فلم يحرص بن سلمان فقط على التأكيد على طابع المصالح المشتركة التي تربط السعودية بإسرائيل، وهو ما يمثل أول إقرار سعودي بذلك وعلى أعلى مستوى، بل إنه ذهب بعيدا في تبنيه لبعض صيغ حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، التي تتقاطع مع منطلقات اليمين المتطرف في تل أبيب.
وقد أضفى ما تضمنته المقابلة على لسان بن سلمان صدقية على التسريبات التي أكدت أن الرياض مارست ضغوطا على قيادة السلطة الفلسطينية لقبول فكرة التنازل عن القدس كعاصمة للدولة الفلسطينية، والقبول بأبو ديس كبديل لها. لكن أكثر ما عكس الشوط الطويل الذي قطعه بن سلمان في محاولاته مغازلة إسرائيل تمثل في ادعائه أن حركة "حماس" تمثل تهديدا للأمن القومي السعودي.
فعند تفكيك ما ورد على لسان بن سلمان في المقابلة، يتبين بوضوح أنه نسف من الأساس ما جاء في المبادرة العربية للسلام التي تبنتها القمة العربية في بيروت عام 2002، إذ حين يبدي بن سلمان موافقته على حق اليهود كيهود في دولة، فإن هذا يمثل تبنيا لموقف حكومة اليمين المتطرف في تل أبيب، التي تطالب باعتراف الفلسطينيين والعرب بيهودية إسرائيل.
ويعني اعتراف الفلسطينيين والعرب بيهودية إسرائيل الموافقة مسبقا على كل المواقف التي تتبناها حكومة تل أبيب والإجراءات التي تقدم عليها لضمان الطابع اليهودي لـ"الدولة"، وضمن ذلك رفض حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، وإضفاء شرعية على التمييز على أسس عرقية ودينية ضد فلسطينيي الداخل وغيرها.
وقدم بن سلمان إشارة غير مباشرة لموافقة السعودية على الأفكار الأميركية، التي أطلق عليها "صفقة القرن"، والتي تنص على وجوب تنازل الفلسطينيين عن القدس كعاصمة لدولتهم، عندما أشار إلى مصير المسجد الأقصى فقط، دون أن يشير إلى مصير القدس ومكانتها السياسية في أية تسوية للصراع.
وكانت المقابلة فرصة أمامه للرد على التسريبات التي أكدت أنه شخصيا مارس ضغوطا على عباس للقبول بأبو ديس عاصمة. من ناحية ثانية، فإن الإشارة إلى مصير المسجد الأقصى يعيد للأذهان ما أشارت إليه وسائل الإعلام الإسرائيلية مؤخرا من أن السعودية معنية بالحلول مكان الأردن كالطرف المسؤول عن الإشراف على الأماكن المقدسة في القدس.
وقبل الحكم على ما جاء في مقابلة بن سلمان، فإنه يتوجب إدراك طابع السياق الذي جاءت فيه هذه الصريحات. فولي العهد السعودي منشغل حاليا في ذروة تحرك لمراكمة الشرعية لتوليه الحكم داخل الولايات المتحدة، إذ إنه يرى أن الطريق الأنسب لتحقيق هذا الهدف هو ضمان تأييد أصدقاء إسرائيل من أصحاب النفوذ داخل الولايات المتحدة، من خلال مغازلة تل أبيب وتبني المواقف التي تتقاطع مع حكومة اليمين فيها.
غير أن بن سلمان في حرصه على استرضاء الإسرائيليين تجاوز الكثير من الحقائق، إذ إنه يعي أن حركة "حماس" لم تقدم على أي عمل أو سلوك يمكن تفسيره على أنه تهديد للأمن القومي السعودي؛ في حين أن إسرائيل، وباعتراف وسائل إعلامها، عملت وتعمل بشكل حثيث على المس بالمصالح الاستراتيجية للسعودية.
وفي السياق، كشفت قناة التلفزة الإسرائيلية العاشرة مؤخرا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، خصص مساحة كبيرة من لقائه الأخير مع الرئيس دونالد ترامب في البيت الأبيض لحثه على عدم تزويد الرياض بمفاعلات نووية. كما تواترت تأكيدات وسائل الإعلام الإسرائيلية التي أكدت أن تل أبيب تمارس ضغوطا كبيرة على واشنطن لعدم السماح بتزويد الرياض بطائرات "إف 35".
المفارقة أن الإسرائيليين يسوغون هذه المطالب بحجة أن فرص نظام الحكم الحالي في الرياض في الصمود محدودة، وبالتالي فإن سقوطه يعني أن يقع السلاح النوعي الذي تزوده واشنطن للسعودية في أيدي أطراف معادية.
ليس هذا فحسب، بل إن محافل التقدير الاستراتيجي الرائدة في تل أبيب، وتحديدا "مركز أبحاث الأمن القومي"، عكفت مؤخرا على إصدار عدة دراسات تحذر فيها الولايات المتحدة من مغبة الرهان على بناء مصالح طويلة الأمد مع بن سلمان، على اعتبار أن فرص تفكك السعودية تحت حكمه كبيرة؛ وبالتالي فإنه يجدر توخي الحذر في استثمار بعيد المدى فيها.
وأكثر من ذلك، أعد رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الأسبق، عاموس يادلين، الذي يرأس "مركز أبحاث الأمن القومي"، والباحث يوئيل جوزنسكي، مدير أبحاث الخليج في المركز، دراسة مؤخرا تدعو إسرائيل للاستعداد لمواجهة السعودية والتمهيد لذلك بتكثيف جمع المعلومات الاستخبارية عنها.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الحرص على مراكمة الشرعية سيدفع بن سلمان لمواصلة نهج مغازلة إسرائيل، الذي تمثل في السماح مؤخرا، ولأول مرة، لطائرات الخطوط الجوية الهندية المتجهة لإسرائيل بالتحليق في الأجواء السعودية، إلى جانب إشهار عدد من مظاهر التطبيع، مثل اللقاءات بين عدد من كبار المسؤولين السابقين مع قيادات إسرائيل.