مرّة جديدة يتوقف التحقيق في انفجار مرفأ بيروت على أيدي مسؤولين سياسيين يستخدمون جميع الأسلحة "المرخَّصة" قانوناً، وغير الشرعية، لطمس الحقيقة وعرقلة المحاسبة وإقفال القضية، بدايةً مع القاضي فادي صوان، واليوم مع خلفه القاضي طارق البيطار، الذي يتعرّض لأعنف هجوم سياسي مرفق بضغوط واتهاماتٍ وحملات تشويه وتهديداتٍ خرجت بعضها من "المنابر القضائية والدينية" لـ"تطييره".
وتبلّغ المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، الإثنين، دعوى الردّ التي تقدّم بها وزير الداخلية السابق النائب نهاد المشنوق أمام محكمة الاستئناف المدنية في بيروت ليتوقف التحقيق "مرحلياً" ومعه جلسات الاستجواب لحين البتّ في الطلب.
واعتبرت مسؤولة حملات لبنان في منظمة العفو الدولية، ديالا حيدر، في حديثها مع "العربي الجديد" أن ما حصل اليوم "محاولة جديدة من السلطات التي أمضت العام الماضي كله منذ الانفجار في عرقلة مسار العدالة عند كل منعطف، وحماية المسؤولين من الخضوع للتحقيق باسم الحصانات، واتهام قاضي التحقيق بالتسييس، وصولاً إلى الاعتداء على أهالي الضحايا في أكثر من مناسبة".
وشددت على أن "طلب رد البيطار يظهر مدى ازدراء المسؤولين للعدالة واستعدادهم لاتخاذ أي إجراء لحماية أنفسهم من التحقيق وهو صفعة جديدة لحقوق الضحايا وعائلاتهم بالوصول للحقيقة والمحاسبة".
وتقول حيدر "مرة جديدة تحيلنا وقاحة السلطة إلى مطالبة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بإرسال بعثة تحقيق دولية على وجه السرعة، لتحديد ما إذا كان تصرف الدولة تسبّب أو ساهم بانتهاك الحق في الحياة، والخطوات المطلوب اتخاذها لضمان تقديم سبل انتصاف فعال للضحايا".
وتواظب السلطات اللبنانية منذ وقوع الانفجار في الرابع من أغسطس/آب 2020 على حماية المسؤولين من الخضوع للتحقيق، تارةً بعدم إعطاء الإذن لملاحقة كبار الأمنيين والعسكريين التابعين للأحزاب التقليدية، وأحياناً أخرى برفض رفع الحصانات عن النواب المدّعى عليهم، وممارسة شتى أنواع المناورات الاحتيالية، عدا عن طلبات كف يد المحققين العدليين والتهديدات التي كان أبرزها ما وصل إلى القاضي البيطار من مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في "حزب الله" وفيق صفا.
وفي جولة سريعة على الخطوات التي لجأت إليها المنظومة السياسية في لبنان لعرقلة التحقيقات ومسار العدالة، يستعرض أحد وكلاء أهالي الضحايا المحامي جيلبير أبو عبود، أبرز المراحل بدءاً بكفّ يد المحقق العدلي، القاضي فادي صوان، في 18 فبراير/شباط الماضي مع قبول محكمة التمييز الجزائية نقل الدعوى منه إلى قاضٍ آخر، للارتياب المشروع، وذلك بنتيجة الدعوى التي تقدّم بها المدعى عليهما، وزير المال السابق والنائب علي حسن خليل، ووزير الأشغال العامة السابق غازي زعيتر (ينتميان إلى حركة أمل برئاسة نبيه بري) في ديسمبر/كانون الأول 2020.
ويقول أبو عبود: "بمجرد أن بدأت إجراءات القاضي صوان تطاول الرؤوس الكبيرة مع ادعائه على رئيس الحكومة السابق، حسان دياب، والوزراء الثلاثة زعيتر وعلي حسن خليل ويوسف فنيانوس، بتهمة الإهمال والتقصير والتسبب بوفاة وجرح مئات الأشخاص؛ بدأت المواجهة ورسائل التهديد، منها على لسان أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، في أكثر من كلمة متلفزة، ووجد المدّعى عليهما قطبة مخفية شكلية أشبه بهرطقة لإطاحة المحقق العدلي، مبنية على أنه متضرّر من منزله، وبالتالي هناك ريبة في عدالته، وأخرى ربطاً بعدم احترامه مسألة الحصانات".
ويضيف: "في 19 فبراير/شباط عيّن القاضي طارق البيطار محققاً عدلياً، واستغرقت دراسة الملف أشهراً، إلى أن استكمل في يوليو/تموز الماضي خطوة سلفه صوان على صعيد المدعى عليهم المذكورين، وزاد عليهم شخصيات سياسية وأمنية كبرى، من ضمنها وزير الداخلية السابق والنائب نهاد المشنوق، والمدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم (محسوب على حركة أمل وحزب الله)، والمدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا (محسوب على رئيس الجمهورية ميشال عون)، وآخرين، لتنطلق معركة القوى السياسية بوجه القاضي البيطار".
ومن المناورات الاحتيالية التي لجأت إليها السلطة التمنع عن رفع الحصانات النيابية، وطلب الهيئة المشتركة في مجلس النواب بشكل غير قانوني، ويتعارض مع سرية التحقيقات، تزويدها بمستندات إضافية، وخلاصة عن الأدلة من المحقق العدلي، تتعلق بالنواب المطلوب رفع الحصانة عنهم، وهو ما رفضه البيطار، وتوقيع عددٍ من النواب، وخصوصاً من "حركة أمل" و"حزب الله" و"تيار المستقبل" (برئاسة سعد الحريري)، طلب اتهام لملاحقة دياب والوزراء السابقين خليل، زعيتر والمشنوق ويوسف فنيانوس أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء شبه المعطل منذ التسعينيات، ثم اقتراح كتلة المستقبل النيابية تعليق كل المواد القانونية التي توفر الحصانات لرئيس الجمهورية ورؤساء الحكومات والنواب والوزراء وحتى المحامين.
ويشير أبو عبود إلى رفض المراجع المعنية المختصة منح الإذن بملاحقة اللواء عباس إبراهيم واللواء طوني صليبا، والتمرّد على قرارات المحقق العدلي ومقاطعة جلسات الاستجواب، بذرائع كثيرة، منها إضراب المحامين، علماً أنه استثنى ملف انفجار مرفأ بيروت، واعتبار المحقق العدلي ليس بالمرجع الصالح لمحاكمة الرؤساء والوزراء والتهرّب من التبليغ، وصولاً إلى هرب دياب ومغادرته إلى الولايات المتحدة الأميركية، بحجة رؤية أولاده قبيل جلسة استجوابه وبعد صدور مذكرة إحضار بحقه.
ويضيف المحامي: "كذلك تقدم فنيانوس الذي صدرت بحقه مذكرة توقيف غيابية بطلب نقل الدعوى للارتياب المشروع أمام محكمة التمييز الجزائية، ثم تقدم المشنوق بطلب ردّ أمام محكمة الاستئناف المدنية في بيروت، والذي تبلّغه المحقق العدلي الإثنين ليتوقف بذلك التحقيق مرحلياً ومعه جلسات الاستجواب لحين البتّ في الطلب.
من ناحية ثانية، تحدّث الوكيل القانوني عن العرقلة النابعة من حملات سياسية وإعلامية لتشويه سمعة القاضي البيطار، واتهامه بالانحياز والتبعية السياسية والاستنسابية، عدا عن الرسائل المتتالية من جانب أمين عام "حزب الله" حسن نصر الله في الكثير من إطلالاته، والتهديدات المبطنة، وصولاً أخيراً إلى الزيارة التي قام بها وفيق صفا إلى قصر العدل، حيث التقى شخصيات قضائية، وبعث برسالة تهديد من قبل إحدى الإعلاميات للمحقق العدلي، وهو ما أكده البيطار في مراسلة مدعي عام التمييز.
ويشدد أبو عبود على أن المنظومة السياسية وقائدها "حزب الله"، عاقدون العزم على إطاحة القاضي البيطار مهما كلَّف الأمر، وقد بلغ الأمر بالمشنوق أن اتخذ من دار الفتوى منبراً لإيصال الرسائل والتهديدات، والتلطي خلف العباءة الطائفية، بينما الموضوع قضائي بحت وليس طائفياً، ومرتبط بجريمة العصر التي راح ضحيتها أكثر من 217 شخصاً وآلاف الجرحى والمشردين وعاصمة دُمّرت بسببه.
ويتابع: "رهاننا اليوم على محكمة الاستئناف التي تنظر بطلب المشنوق، ونأمل أن تبت بأسرع وقتٍ بالطلب لإسقاط محاولات المنظومة بالتكافل والتضامن لتطيير الملف، إلى حين استعادة النواب حصانتهم المعلقة منذ نيل حكومة نجيب ميقاتي ثقة البرلمان، وحتى بدء دورة العقد الثاني لمجلس النواب، وهي بحسب الدستور أول ثلاثاء بعد 15 أكتوبر/تشرين الأول أي 19 أكتوبر المقبل.
ويتحضر أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت لسلسلة تحركات شعبية رفضاً لمحاولة إطاحة القاضي البيطار، وبحسب معلومات "العربي الجديد" فإنّ التصعيد سيكون إلى أقصى الحدود، ومفتوحاً على كل الاحتمالات، وصولاً إلى سلك الطرق الدولية في حال بقي القضاء اللبناني خاضعاً للضغوط السياسية.
وتقول الصحافية إلسي مفرج، المتابعة لملف التحقيقات، إن مسار العدالة في لبنان لم يكتمل في أي حقبة وزمن، وهو خالٍ من أي محاسبة أو مساءلة، بل كان مبنياً على العفو العام والمصالحات والتسويات، وانتقل المسؤولون من جرائم الحرب إلى الجرائم المالية وتفجير اللبنانيين في الرابع من أغسطس/آب، وهم يستمرون في تقاذف المسؤوليات والتلطي خلف العباءات الحزبية والطائفية.
وتشير مفرج لـ"العربي الجديد" إلى أن هذه المنظومة قادرة على قتل الناس بمئة سلاح وطريقة، سواء الحرب أو العنف والقمع والتجويع والذل والتهجير والفتنة، وتعمل على تقسيط الضربات على مراحل؛ لإرهاق المنتفضين، وهو ما يقومون به اليوم على صعيد التحقيق، موجهين الضربات الواحدة تلوَ الأخرى لإتعاب المعارضين وأهالي الضحايا، واستنفاد أنفاسهم، ولكن الأهالي لن يستسلموا ويرفضون الظلم، وسيعملون مع القوى الحية والمجتمع المعارض على مواجهة المنظومة السياسية من خلال سلسلة تحركات وخطوات تصعيدية.