ذهبت مقولة المستشار الألماني أوتو فون بسمارك: "سنَحكُمُكم بالحديد والنار"، بالقرن التاسع عشر، مثلاً سائراً لكل سلطة تجعل من القوة أداتها الرئيسية في تسيير المجتمع. لكن القوة ليست بالضرورة هي الحديد والنار، وها أن المشوار الطويل للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل يشير إلى ذلك، فقد انعكست ملامح من شخصيتها الهادئة والصارمة على سياساتها، لكأنها تقول منذ بداية فترة حكمها "سنحكمُكم بالترّيث والمثابرة".
منذ الانتخابات، التي نظمت في 27 أيلول/ سبتمبر الماضي، كانت تنتظر بهدوء تسليم مكتبها لربّان جديد يقود ألمانيا، وها هو أولاف شولتز يستلم منها المسؤولية التي تحمّلتها ستة عشر عاماً من مكتبها، لعلّها كانت تسترجع العديد من المحطات والأزمات التي تقاطعت مع سنوات حكمها، وعرفت - في معظمها - كيف تخرج بأقل الخسائر.
في التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر عام 2012، وهي تقطع المسافة بين "مطار إليفثيريوس فينيزيلوس" في أثينا والمقر الذي ستلتقي فيه بالمسؤولين اليونانيين، شاهدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل حجم غضب الجماهير على سياساتها المتصلبة تجاه ملف الديون اليونانية.
ورأت صورتها في كاركاتيرات حادة اللهجة: مرة مقترنة بشعار النازية وشاربي هتلر، ومرة أخرى جرى تركيب رأسها على جسد جلّاد، وفي مرات أخرى قرأت شعارات - بعضها مكتوب بلغتها الألمانية - حول فقدان المستشارة للبُعد الإنساني وغياب الرحمة من اعتبارات "الماكينات الألمانية". صورٌ بعيدة كل البعد عن أيقونة "موتي" (الأم) التي منحها إياها الألمان وهم يجدّدون فيها ثقتهم مع كل رهان انتخابي تدخله، وما أبعد تلك الصور عن ذلك الوجه الباسم والحنون الذي استقبلت به ميركل موجات اللاجئين في 2015.
بعد أيام من زيارتها تلك إلى أثينا، اتجهت المستشارة إلى البرلمان الأوروبي في بروكسل، وفيما اعتقد بعض الصحافيين أنهم سيُحرجونها بأسئلتهم عن ذلك الاستقبال الشعبي العدائي في اليونان، أجابت مبتسمة "كنتُ سعيدة لهؤلاء، لقد كان لهم كامل الحرية كي يقوموا بذلك"، لم تظهر نبرة ساخرة في كلماتها، كانت تتحدّث بكل صدق. وفي ألمانيا، سرعان ما فتح ذلك التصريح ملفات قديمة من تاريخ البلاد قبل التوحيد، وفتح ثقباً حاول كثيرون أن يطلوا من خلاله على جزء قديم من سيرة ميركل التي كانت تعيش في برلين قبل 1989 لكن في "الجانب الخطأ" من الجدار، كما تقول عبارة شائعة، هناك حيث تغيب الحريات العامة وآفاق التطوّر الشخصي والجماعي.
كانت وقتها باحثة فيزيائية تعمل في أحد مخابر الشرق ألماني، وكانت غير راضية على الطريقة التي تدار بها الحياة العامة، من تضييق على الناس في قناعاتهم وممارساتهم، طبعاً، وترافق عدم الرضا مع نزعة من التكتّم وإلا كانت اليد الطويلة للبوليس ستعصف بحياتها مبكّراًَ.
في ألمانيا الشرقية نفسها آنذاك، كان يعمل ضابط المخابرات الروسي فلاديمير بوتين، وكان بعيداً عن السياسة بقدر بُعد ميركل عنها، وكان سقوط جدار برلين (1989) سبباً في دخول كليهما إلى هذا العالم؛ هو بمغادرته ألمانيا الشرقية نحو بلاده، وهي بدخولها كواليس السياسة في الجانب الغربي من بلادها، وبعد قرابة عشر سنوات كان هو قد أخذ مقاليد الحكم من الرئيس الروسي الهرم بوريس يلتسين، فيما كانت هي قد تسلّمت قيادة أكبر حزب في ألمانيا مُقصيَة زعيمه وراعي خطواتها الأولى في عالم السياسة هلموت كول.
وفي 2005، حين صعدت ميركل إلى الحكم، فقد بدت زيارتها الأولى إلى روسيا مثل مقابلة بين شخصين أعادا الالتقاء مجدّداً في ظروف مختلفة، وخلال الأعوام اللاحقة اتضح أن الصراع الخفيّ بين الضابط الروسي والباحثة الألمانية استمر بوسائل أخرى، وفي معارك جديدة، مثل الغاز والملف الأوكراني وقضايا الشرق الأوسط.
بفضل استمراريتهما في سدّة الحكم، كان بوتين وميركل خلال عقدين مثل ممثلين قارين فوق مسرح العلاقات الدولية؛ مع اختلاف طرق الوصول إلى ذلك، هو من خلال التضييق والتزييف، وهي من خلال مقولات بسيطة كسبت بها كل الرهانات الديمقراطية: "نستطيع فعل ذلك"، "نبغي أن نواجه هذه الأزمة كما نجحنا سابقاً"، وحين كانت تجدّد ترشّحها كانت تقول للألمان "أنتم تعرفونني"، وكأنها تقول لا داعي لحملة انتخابية مليئة بالشعارات والوعود، تذكّروا فقط نتائج السنوات الماضية.
خلال هذه الفترة الزمنية التي حكمت فيها ميركل، جرت مياه كثيرة تحت جسور الخرائط الجيوسياسية، انقلب حال المنطقة العربية، وتقدّمت الصين خطوات على رقعة الشطرنج الدولية وأخذت تروّج لمشروع طريق الحرير من بكين إلى برلين، وتغيّرت تحالفات كثيرة مع صعود قوى اقتصادية جديدة مثل البرازيل والهند، وفي الأثناء صعد الكثير من القادة للحكم ثم اختفوا وهي في مكانها، مثلاً وصل إلى الحكم خلال فترة ولايتها أربعة رؤساء في الولايات المتحدة الأميركية: بوش الابن، أوباما، ترامب، وبدايات عصر بايدن، والأمر ذاته في فرنسا مع شيراك وساركوزي وهولاند وماكرون.
في صراعها (وتحالفاتها) مع هؤلاء الرجال، خلال ستة عشر عاماً، بدت ميركل وقد نضجت بهدوء، وهو ما يظهر جلياً في نجاحها في ضمان إيقاف التمدّد الروسي، كما يظهر جلياً في انتقال علاقتها مع الرؤساء الأميركيين من حالة من السلبية التنفيذية بدت في سياساتها زمن بوش الابن، إلى الحزم الذي أظهرته لترامب وهو يُدخل العالم في صدامات مجانية.
خلال هذه السنوات الطويلة، كان على ميركل أن تحمي مصالح بلادها - ومن ورائها كامل أوروبا - من استعادة الدب الروسي لشهيته التوسّعية، ناهيك عن اللهفة الأميركية المتجدّدة للهيمنة في كل مكان، ولكن أيضاً كان عليها أن تحمي ألمانيا من أوروبا المترنحة اقتصادياً بعد أزمة 2008، وقد كشفت أن الاقتصاد الألماني كان يحمل على كتفيه مجمل الكتلة الأوروبية، وأن الجميع ينظر إلى ميركل كمنقذة من هواجس الإفلاس والانفجارات الاجتماعية.
أنتجت هذه الوضعيات المركّبة سلسلة من الأزمات أظهرت المستشارة أمامها قدرة على إيجاد الحلول المناسبة لها؛ لم تفارق في ذلك عقل الباحثة التي توفّر الحلول المناسبة لمعادلات معقّدة، أحياناً تعمل بتأنّ، بل ربما ببطء - كما هو الحال مع المسألة اليونانية - وفي أحيان أخرى تستبق الأحداث فتعالج الأزمة بضربة اتصالية مبكّرة، كما هو الحال مع أزمة اللاجئين، حين دخلت البلدان الأوروبية في حالة من الذعر أفقدها كل قدرة على التفكير، فإذا بميركل تفتح حدودها وتستقبل الجزء الأكبر من الموجة السورية وتبدأ في وضع سياسات إدماج امتصّت الكثير من وقع الأزمة، وأظهرت بعداً إنسانياً غيّر تلك الصورة المكرّسة عن سياسات بلادها، وحين وقعت كارثة فوكوشيما في اليابان عام 2011 أسرعت ميركل بغلق المنشآت النووية حتى قبل أن يصعد صوت الإيكولوجيين للضغط على حكومتها.
هذه الإدارة الدقيقة للأزمات كانت مفتاح تواصل حكم ميركل ورضا الألمان عنها. لم يحقّق رقمَها في الحكم لمدة 16 عاماً إلا المشرف على خطواتها الأولى في كواليس السياسة هيلموت كول، لكنه فعل ذلك في نظامين مختلفين بواقع ولايتين على رأس ألمانيا الغربية، ومثلهما على رأس ألمانيا الموحّدة، وفي حين أن كول خرج من الباب الصغير بعد هزيمة انتخابية نكراء ضد غيرهارت شرودر في 1998 ثم تلاحقت حوله الفضائح المالية، فإن ميركل تخرج من الحكم وهي تحافظ على شعبيّتها السياسية ودون شوائب. لكن هل تعني هذه العلاقة مع كول أن الطريق كان مفروشاً بالورود نحو منصب المستشارة؟ بالعكس، فهم أنفسهم الذين كانوا يمهّدون لها الطريق - وغالباً لخدمة أهدافهم الشخصية - كانوا لا يتوانون في وضع الحُفر على الطريق نفسه.
نشأة بعيدة عن السياسة للمستشارة
قبل توحيد ألمانيا، لم تكن ميركل تفكّر في السياسة، اختارت أن تدرس الفيزياء لأنها اعتبرت أن هذا العلم لا يمكن أن يندس فيه القمع الأيديولوجي الذي تمارسه السلطة الشيوعية في ألمانيا الشرقية، ومن ثمّ بدت راضية على موقعها كباحثة فيزيائية لن تضطر إلى الاحتكاك اليومي بالمسؤولين والحياة العامة.
حتى حياتها الصغيرة، ورغم بعض التقلبات الظاهرة، كان جوهرها الهدوء والبحث عن راحة البال وتحقيق أهداف ظرفية، لم تبحث مثل الكثير من الشباب في شرق ألمانيا عن الذهاب إلى إغراءات الجانب الغربي على الرغم من كونها وُلدت هناك في هامبورغ، واختار والدها هورست كاسنر عن قناعة أن يستقر بأسرته في الجانب الشرقي.
وأتى زواجها الأول، من زميلها أولريك ميركل، في 1977، كحل للانتقال من مدينة دراستها لايبزيغ إلى العاصمة برلين. ورغم أن الزواج لم يستمر سوى بضع سنوات، إلا أن الشابة الألمانية اختارت الحفاظ على الاسم الذي بدأت تُعرف به في البيئة البحثية. وتواصل الأمر أيضاً حين دخلت السياسة، وحتى حين تزوجّت لاحقاً من زميل آخر، هو يواكيم زاور، فقد تسبّب اختيار الإبقاء على اسم الزوج الاول بموقف طريف حدث مع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي حين رحّب بزوج المستشارة الألمانية قائلاً "أحيّي السيّد ميركل".
لم تضع أنجيلا ساقها في السياسة إلا حين مات النظام الشرق ألماني من الداخل، فابتلعه الجزء الغربي، وبدأت الإشارات منذ بداية الثمانينيات، من المركز الروسي، مع تتالي موت الرؤساء ما بعد بريجنيف، ففهمت ميركل أن الكتلة الشرقية بصدد التماوت من الداخل. ومع بداية طموحات هيلموت كول في توحيد ألمانيا، انفتحت بالتدريج جسور التواصل بين الجزأين كمقدّمة لوحدة سياسية كانت تطبخ على نار هادئة. توفّرت فرصةٌ للباحثة الشابة كي تكتشف ألمانيا في تنوّعها، عبر رحلات سياحية ثقافية كانت تعود فيها كل مرة إلى مقرها البرليني على عكس الكثيرين من مواطنيها الذي يزورون الغرب فيستقرون في مدنه تاركين وظائفهم وأسرهم.
البداية مع هيلموت كول
تابعت ميركل أحداث الوحدة في 1989 من التلفزيون، ولكن ألمانيا الجديدة كانت في حاجة إلى وجوه جديدة، فظهرت تنظيمات تستقطب الشبّان، ومنها "حركة ديموكراتيشر أوفبروخ" (التجديد الديمقراطي)، بقيادة لوتار دي مزيار، الذي وجد في ميركل البروفايل الأنسب لمنصب الناطق الرسمي، وحين قبلت ببساطة لم تكن تدري أنها دخلت في الطريق السريع نحو السلطة. ففي ظرف بضعة أشهر وجدت نفسها جزءاً من أكبر تنظيم سياسي في ألمانيا، فنظراً لتقارب التوجهات السياسية لـ"ديموكراتيشر أوفبروخ" مع حزب "الاتحاد المسيحي الديمقراطي" CDU، حزب الرجل القوي وقتها هيلموت كول، سرعان ما ذابت الحركة الجديدة في الجسم الأكبر، ولم تتردد ميركل في قطع تلك الخطوة.
بعد فوز انتخابي جعل منه أباً جديداً لألمانيا، ألمانيا الموحّدة، كان كول يخطّط لفريق حكومي يمثّل صفحة جديدة في تاريخ البلاد، لم يكن يعرف أنجيلا ميركل ولو بالاسم، لكن القدر جعل منها نقطة تقاطع تلبّي مجموعة من التوازنات، كانت آتية من شرق ألمانيا بين أغلبية من السياسين قادمين من الغرب، وكانت امرأة بين أكثرية ساحقة من الرجال، كما أنها ذات مسيرة علمية في فضاء يهيمن عليهم رجال القانون.
هكذا، بدون تردّد، جعل كول من الشابة ذات الخمسة وثلاثين عاماً وزيرة (للمرأة) في أوّل حكومة لألمانيا الموحّدة، وهناك سيتعرّف إلى خصال كثيرة: حسن إدارة الملفات، قدرات اتصالية، سمعة طيبة، تعامل مع السياسة بوصفها عملاً يومياً لا تتقاسمه مهمات شُغلية أخرى أو مسؤوليات الحياة الأسرية والاجتماعية ولا حتى طموحات الإثراء والشهرة.
باتت ميركل ضمن الحلقة المقرّبة من المستشار، وحين فاز بولاية جديدة في 1994 اختارها وزيرة للبيئة، وكانت تجربة أخرى أثبتت فيها ميركل أنها مؤهّلة للمهمات الصعبة والمعقّدة كما بدأ اسمها الشخصي يلمع خارج الكواليس البرلمانية والحزبية.
كان كول قد وعد أعضاء حزبه - وخصوصاً رئيس الكتلة البرلمانية فولفغانغ شاوبله - بأن ولايته الرابعة ستكون الأخيرة، بما أنه تجاوز الخامسة والستين من العمر، فلما جاءت السنة الانتخابية 1998 بدأ يسوّق المبرّرات لمواصلة الترشّح، ولما كانت حججه واهية، فقد خاض حرب كواليس قوامها اللعب على وتر التعاطف حين أشار إلى أنه يرغب بشكل رمزي أن يحضر الانتقال إلى العملة الجديدة بعد سنتين ومن ثم الانسحاب بشكل نهائي.
نجح كول أخيراً في استمالة أغلبية أعضاء حزبه لكنه فشل في الرهان الأهم: إقناع الألمان، لم يكن يعلم أن الخصم اليساري SPD قد بدأ يلعب على جزئيات، منها العمر وتجديد وجوه الحياة السياسية، فقدّم للانتخابات غيرهارت شرودر الذي يصغر كول بـ14 عاماً، وركّز طوال الحملة على حيويته والأفكار الجديدة التي ينبغي أن تدخل ألمانيا وتطوِّرَها ويقف الشيوخ مثل كول (وحزبه المحافظ) في سبيلها.
كانت الهزيمة زلزالاً داخل CDU، وجرى تحميل كول وزرها، لكن الزلزال أسقط الصف الأول من القياديين دفعة واحدة. كان إصرار كول على مواصلة قيادة الحزب سبباً في عدم دخول فترة انتقالية تجمع كل الأطراف على قائد واحد، وقتها، كانت ميركل تتفرّج بهدوء على صراع الديكة الذي يفضي إلى تحطيم مسيرة سياسية تلو الأخرى، ولما تعب الجميع من العراك، قرروا أن يعيدوا ترتيب البيت.
ساد وقتها اعتقاد أن شعبية شرودر تعني أن العودة للحكم لن تكون قريبة، ولهذا السبب فلا ينبغي دفع شخصية قيادية لرئاسة الحزب، وهنا مرة أخرى تكلّم ملف أنجيلا ميركل بدلاً عنها، حتى فولغانغ شاوبله تنحّى جانباً ليفسح لها المجال فكانت المرشحة الوحيدة في مؤتمر بون (1998)، وبعدما بدا تسليمُها حقيبتها الوزارية باباً نحو مستقبل مجهول وجدت ميركل تحت تصرّفها حقيبة أكبر.
في تصريحات لاحقة، حين أخذت منصب المستشارة، عادت ميركل إلى تلك اللحظة الفاصلة، فأشارت إلى أن ما كانت تطمح إليه بعد هزيمة 1998 هو منصب نائبة رئيس الكتلة البرلمانية للحزب لا أكثر. لم يكن ذلك الطريق المعبّد نحو رأس الحزب يعني أن ميركل قد أصبحت زعيمة جديدة، فقد كان كل من حولها يريدون العودة للحرب تحت غطاء رئاستها، ومن بين هؤلاء هيلموت كول، الذي اعتقد أن وصول ميركل هو حبل العودة للحكم مجدداً، لم يدُر بخلده أن وزيرته السابقة بدأت تعدّ حملة كواليس على "نظام كول"، الذي أدّى إلى الهزيمة الانتخابية، وحين تفطّن إلى ذلك لم يتصوّر أن تلميذته يمكن أن تدافع عن موقعها بتلك الشراسة التي أبدتها، فسرعان ما دخلت في كشف تلاعبات مالية بمدخرات الحزب مُدخلة المستشار السابق في دوامة مدوّخة حرص معظم أعضاء الحزب أن يسود فيها "قانون الصمت"، ولم تحاول ميركل إخراجها إلى مدى أوسع إلى حين. وحين فهمت أن كول يمكنه أن يراهن على نفسه بأوراق من خارج الحزب، نقلت هي الأخرى المعركة إلى فضاء جديد، حيث نشرت في 22 كانون الأول/ ديسمبر 1999 رسالة مفتوحة عبر صحيفة "فرانكفورتر ألغيماينه تسايتونغ"، قالت فيها إن كول بات يؤذي الحزب ويُفقده تمثيليّته، وكشفت ما كان مسكوتاً عنه داخل الحزب للقراء، فأنهت أسطورة كول وحتى منافسيه الذين اختاروا الصمت، بما يعني أنهم جزء من "نظام كول". بات تاريخ 22 كانون الأول/ ديسمبر يُعرف بـ"انقلاب ميركل"، فقد باتت منذ ذلك اليوم رئيسة الحزب فعلياً. ومع المعركة التي خاضتها، كانت معلومةُ أنها أوّل امرأة تبلغ ذلك المنصب في ألمانيا تبدو مثل تفصيل هامشيّ صغير.
عرش المستشارية
بدأت ميركل في إعادة بناء الهيكل الجديد لحزبها، أما المقصيون فقد اعتبروا أن المعركة لم تنته وأن ميركل في نفق مسدود بما أن الرهان الانتخابي المقبل سيكون مع شرودر مرة أخرى، ولا يزال هذا الأخير يحافظ على شعبيته التي ستكون مثل صخرة تتحطّم عليها شوكتها.
لكن ميركل عرفت كيف تخرج من عين العاصفة حين قرّرت تأجيل مواجهة شرودر في استحقاق 2002، دافعة برئيس حزب حليف، هو إدموند شتويبر، إلى شرف دخول انتخابات بدعم حزبها، ولم يكن انتصار شرودر يحتاج إلى تكهنات. لكن هزيمة الحزب لم تكن تعني هزيمة رئيسته، فقد أفضت انتخابات 2002 بها إلى موقع زعيمة المعارضة في البوندستاغ؛ كانت خطوة أخرى إلى الأمام تستعد بها إلى الطموح المقبل، والذي بات على بعد سنوات قليلة: منصب المستشارة.
استعدّت ميركل جيّداً للجولة اللاحقة. خلال الموعد الانتخابي لخريف 2005، تقدّمت بشجاعة للمستشارية مُرضية انتظارات خصومها الذين شحذوا سكاكينهم من جديد قبل أن يضطروا مجدداً لإخفائها مع ظهور النتائج وحصولها على المرتبة الأولى، وكان عزاؤهم الوحيد أنها لم تحصّل أغلبية كافية لبلوغ المنصب نظراً لاقتضاء تحقيق هذه الأغلبية عبر تحالفات الكتل داخل البوندستاغ لمنح منصب المستشار، مثّل ذلك حبل نجاة ممكن لشرودر، كان يأمل بأن تفشل ميركل في بناء تحالف فيُطلب منه ذلك ومن ثم يظل في منصبه.
أخطأ السياسي الألماني حين ظهر في التلفزيون وبدا مغروراً حين قال إنه متأكد من فشل ميركل في بناء تحالف يوصلها إلى منصب المستشار. في ذلك الوقت كانت هي على العكس تتبنى خطاباً يشير إلى أنها ستعتمد على إصلاحات شرودر الاقتصادية والاجتماعية في سياساتها، وأن حكومتها ستعمل على تجميع الألمان. وهكذا كسبت إلى صفها المترددين مثبتة قدرات تفاوضية عالية وموهبة على صنع التوافقات، لتفتح صفحة لم تغلق إلا اليوم، 8 كانون الأول/ ديسمبر، مع تسليم مقاليد السلطة.
نموذج سياسي جديد
قدّمت ميركل وهي تنتقل من ولاية إلى أخرى صورة جديدة للسياسة، قوامها الانضباط والترفع عن الصغائر، كما فرضت بعد سلسلة انتصاراتها حالة من الهدوء حولها مكّنتها من العمل بجدّية وثبات، لكن حصادها لم يخل من شوائب، حيث بدت عليها في كثير من المناسبات حالة من عدم الحسم، أو دخولها في وضعية اللاموقف، ناهيك عن براغماتية مبالغ بها تهدر الكثير من القيم، وهو ما يبدو مثلاً في انسحابها من أي دور فاعل في القضية الفلسطينية، وأحياناً كانت خياراتها تُقرأ بوجهين نقيضين، كما هو الحال خلال تعاملها مع جائحة كورونا، فقد قدّمت خطاباً مطمئناً طوال الأزمة الصحية واعتبرت من بين السياسيين القلائل الذين أحسنوا إدارة ذلك المنعطف، لكنها في المقابل اتُّهمت خارج بلدها بعدم التعاون بمدّ يد المساعدة الطبية، خصوصاً من قبل الإيطاليين، ثم بسبب قضية الديون مرة أخرى، إذ رفضت أن يكون الفيروس ذريعة للتهرّب من دفع المستحقات للبنوك الألمانية.
تمارس ميركل هذه الصلابة مع نفسها أيضاً. في 2018، وكانت قد خرجت من انتصار سياسي جديد بفوزها في انتخابات 2017، قرّرت تسليم منصب رئاسة حزبها إلى أنيغريت كرامب-كارنباور، وهكذا أعلنت بشكل مسبق أنها لن تكون ضمن سباق المستشارية في انتخابات 2021. لقد منعت ميركل نفسها مبكراً من الاستماع لعرائس البحر التي قادت الكثير من السياسيين إلى الهاوية.