نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، مساء السبت، تحقيقاً موسعاً استغرق بحسب الصحيفة أشهراً من العمل وجمع الوثائق والمعلومات السرية، إلى جانب مقابلات مع أشخاص متورطين في القضية مباشرةً، رفضوا ذكر أسمائهم خشية التعرّض للمساءلة.
يكشف التحقيق ما أسماه أحد الشهود الرئيسيين "جريمة حرب موثّقة للغاية"، ارتكبتها طائرة حربية أميركية في بلدة الباغوز إبان المعركة الأخيرة التي شهدتها المنطقة بين قوات التحالف وتنظيم "داعش" في 18 مارس/آذار 2019.
في 18 آذار، وفي الساعات الأخيرة من المعركة ضد تنظيم "داعش" في سورية، وعندما حُوصر من بقي من أعضاء التنظيم في منطقة مفتوحة بالقرب من بلدة الباغوز، الواقعة على نهر الفرات، ضمن الحدود الإدارية لمحافظة دير الزور، شرقي سورية، كثّفت الطائرات المسيَّرة رصد المنطقة، ولكنها لم تجد في ذلك الوقت سوى مجموعة كبيرة من النساء والأطفال المتجمعين على ضفة النهر. وبشكل مباغت اقتحمت طائرة هجومية أميركية من طراز "إف 15" المنطقة وأسقطت على الحشد قنبلة تزن 500 رطل (226 كغ)، ليبتلع المنطقة انفجار هائل، وما إن خرج البعض من قلب الانفجار محاولين الاحتماء، حتى استُهدفت المنطقة مجدداً بقنبلتين تزن كل واحدة منهما ألفي رطل (907 كغ)، الأمر الذي أدى إلى مقتل معظم الموجودين في المنطقة. وسرعان ما قدّر تقييم أولي للأضرار أنهم كانوا حوالى 70 امرأة وطفلاً، بحسب ما أوردت "نيويورك تايمز" في التحقيق.
المجزرة الأكبر في صفوف المدنيين
وبحسب الصحيفة، فإن "مجزرة الباغوز" هي الأكبر التي يرتكبها التحالف الدولي في صفوف المدنيين في خضم حربه ضد "داعش". ولم يعترف بها الجيش الأميركي علناً، رغم أن التقييمات الأولية العسكرية تُظهر بجلاء أن عدد القتلى كان واضحاً على الفور للمسؤولين الذين كانوا يراقبون المعركة في غرفة العمليات عبر الطائرات المسيَّرة. ولاحقاً، قام الجيش الأميركي بخطوات لمحاولة إخفاء الغارة، ثم محاولة التقليل من عدد القتلى، وتأخير التقارير عنها، فضلاً عن حذف المعلومات الأساسية منها، وأخيراً قامت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة بتجريف موقع المجزرة.
وينقل التحقيق عن جين تيت، وهو ضابط سابق ومحلل مع وكالة الاستخبارات ومركز مكافحة الإرهاب وموظف في مكتب المفتش العام بالبنتاغون، قوله: "تبدو القيادة عازمة على دفن الحادثة". ويضيف: "لا أحد يريد أي شيء له علاقة بذلك". وتكشف "نيويورك تايمز" أن تيت أُجبِر، نتيجة انتقاداته المتزايدة، على ترك وظيفته، وفي أكتوبر/تشرين الأول 2020، اقتادته عناصر الأمن خارج البنتاغون.
وتشير الصحيفة إلى أنه رغم محاولة الجيش وضع "قواعد صارمة لحماية المدنيين، فإن الفرق العسكرية تمتلك دائماً أساليب عديدة للالتفاف على ذلك". ويقول مصدر عسكري للصحيفة إنه عادة تُقلَّل الخسائر في صفوف المدنيين في التقارير العامة والسرية. ففي قرابة ألف غارة نُفِّذَت في سورية والعراق عام 2019، استُخدمَت فيها 4729 قنبلة وصاروخاً، تذكر الحصيلة العسكرية الرسمية أن عدد القتلى المدنيين فيها كان 22 مدنياً فقط، دون أن تتضمن حصيلة غارة الـ18 من مارس/آذار.
الوحدة التاسعة
كشف تحقيق تيت وزملائه، أن الغارة استُدعيَت من قبل وحدة سرية من القوات الخاصة الأميركية، تسمّى "الوحدة التاسعة"، التي كانت مسؤولة عن العمليات البرية في سورية. وقد عملت الوحدة بسرية تامة، إلى درجة أنها لم تكن تبلغ شركاءها في التحالف بتحركاتها.
وتكشف الصحيفة أن التقييم الوحيد الذي أُجري بعد الضربة مباشرة، كان من قبل "الوحدة التاسعة"، ذاتها التي أمرت بالقصف. وحينها أخبرت القيادة أنها قررت أن "القصف كان قانونياً لأنه قتل عدداً قليلاً من المدنيين في أثناء استهداف مقاتلي داعش في محاولة لحماية قوات التحالف". وأضافت الوحدة أنه ليس هناك ما يبرر القيام بـ"تحقيق جنائي أو إجراء تأديبي"، وأن الوفيات في صفوف المدنيين "كانت عرضية".
لكن الضابط دين دبليو كورساك، الذي كان موجوداً في غرفة العمليات المركزية، يعتقد أن ما شاهده "جريمة حرب محتملة"، وتنقل "نيويورك تايمز" عن رسائل وجهها كورسك إلى القيادة، أن "إحدى الوحدات العسكرية قد تلاعبت بمعلومات الغارة، في محاولة للتستر، ويضيف في موضع آخر أن حصيلة القتلى كانت "عالية بشكل صادم". وكحال تيت وفريقه، لم تجد نداءات كورسك آذاناً صاغية.
تكشف الصحيفة أن "الوحدة التاسعة" تولت مهمة تنسيق الهجمات والغارات الجوية. وتكشف مصادر عسكرية أن الوحدة تضم جنوداً من المجموعة الخامسة للقوات الخاصة، و"قوات دلتا" وهي قوات النخبة في الكوماندوس الأميركي.
وقد اقتصر عملها في سورية، بحسب المصادر، على الدور الاستشاري فقط، حيث كان جنودها عادةً خلف الخطوط الأمامية. لكن بحلول أواخر عام 2018، باتت نسبة حوالى 80 بالمئة من الضربات الجوية التي كانت تستدعيها الوحدة، تصنيفها تحت بند "دفاع عن النفس" و"رداً على خطر وشيك"، بحسب مصادر عسكرية راجعت سجل الغارات التي استدعتها الوحدة.
وتكشف المصادر التي تنقل عنها الصحيفة، أن الوحدة توسّعت في تفسير "الدفاع عن النفس" إلى درجة استدعاء الطيران لاستهداف سيارة مثلاً، كانت تسير على بعد أميال من "القوات الصديقة". وبهذه العقلية، مُسح عدد من البلدات السورية عن الخريطة، بما في ذلك مدينة الرقة، التي تحوّل معظمها إلى أنقاض بسبب الغارات الجوية لقوات التحالف، كما تورد "نيويورك تايمز".
وبحسب تقارير لمنظمات حقوقية، سبّب التحالف مقتل آلاف المدنيين خلال الحرب. وتظهر المئات من تقارير التقييم العسكري، التي وصلت إليها "نيويورك تايمز"، أن "الوحدة التاسعة متورطة في واحد من كل خمسة حوادث أدت إلى سقوط ضحايا في صفوف المدنيين بنيران التحالف".
وإلى جانب تقارير المنظمات الحقوقية، كشف ضابط سابق عمل على تقرير لـ"وكالة المخابرات المركزية" (سي آي إيه) للصحيفة، أن التقرير رصد حوالى 10 حوادث، طلبت فيها الوحدة التاسعة تنفيذ غارات، رغم علمها بأن مدنيين سيقتلون". ويقول الضابط إن "التقرير خلص إلى أن جميع الضربات كانت قانونية". وامتنعت الوكالة عن نشر التقرير أو مناقشته.
صباح المجزرة
كان عناصر "داعش" المصرين على القتال حتى النهاية، محاصرين في منطقة مكشوفة من الأراضي الزراعية المحترقة. وضمت تلك المنطقة عشرات الآلاف من النساء والأطفال، كان البعض منهم هناك بكامل إرادته، ولكن آخرين لم يكونوا. كما تذكر الصحيفة.
وكان التحالف قد فرض حصاراً طوال ستة أسابيع، على أمل تجويع مقاتلين التنظيم ودفعهم إلى الاستسلام. وبالفعل، فقد استسلم 29000 شخص، معظمهم من النساء والأطفال. وفي 18 مارس/آذار، كشفت لقطات عالية الدقة، مصورة بطائرات مسيَِّرة، كانت تجوب المنطقة طوال الوقت، أن المخيم لا يزال يحوي أعداداً كبيرة من المقاتلين والعائلات.
وتنقل الصحيفة عن أحد الضباط، أن طائرات التحالف المسيَّرة "جابت معسكر التنظيم على مدار 24 ساعة في اليوم، طوال أسابيع، وكانت تعرف كل بوصة فيه تقريباً، بما في ذلك التحركات اليومية لمجموعات من النساء والأطفال الذين كانوا يتجمعون لتناول الطعام والصلاة والنوم بالقرب من ضفة النهر".
تروي "نيويورك تايمز" تفاصيل المعارك في ذلك اليوم، حيث شنّ مقاتلو التنظيم المحاصرون هجوماً مضاداً قبل الفجر، وبحسب "الوحدة التاسعة" فإن "المئات من مقاتلي داعش" بدأوا بإطلاق النار ورمي القنابل وإرسال الانتحاريين إلى خطوط القتال. استهدف التحالف المنطقة في ذلك الوقت بضربات جوية مكثفة، إلى درجة أنه بحلول الصباح كانت جميع الصواريخ على متن الطائرات المسيَّرة قد استُخدمت.
وفي العاشرة من صباح ذلك اليوم، أفادت القوات السورية المحلية العاملة مع قوات التحالف، بأنها تتعرض لإطلاق نار، وتخشى تقدّم عناصر التنظيم، طالبة شنّ غارة جوية. وبحسب "الوحدة التاسعة"، فقد رصدت طائرة مسيَّرة مجموعة من المقاتلين وهم يشقون طريقهم عبر المعسكر إلى المنطقة التي يوجد فيها النساء والأطفال.
وبالفعل، أُعطيَت الأوامر بالقصف، واستُهدِفَت المنطقة بثلاث قنابل، وسُجِّلَت الغارة تحت بند "دفاع عن النفس".
وتكشف الصحيفة أن القيادة الأميركية المركزية كان لديها في المنطقة طائرة مسيَّرة للتصوير بدقة عالية، وثّقت صورة مختلفة تماماً.
ووفقاً لما قاله ثلاثة أشخاص شاهدوا اللقطات، تكشف "نيويورك تايمز" أن ثلاثة رجال، لا 16 كما قالت الوحدة، كانوا يسيرون قرب حشد العائلات، ولم يكن واضحاً أنهم في وضع قتالي، رغم حملهم للبنادق، لكن لم يكن يبدو عليهم أنهم يناورون أو يشتبكون مع قوات التحالف بالطريقة التي تستدعي غارة للدفاع عن النفس بقنابل تزن 2000 رطل، في هجوم استغرق بأكمله 12 دقيقة.
تحقيق فاشل
في ذلك اليوم استولت قوات التحالف على الباغوز، آخر حصون "داعش"، وفي صباح اليوم التالي التقط ناشطون مدنيون من فريق "الرقة تذبح بصمت" صوراً تظهر أكواماً من القتلى من النساء والأطفال، وصفتها بـ"المجزرة المروعة".
وتنقل الصحيفة عن الجندي السابق في القوات الأميركية الخاصة، ديفيد يوبانك، الذي زار المنطقة بعد أسبوع تقريباً، قوله: "كان المكان مدمراً بسبب الغارات الجوية". ويضيف: "كان هناك الكثير من الأرض التي جُرّفت حديثاً، وكانت رائحة الجثث تنبعث من الأرض، الكثير من الجثث".
في ذلك الشهر، أنهت "الوحدة التاسعة" تقريرها عن الخسائر المدنية في الغارة، وذكرت فيه مقتل أربعة مدنيين فقط.
لاحقاً وفي بداية 2020، تولى جين تيت التحقيق في القضية، بعدما توجه إليه الضابط دين دبليو كورساك، في محاولة أخيرة من كورسك لإيجاد من يهتم بإحقاق العدالة. ويقول تيت إن فريقه طلبوا من المسؤولين عنهم إعلام السلطات العليار ووكالات التحقيق الجنائي، لكن المسؤولين لم يتخذوا أي إجراء.
وفي الأشهر اللاحقة أعد تيت وفريقه تقريراً عن الخسائر المدنية وعمليات الإبلاغ عنها، لكن عمليات التدخل من قبل القيادة حذفت أي إشارة إلى "مجزرة الباغوز". ولاحقاً أُنهيَ عمل تيت، الذي رفض الاستسلام، فحاول الاتصال بلجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، في مايو/أيار، حيث أرسل رسالة من 10 صفحات، يصف فيها الغارة وما اعتبره "إخفاقاً منهجياً" في الإبلاغ عن الضحايا المدنيين. وانتظر طويلاً حتى تتصل به اللجنة، أو تُعلمه بأنها مهتمة بالقضية، وما زال ينتظر.
تضيف "نيويورك تايمز"، أخيراً، أنها أرسلت استفساراتها حول الغارة إلى القيادة المركزية الأميركية، التي أشرفت على الحرب الجوية في سورية، طالبت منها التعليق، وتقول إن القيادة أقرّت بوقوع الغارات للمرة الأولى، قائلة إن 80 شخصاً قتلوا، لكن الضربات الجوية "كانت مبررة". مضيفة أن القنابل قتلت 16 مقاتلاً وأربعة مدنيين، في تكرار حرفي لما ذكره تقرير الوحدة. أما بالنسبة إلى القتلى الستين الآخرين، فتنقل الصحيفة عن بيان القيادة أنه ليس من الواضح أنهم مدنيون، لأن النساء والأطفال في تنظيم "داعش" كانوا يحملون السلاح في بعض الأحيان.