كإطار قانوني لتنظيم الجمعيات، معتبرة أنه "كفيل بضمان شفافية نشاطها وتسييرها وتمويلها".
وشدّدت في البيان على "تمسكها بحرّية واستقلالية" المجتمع المدني في تونس وعلى "رفضها لكل أشكال التضييق عليه قانوناً وممارسة".
اتهامات تطاول المجتمع المدني في تونس
بالمقابل انتقد الرئيس التونسي قيس سعيّد الجمعيات، في أكثر من مناسبة، مشيراً إلى "حدوث العديد من التجاوزات في ملف الجمعيات، ما يهدد السيادة الوطنية".
فقد تعرّض سعيّد خلال لقاء جمعه بوزيرة العدل ليلى جفّال، في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، إلى شبهات تمويل عدد من الجمعيات، قائلاً إنه "ليس تضييقاً على الجمعيات أو المجتمع المدني، لكنها (الجمعيات) كانت امتداداً للأحزاب وللمخابرات الأجنبية"، مضيفاً أن "هؤلاء استباحوا الدولة ولا بد من وضع حد لهذا الوضع، ولا بد للقضاء أن يلعب دوره في البلاد".
وقال إنه "لا يمكن أن نطهّر البلاد بمثل هذه المؤسسات ونترك هؤلاء المجرمين يعبثون بمقدرات الشعب التونسي"، في إشارة إلى بعض الجمعيات المدعومة من الخارج.
من جهتها اعتبرت النائبة فاطمة المسدي (مساندة لسعيّد)، في تصريح صحافي في ديسمبر الماضي، أن "هذا المشروع على عكس ما يحاول البعض ترويجه عنه من مغالطات، فهو ينظم العمل الجمعياتي بتونس، ويهدف إلى إرساء دولة القانون". وأضافت أن "الدولة التي انتظرناها بعد الـ25 من يوليو (تموز) 2021 تحارب الإرهاب وتبييض الأموال".
ورأت المسدي أن "مشروع القانون يمكّن من التحكم في ما اعتبرته "حنفية الأموال المشبوهة التي تدخل من طريق بعض الجمعيات التي تكونت بعد يناير/ كانون الثاني 2011"، مضيفة أن "التجربة أثبتت أن بعض الجمعيات تسعى إلى ضرب قيم الدولة التونسية في الأعماق وحان الوقت لمراقبة طرق تمويلها".
قانون الجمعيات الحالي أحد الإصلاحات
واعتمدت تونس عام 2011 المرسوم عدد 88 الخاص بالجمعيات، إذ اعتُبر وقتها أحد الإصلاحات الرئيسية بعد سنوات من التضييق على المجتمع المدني زمن الديكتاتورية. وقد سُمح بموجب هذا المرسوم بإنشاء المنظمات غير الحكومية عن طريق التصريح بتكوينها فقط، بدل المرور عبر ترخيص وزارة الداخلية.
وبالرغم من محافظة المقترح الجديد، والذي بدأت لجنة الحقوق والحريات في البرلمان الأربعاء الماضي بدراسته، على نظام التصريح بدلاً من شرط الترخيص لتشكيل المنظمات غير الحكومية، إلا أنه يستحدث عملية تسجيل غير واضحة ومتعددة الإجراءات ومتشعبة، مما يخالف مبدأ نظام التصريح (الفصول 7 و8 و9).
وترجح المنظمات غير الحكومية أن يؤدي هذا الغموض إلى قيود غير ضرورية وغير متناسبة على الحق في حرية تكوين الجمعيات أو الانضمام إليها.
ووفقاً لمشروع القانون، فيمكن للمنظمات غير الحكومية الطعن في قرار رفض إنشائها في المحكمة، ولكن لم يتم تحديد آليات الاستئناف.
وفي وقت ينص القانون الحالي على آليات قوية تخص الإبلاغ عن مصادر التمويل وتدقيق الحسابات، والتي يمكن تبريرها من الناحية النظرية لضمان الشفافية، فإنه بموجب الفصل 18 من مسودة القانون المقترح، يجب على منظمات المجتمع المدني الوطنية الحصول على إذن مسبق من الحكومة في كل مرة تتلقى فيها تمويلاً أجنبياً جديداً. كما تواجه منظمات المجتمع المدني التي لا تمتثل لهذا الشرط، وفق المسودة، خطر التعليق الفوري أو الحل الفوري (الفصل 24).
شيطنة الجمعيات في تونس
من جهته يعتبر محلل السياسات العامة بمنظمة "البوصلة" المختصة في الرقابة، أمين خراط، في تصريح لـ"العربي الجديد''، أن "هذا المقترح يتنزل في سياق حملة كاملة لشيطنة المجتمع المدني لا تعكس رغبة في الإصلاح، بل تأتي في مناخ من تشويه واستهداف الجمعيات".
خراط: لا يمكن عزل المشروع المقترح عن السياق العام في البلاد
ويشير إلى أنه "إذا نزّلنا المقترح في سياق التضييق والاعتقالات السياسية واستهداف الإعلام وحرية التعبير، فقد أصبحنا نستقرئ استهداف المجتمع المدني الذي ما زال يمثل سلطة مضادة وصوتاً نقدياً في البلاد، وبالتالي لا يمكن عزله عن السياق العام".
ويضيف خراط أن "الحجج التي قام عليها المقترح الجديد لا نراها مناسبة، باعتبار أن الجمعيات تخضع لرقابة مالية بحسب المرسوم 88، كما تخضع لقانون مكافحة غسيل الأموال ومكافحة الإرهاب". ويلفت إلى أن "الحكومة اعتمدت المرسوم أخيراً لتعليق عمل جمعيات، وأصدرت أوامر قضائية لحل 69 جمعية، ما يؤكد وجود كل الآليات لممارسة الرقابة".
ويتابع: "نحن نتمسك بالمرسوم 88 الخاص بالجمعيات باعتباره مكسباً، وكل محاولة للمساس به هو تضييق على الجمعيات وليس رغبة في الإصلاح".
ويشدّد على أن "خطاب استهداف الجمعيات اعتمده رئيس الجمهورية في أكثر من مناسبة، خصوصاً في كل التحركات والحملات التي يدعمها المجتمع المدني، وهو ما يفسر هذا التضييق". ويرى أنه "عندما تُستهدف الجمعيات وتُتهم بالارتزاق والعمالة للخارج فمن الطبيعي أن يصبح الموضوع محل مزايدات سياسية وركوباً على الحدث، وفي هذا السياق يتنزل هذا المقترح".
الشارني: المجتمع المدني مكسب وتاريخ لا يجب المساس به
بدوره يقول منذر الشارني، الكاتب العام لـ"المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب"، وعضو الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات (هيئة وطنية استشارية)، في تصريح لـ"العربي الجديد": "نتمسك بالمرسوم 88 المنظم للجمعيات لاحترامه مبدأ تكوين الجمعيات ومبادئ شفافية تنظيم الجمعيات ومراقبة تمويلها، ونعتبر أن أي مساس بهذا المرسوم سيكون له تأثير سلبي على الجمعيات".
ويضيف أن "المجتمع المدني مكسب وتاريخ لا يجب المساس به، فهو مصدر قوة"، معتبراً أنه "لا يوجد أي داع للتضييق على عمل الجمعيات". وحول استهداف الجمعيات، يشير الشارني إلى أن "الحكومات المتعاقبة كان لديها مقترحات تخص عمل الجمعيات".