مرتزقة "فاغنر"... بيادق الكرملين لتوسيع النفوذ

03 أكتوبر 2021
يسعى عسكر مالي للتعاقد مع 1000 من مرتزقة "فاغنر"(Getty)
+ الخط -

وُضِعت مجموعة مرتزقة "فاغنر" الروسية تحت الأضواء خلال الأيام القليلة الماضية، حيث حذر وزراء دفاع 13 دولة أوروبية، في اجتماع استضافته السويد في 24 سبتمبر/أيلول الماضي، من أن "أي انخراط لمجموعة فاغنر الأمنية الروسية الخاصة في مالي سيكون أمراً غير مقبول". وقال وزير الدفاع السويدي بيتر هولتكفيست، متحدثاً باسم نظرائه الأوروبيين: "إنه تطوّر لسنا مستعدين على الإطلاق لأن نشهده. ستبادر بلدان عدة لإبلاغ حكومة مالي بهذا الأمر".

باريس كانت أكثر وضوحاً في ربط عمل "فاغنر" بالدوائر الرسمية الروسية، حيث قالت وزارة الخارجية الفرنسية، في بيان، إن "وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان حذَّر نظيره الروسي سيرغي لافروف من أي انخراط لمقاتلي مجموعة فاغنر في النزاع الذي تشهده مالي"، فيما كرر مستشار للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الثلاثاء الماضي بحسب ما أوردت وكالة "فرانس برس"، تأكيد موقف باريس بقوله "نريد أن يمتنع الماليون عن اللجوء إلى خدمات مليشيا رأينا في جمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا الفوضى التي يمكن أن تسببها"، وسط تأكيد أن اللجوء إلى المرتزقة "لن يكون متوافقاً" مع استمرار مهمة القوات الدولية المشاركة في مكافحة المسلحين. وجاء ذلك متزامناً مع وصف قصر الإليزيه بـ"غير المقبولة" التصريحات التي أدلى بها رئيس الوزراء في مالي تشوغويل كوكالا مايغا، السبت الماضي في الأمم المتحدة، واعتبر فيها إعلان ماكرون، في يونيو/حزيران الماضي، إعادة تنظيم الوجود العسكري الفرنسي في مالي "نوعاً من التخلي (عنها) في منتصف الطريق".

أضفى لافروف صفة الشرعية على عمل مرتزقة "فاغنر" في مالي

ووصف ماكرون، الخميس الماضي، تصريحات مايغا بالمخزية، واعتبر أنها "تشكّل إهانة لما هي ليست حتّى بحكومة"، كونها منبثقة من "انقلابيين". من جهتها، حذّرت وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي، الأربعاء الماضي، من أنه "إذا دخلت مالي في شراكة مع فاغنر، فستُعزل وستفقد دعم المجتمع الدولي الملتزم جدا تجاهها".

كما حذر وزراء أوروبيون، على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، حكومة مالي، التي يسيطر عليها العسكر، من التعاقد مع عناصر مسلحة من مجموعة "فاغنر". وجاء ذلك بعد نشر تقارير كشفت أن المجلس العسكري الحاكم في مالي على وشك التعاقد مع 1000 عنصر من مرتزقة المجموعة. وتزامن هذا الحراك مع تداول أنباء عن إقلاع طائرات شحن عسكرية روسية، من قاعدة حميميم في اللاذقية باتجاه مطار تدمر العسكري، وعلى متنها نحو 100 عنصر من مرتزقة "فاغنر"، بينهم أفارقة، وعربات نقل مصفحة وعتاد عسكري ثقيل. ولفت مراقبون إلى أن نحو 250 عنصراً من مرتزقة المجموعة موجودون في المطار قبل وصول التعزيزات الجديدة. غير أن هذا التطور ظل محصوراً في التغطيات الإعلامية، دون أي مواقف رسمية إقليمية أو دولية، في استمرار لسياسة الكيل بمكيالين في التعاطي مع المهام التي تنفذها "فاغنر"، رغم اتهام مرتزقتها بارتكاب جرائم حرب في سورية.

قواعد جديدة للعب
الموقف الأوروبي، الذي تقوده فرنسا، أبعد مع مجرد رد فعل على سعي عسكر مالي للتعاقد مع 1000 من مرتزقة "فاغنر". فالتمدد الروسي المتسارع في القارة الأفريقية بات يثير مخاوف دول الاتحاد الأوروبي، والغرب عموماً، ليس فقط لجهة زيادة نفوذ روسيا عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، بل لأن التكتيكات التي تتبعها موسكو لتحقيق أهدافها تنطلق من الانخراط في الصراعات الداخلية للعديد من الدول الأفريقية، تارة تحت مسمى اتفاقيات ثنائية للتعاون العسكري في مجالات التسليح والتدريب، وتارة بتأمين مظلة لتعاقد بعض الحكومات مع شركات أمنية روسية خاصة، "فاغنر" تحديداً. وفي كلتا الحالتين تقوم "فاغنر" بتنفيذ المهمات على الأرض، بعضها بشكل علني، مثل حماية المنشآت الاقتصادية والشخصيات العامة، أو شبه علني مثل التدريب، وبعضها الآخر غير معلن، وهو الأخطر، بالمشاركة في النزاعات الداخلية والحروب الأهلية، مقابل التوقيع على اتفاقيات اقتصادية تحت ستار شركات استثمار وهمية.

وأقر لافروف بوجود مرتزقة "فاغنر" في مالي. وقال، في تصريحات على هامش مشاركته في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، إن "مالي هي من طلبت من شركات روسية خاصة تعزيز الأمن فيها"، نافياً أي علاقة رسمية لموسكو بذلك. لكن لافروف أضفى صفة الشرعية على عمل مرتزقة "فاغنر" في مالي، بالقول: "إنها أنشطة تنفذ على أساس شرعي". موقف يمكن أن ينسحب على وجود "فاغنر" في دول أفريقية أخرى، مثل ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى وتشاد وزيمبابوي ومدغشقر وأنغولا وغينيا وعدد آخر من الدول، حسب تقارير موثقة.

إضفاء لافروف الشرعية على "فاغنر"، رغم حظر القانون الروسي إنشاء شركات أمنية خاصة، يغير قواعد اللعبة في طريقة ونطاق استخدام موسكو للمرتزقة، بحيث يكون اللعب على المكشوف، ومن دون ضوابط. وسبق للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في 20 يونيو 2019، أن كسر التعتيم الرسمي على عمل مرتزقة "فاغنر" في سورية، لكنه حصر عملها في المجال الاقتصادي (حماية المنشآت)، ونفى ارتباطها بالدولة الروسية، أو مشاركتها في الأعمال القتالية إلى جانب القوات الروسية وجيش النظام والمليشيات الإيرانية.

قلب تدخل "فاغنر" في جمهورية أفريقيا الوسطى موازين القوى لصالح الجيش ضد المتمردين، لكن بثمن إنساني باهظ

ناقوس خطر
بيان وزراء دفاع 13 دولة أوروبية يدل على استشعار الاتحاد للعواقب التي ستترتب على تغول روسيا، القائم على استخدام مجموعات المرتزقة، بعد أن استطاع الكرملين توظيفها خدمة لأجندته في أوكرانيا وسورية وليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، دون أي مواقف دولية تذكر. وتدور نقاشات في الأروقة السياسية والعسكرية والتشريعية الروسية منذ سنوات حول إمكانية إضفاء طابع قانوني على عمل الشركات العسكرية الخاصة، التي تتستر تحت لافتاتها مجموعات المرتزقة، ويقدر عددها بنحو 20 مجموعة (شركة)، أشهرها "فاغنر". لكن بدأت تنافسها مجموعات أخرى انجذبت لنموذج "فاغنر"، لاتساع حجم المهمات والرقعة الجغرافية التي تحددها لها موسكو، والمردود المادي المغري. ففي سورية شاركت إلى جانب "فاغنر" مجموعات "شيت" (الدرع) و"فيغا" و"الفيلق السلافي"، فضلاً عن مجموعات مرتزقة محليين.

أفريقيا الوسطى نموذج مرعب
في الحالتين السورية والليبية لم يكن لتدخل مرتزقة "فاغنر" تأثير حاسم على موازين القوى، ما اضطر موسكو للتدخل العسكري مباشرة في الحالة السورية، والوصول إلى تفاهمات مع أنقرة وحكومة الوفاق في الحالة الليبية، بعد فشل قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، المدعومة من "فاغنر"، باقتحام العاصمة طرابلس وتقهقرها بعيداً عنها، بفعل التدخل العسكري التركي دعماً لحكومة الوفاق. مع التنويه إلى أنه في الحالتين استفادت موسكو ونظام بشار الأسد وقوات حفتر تكتيكياً من مشاركة "فاغنر"، على عكس جمهورية أفريقيا الوسطى، حيث قلب تدخل "فاغنر" موازين القوى لصالح الجيش ضد المتمردين، لكن بثمن إنساني باهظ، وبوضع مستقبل البلاد أمام مصير مجهول. وخلال معارك استعادة السيطرة على مناطق المعارضة ارتكب جيش أفريقيا الوسطى ومرتزقة "فاغنر" جرائم قتل مروعة وعمليات إعدام بحق المتمردين والمدنيين العزل على حد سواء، حسب تقارير حقوقية وإعلامية. وتم اتباع أبشع أساليب التعذيب والعقاب الجماعي والخطف والترويع والإخفاء القسري والتجويع، والاعتداءات الجنسية بحق النساء. إلا أن كسب الجيش للحرب بمساعدة "فاغنر"، بالأساليب المذكورة، أدى إلى زيادة التوتر والاحتقان والانقسام داخل المجتمع. ويرجح مراقبون نشوب جولة جديدة من الصراع أشد ضراوة من جولات الحرب الأهلية التي أنهكت البلاد.

روسيا كانت الرابح الأكبر في جمهورية أفريقيا الوسطى بمغانم اقتصادية مجزية، وزيادة وتوسيع نفوذها، عسكرياً وسياسياً، في القارة الأفريقية، على حساب دور فرنسا التقليدي كقوة استعمارية سابقة، وكسب نقطة وازنة في المنافسة مع الولايات المتحدة، التي تعمل منذ سنوات على تعزيز حضورها أفريقياً، ما يشجع موسكو على تكرار سيناريو أفريقيا الوسطى، في وقت تشهد فيه القارة الأفريقية عودة ظاهرة الانقلابات العسكرية، بعد سنوات من الاعتقاد بأن القارة السمراء وضعت هذه الظاهرة خلف ظهرها.

مخاطر تعميم النموذج
ينظر الاتحاد الأوروبي إلى التغلغل الروسي في أفريقيا من منظار ما يحمله من تهديد لأمن أوروبا ومصالحها الحيوية، إذ تتطابق خريطة انتشار النفوذ الروسي مع قوس المناطق المضطربة في أفريقيا، التي تعاني ويلات حروب أهلية وصراعات داخلية وانقسامات مجتمعية وسياسية حادة، بدءا من السودان وليبيا، مروراً بتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى، وصولاً إلى أنغولا وزيمبابوي وموزمبيق ومالي وغينيا ومدغشقر، وكذلك إثيوبيا ونيجيريا اللتين وقعتا مؤخراً على صفقات أسلحة مع روسيا. وهذا سيؤثر على كل القارة الأفريقية، فجوار تلك الدول يتصف أيضاً بعدم الاستقرار، مثل جنوب السودان والنيجر والكاميرون.

لا يمكن أن تقوم "فاغنر" بأي تصرف دون ضوء أخضر وغطاء من أعلى المستويات في موسكو

وتعتمد روسيا على مرتزقة "فاغنر" كرأس حربة لنفوذها في الكثير من تلك الدول، للحيلولة دون تحمل مسؤولية مباشرة، أو التزامات، تجاه ما تقوم به "فاغنر" من أعمال، تؤدي إلى تفاقم الأوضاع وارتفاع منسوب الصراع إلى درجة تهدد بانفجار الأوضاع خارج نطاق السيطرة. ويقوض تدخل "فاغنر" جهود الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في وضع حدّ للصراعات ومعالجة أسبابها، من خلال المساعدة على توفير بيئة آمنة وإعادة بناء النظام السياسي على أسس ديمقراطية وتمثيل عادل، ووضع البلاد على سكة التنمية المستدامة، وإعمار ما دمرته الحروب الأهلية والصراعات.

وإذ تتخوف دول الاتحاد الأوروبي من أن يؤدي تفاقم الصراعات والأزمات، في القارة الأفريقية، إلى موجات كبيرة من الهجرة غير الشرعية باتجاه أوروبا، تبقى خشيتها الكبرى من تحوّل القارة الأفريقية إلى بؤرة لصراعات أهلية تستخدم فيها على نطاق واسع أدوات غير تابعة للدولة، على غرار مرتزقة "فاغنر"، ما سيهدد في العمق أمن ومصالح أوروبا، والسلم العالمي، الذي يفترض أن تكون روسيا أحد أركانه، لكنها تتصرف كـ"دولة مارقة"، بدليل الجرائم التي ارتكبتها مجموعة "فاغنر" في سورية وليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، وقبلها في منطقة دونباس شرق أوكرانيا. ونظراً لطبيعة النظام السياسي الروسي، فالأرجح أن نشاط هذه المجموعة يندرج في إطار خدمة أجندة النزعة القيصرية للرئيس فلاديمير بوتين عبر "طباخه" يفغيني بريغوجين، إذ لا يمكن أن تقوم "فاغنر" وممولها بأي تصرف دون ضوء أخضر وغطاء من أعلى المستويات في موسكو. وربما يؤسس الموقف الأوروبي من نشر مرتزقة "فاغنر" في مالي بداية صحوة تستشعر مخاطر هذا النهج الروسي، في حال تم تطوير تلك المواقف، وربطها بإجراءات عملية لكبح جماح موسكو. مع الأخذ بعين الاعتبار، أن استخدام روسيا للمرتزقة كرأس حربة لا يؤرق الأوروبيين فقط، بل يؤرق أيضاً الصين التي لها شبكة مصالح اقتصادية وسياسية كبيرة وواسعة في القارة الأفريقية.

المساهمون