لم تكن الأزمة التي واجهها وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف أخيراً، بعد تسريب تسجيل له في 25 إبريل/ نيسان الماضي، الأولى التي يتعرض لها منذ توليه منصبه عام 2013، لكنها تبقى الأبرز، مع الانتقادات الكبيرة التي طاولته ووصلت إلى المرشد الأعلى علي خامنئي. ويطرح هذا التطور تساؤلات حول المستقبل السياسي لظريف، الذي كان يتصدر قائمة مرشحي "التيار الإصلاحي" المحتملين للانتخابات الرئاسية، المقررة في 18 يونيو/ حزيران المقبل، قبل أن يوجّه له التسريب ضربة قاسية قد تقضي على مستقبله السياسي.
وكان ظريف في جولة إقليمية عندما انفجرت قنبلة التسجيل المسرب له، والتي تجاوزت حدود إيران، لتلاحقه التداعيات في جولته من دولة إلى أخرى، وتستمر حتى اليوم. وبعد نحو أسبوع من التسريب عاد ظريف إلى بلاده، بينما كان دوي هذا الانفجار السياسي يتصاعد أكثر فأكثر، ليضعه في وضع لا يحسد عليه، حتى تخلى عنه رئيسه حسن روحاني وتركه وحيداً في مواجهة هجمات المحافظين.
تخلى روحاني عن ظريف وتركه وحيداً في مواجهة هجمات المحافظين
"التسجيل المسرب" يعود إلى مقابلة سرية أجراها ظريف، في مارس/ آذار الماضي، لأرشفة "التاريخ الشفهي" لرئاسة روحاني خلال السنوات الثماني الأخيرة، كشف فيه الوزير عما هو محظور البوح به، فتحدث عن جدلية العلاقة بين "الميدان" و"الدبلوماسية" في السياسة الخارجية الإيرانية، وتحكّم الأول بالثانية، ودور قائد "فيلق القدس" السابق الجنرال الإيراني قاسم سليماني، الذي اغتالته واشنطن في ضربة جوية، مطلع العام الماضي، في بغداد، فضلاً عن قضايا مهمة أخرى، منها دور روسيا "التخريبي" في المفاوضات النووية المنتهية إلى الاتفاق النووي عام 2015 ومساعيها لإفشال الاتفاق لاحقاً.
الأزمة التي أشعلتها التسريبات ليست الوحيدة التي واجهها الدبلوماسي الإيراني "الضاحك" منذ تولي المنصب عام 2013 حتى اليوم، إذ تعرّض لأزمات مماثلة كثيرة خلال وجوده في السلطة، لكن أبرزها تبقى الأخيرة. فلم يشفع له اعتذاره المبطن والصريح عدة مرات عبر منشوراته، ليواجه انتقادات حادة، أهمها جاء الأحد الماضي، عندما أكد خامنئي أن ما جاء على لسان ظريف "تكرار للتصريحات العدائية للأعداء"، مخاطباً إياه، من دون ذكر اسمه، بالقول "لا يصح الحديث بطريقة كأننا نرفض سياسات البلاد".
ظريف على عكس كثير من الساسة الإيرانيين، غير مسنود بخلفية أمنية، بل جاء من خلفية أكاديمية وسياسية بحتة، فضلاً عن أن قضائه معظم أيام شبابه، وتلقيه تعليمه الثانوي والجامعي وعمله الدبلوماسي في الغرب، صنع منه دبلوماسياً منفتحاً، غير آبه بـ"الخطوط الحمر" كثيراً. وهذا ما يفسر، بحسب البعض، سرّ هفواته المتكررة في البيئة السياسية الإيرانية التي لها مقتضياتها وتعقيداتها الخاصة.
شغل ظريف مناصب دبلوماسية عديدة، ليصبح أفضل مرشح لتولي منصب وزير الخارجية عام 2013، في لحظة تاريخية حساسة، قررت فيها إيران، بعد فوز الرئيس "المعتدل" حسن روحاني، خوض غمار الدبلوماسية، لحل أعقد ملفات الخلاف مع الغرب، وبالذات الولايات المتحدة الأميركية. ومع تولي ظريف منصبه، راج الحديث في أوساط محافظة عن سيطرة "مجموعة نيويورك" على الخارجية الإيرانية، وتهميش "الدبلوماسيين الثوريين".
"مجموعة نيويورك"، تسمية أطلقها محافظون على عدد من الدبلوماسيين الإيرانيين، من ضمنهم ظريف، الذين عملوا في البعثة الإيرانية في الأمم المتحدة في نيويورك، مع اتهامهم بالتأثر بالثقافة الغربية والسعي إلى إعادة إيران إلى حضن الغرب عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً. وتقول هذه الأوساط المحافظة إن المجموعة تشكلت منذ إقرار القرار 598 لمجلس الأمن لإنهاء الحرب الإيرانية العراقية، والذي أدلى مؤسس الثورة الإسلامية الإيرانية، آية الله الخميني، بعد موافقته عليه، بجملته الشهيرة "تجرعت كأس السم". وتتهم تلك الأوساط "مجموعة نيويورك" بالتسبب في تشكيل إجماع عالمي ضد إيران خلال المفاوضات المنتهية إلى القرار، معتبرة أنه جاء بهدف منع طهران من تحقيق "الانتصار النهائي" في الحرب.
الأزمة التي أشعلتها التسريبات ليست الوحيدة التي واجهها ظريف منذ توليه المنصب عام 2013
ارتبط اسم ظريف بالملف النووي والمفاوضات بين إيران والمجموعة السداسية الدولية، والتي أفضت إلى الاتفاق النووي عام 2015. فالاتفاق جلب له شهرة وشعبية في إيران، تفوق شعبية روحاني، المعروف بـ"الشيخ الدبلوماسي"، ليحوز على لقب "بطل الدبلوماسية الإيرانية". لكن هذا لم يشكّل كل الصورة عن ظريف، بل كان الجانب الطاغي منها حينها، والجانب الآخر هو غضب تجاهه بدأ يتراكم في الوسط المحافظ، خصوصاً من قبل المتشددين من التيار، الذين لم يرق لهم الاتفاق النووي، فعارضوه بشدة واعتبروه "خيانة". وقف المحافظون بالمرصاد أثناء المفاوضات لكل تحركات ظريف. فعلى سبيل المثال، دقائق معدودة قضاها ظريف مع نظيره الأميركي آنذاك جون كيري في شوارع جنيف مشياً على الأقدام، كانت كافية لتعريضه لهجمات قاسية. فندد خطباء جمعة بمشي ظريف مع "العدو"، مع مطالبة قائد قوات "الباسيج" في الحرس الثوري الإيراني محمد رضا نقدي، آنذاك، إياه بالاعتذار عن هذا "الخطأ الفاحش".
ظريف لم يكن محظوظاً، إذ لم يدم إنجازه الدبلوماسي الكبير المتمثل في الاتفاق النووي كثيراً، عندما أطاح دونالد ترامب بالاتفاق عام 2018 عبر الانسحاب منه. فعادت عقارب الساعة إلى الوراء سريعاً، وفُرضت مرة أخرى العقوبات على إيران بشكل أقسى وأشمل مما كان عليه قبل التوصل للاتفاق النووي. حينئذ وجد محافظون متشددون ضالتهم، ليصبوا جام غضبهم على ظريف وروحاني، متجاهلين أن ترامب هو الذي انسحب من الاتفاق، مع توجيه أقسى الاتهامات لهما وتحميلهما مسؤولية الأزمة الاقتصادية وكل مشاكل البلاد.
أصبح ظريف والتيار الإصلاحي المتضررين الرئيسيين من الأزمة
بعدها، علت أصوات "الميدان" في السياسة الخارجية الإيرانية، وخبت الأصوات الدبلوماسية. حُشر ظريف ودبلوماسيته في زاوية، وأصبح لـ"الميدان" بقيادة سليماني، الكلمة الأولى في السياسة الخارجية الإيرانية في المنطقة. وأدى هذا الوضع إلى تقديم ظريف استقالته عدة مرات خلال السنوات الماضية، كانت أشهرها استقالته احتجاجاً على إبعاده عن زيارة رئيس النظام السوري بشار الأسد عام 2019، واستقباله، والتي كانت الأولى له إلى طهران منذ نشوء الأزمة السورية عام 2011. الاستقالة لم تكشف فقط عن فجوة بين الدبلوماسية والميدان في إيران، اللذين أكد المرشد الإيراني، الأحد الماضي، أنهما جناحا الجمهورية الإسلامية، وإنما عن خلافات بين ظريف والرئاسة الإيرانية أيضاً. فتهميش ظريف عن زيارة الأسد كان سببه الأساسي، حسب تقارير إعلامية، رئيس مكتب روحاني محمود واعظي، المنتمي إلى التيار الاعتدالي، والمسيطر على الرئاسة الإيرانية والحكومة، بحسب أوساط إصلاحية.
لم تتوقف الخلافات بين ظريف والرئاسة عند هذا الحد، فاتسعت شيئاً فشيئاً إلى أن راجت أنباء عن مقاطعته اجتماعات الحكومة خلال سبتمبر/ أيلول 2020 لنحو شهر. نفت الرئاسة صحة المقاطعة، عازية إياها إلى انشغالاته، لكن وسائل إعلام إيرانية رجحت أن السبب هو اتساع رقعة الخلافات. كما تقدّم ظريف باستقالته مرة أخرى سرّاً، احتجاجاً على إضعاف موقع الخارجية الإيرانية في مسلسل "غاندو"، الذي بث التلفزيون الإيراني حتى الآن فصلين منه. المسلسل الذي تقف وراء إنتاجه جهات متنفذة، يتناول قضية التجسس في إيران مع التركيز على الحكومة والخارجية، مصوّراً المفاوضين الإيرانيين على أنهم "منفعلين أو جواسيس". اشتكى ظريف للمرشد الإيراني بسبب هذا المسلسل خلال أكتوبر/ تشرين الأول 2019، لكن ذلك لم يمنع المنتجين من إنتاج الفصل الثاني من المسلسل وبثه، مطلع العام الحالي. لم تتوقف الضغوط على ظريف عند تلك الحدود، فتجاوزتها إلى توجيه اتهامات قضائية لبعض أعضاء فريقه المفاوض، واعتقال ومحاكمة المفاوض عبد الرسول دري أصفهاني، وصدور حكم عليه بالسجن لخمس سنوات عام 2017 بتهمة "التجسس".
اليوم وبينما لم يتبقَّ من فترة ظريف في الخارجية الإيرانية إلا نحو 3 أشهر، تلاحقه تبعات "التسجيل المسرب". وليس واضحاً بعد الجهة المسربة له، إن كانت من المختلفين معه في الرئاسة، أو المحافظين الواقفين له بالمرصاد، أو جهات أخرى. على الأغلب لن تتوقف تداعيات التسريب حتى بعد مغادرته السلطة، فضلاً عن أنه ليس مستبعداً أن تطيح بحياته السياسية وتدفعه إلى الاعتزال. وتأتي الأزمة الأخيرة بعدما أصبح ظريف يتصدر قائمة مرشحي التيار الإصلاحي المحتملين للانتخابات الرئاسية الإيرانية المزمع أن تجرى في 18 يونيو المقبل. فعلى الرغم من إصراره على رفض الترشح، لكن الإصلاحيين كانوا يرون فيه أفضل مرشح يمكنه منازلة المحافظين، وزادوا أخيراً من ضغوطهم عليه للقبول بالترشح، قبل أن تنفجر قنبلة "التسجيل المسرب"، التي من شأنها أن تدفعهم إلى إعادة النظر في ترشيحه، لرجحان احتمال رفض أهليته من قبل مجلس صيانة الدستور.
ظريف الواقع، حسب مراقبين، في فخ محكم أخيراً في توقيت حساس للغاية، أصبح هو والتيار الإصلاحي المتضررين الرئيسيين من الأزمة. أما "الاعتداليون" والمحافظون فهم الرابحون. وهو اليوم يواجه تداعيات الأزمة من دون دعم حكومي. فروحاني الذي كان يتوقع أن يدافع عن وزيره، تخلى عنه بطريقة أو أخرى، قائلاً إنه لا يوافق على كل ما جاء على لسان ظريف، على الرغم من أنه قد باح، خلال السنوات الماضية، بما تفوه به الوزير في التسجيل بشكل أو آخر. يبقى السؤال الأبرز اليوم، هو بشأن المصير السياسي للدبلوماسي الإيراني الضاحك، وعما إذا كان سيلقى مصير ساسة سابقين، أمثال محمد خاتمي وهاشمي رفسنجاني ومير حسين موسوي، بعدما طاولهم الغضب وهمشتهم ظروف معينة إلى زاوية السياسة الرسمية.