جاء قرار أمير الكويت الشيخ نواف الأحمد الصباح بإعلان العفو عن عدد من المتهمين في القضايا السياسية، ومن أبرزهم المتهمون في قضية "اقتحام مجلس الأمة" إبان الاحتجاجات الشعبية ضد رئيس مجلس الوزراء الأسبق ناصر المحمد الصباح عام 2011، لينهي أحد أطول الأزمات السياسية الداخلية التي عاشتها البلاد، والتي استمرت مدة 10 سنوات وشكلت منعطفاً تاريخياً في التاريخ السياسي الكويتي في العقد الأخير.
ولا يمثل المتهمون باقتحام مجلس الأمة جميع من شُمل في العفو الأميري الصادر اليوم، لكن قضيتهم كانت هي القضية الأساسية في العفو نظراً لحجم الأسماء السياسية المتهمة فيها ووزنها داخل الدولة.
وكانت محكمة التمييز قد أصدرت حكمها النهائي في قضية "اقتحام مجلس الأمة" في شهر يونيو/حزيران عام 2018، بإصدار حكم بالسجن مدة ثلاث سنوات وستة أشهر بحق كل من النواب السابقين وقادة المعارضة، وهم مسلم البراك، جمعان الحربش، خالد الطاحوس، فيصل المسلم، مبارك الوعلان، سالم النملان، وليد الطبطبائي وفهد الخنة، وكذلك بحق مشعل الذايدي، راشد العنزي، ناصر فراج المطيري، محمد الدوسري، عبد العزيز المنيس، من قادة المعارضة الشباب، وحبس عبد العزيز المطيري ومحمد البليهيس ونواف نهير مدة عامين مع الشغل. وقررت المحكمة الامتناع عن عقاب 31 متهماً، مع تغريمهم مبلغاً قدره ألف دينار كويتي (ما يعادل ثلاثة آلاف دولار أميركي) وبراءة 17 متهماً آخرين.
لكن نائبين سابقين، هما وليد الطبطبائي وفهد الخنة، عادا إلى الكويت في أواخر عام 2019 متقدمين بطلب للعفو الخاص من أمير البلاد الراحل الشيخ صباح الأحمد الصباح، فيما رفضت بقية النواب السابقين العودة على أمل الاستفادة من "عفو شامل" يمكنهم من العودة إلى المشهد السياسي، إذ إن العفو الخاص يحرمهم من المشاركة في الانتخابات البرلمانية.
ما هي جذور قصة اقتحام مجلس الأمة؟
بدأت قضية اقتحام مجلس الأمة الكويتي عندما بدأت المعارضة، التي كانت تتشكل في عام 2009، بترتيب نفسها ومحاولة إسقاط رئيس مجلس الوزراء الأسبق الشيخ ناصر المحمد الصباح، بسبب وجود شبهات فساد حوله، لكن المعارضة لم تحصل على الزخم إلا بعد أحداث "ديوانية الحربش"، التي اقتحمت فيها القوات الخاصة التابعة لوزارة الداخلية منزل النائب في مجلس الأمة آنذاك جمعان الحربش، وحاولت إيقاف ندوة سياسية كانت تجرى بداخلها، واقتادت أستاذ المرافعات في جامعة الكويت، الذي أصبح أحد زعماء المعارضة فيما بعد، الدكتور عبيد الوسمي، وضربته أمام شاشات التلفاز العالمية، وهو ما أدى إلى تقديم سلسلة من الاستجوابات لرئيس مجلس الوزراء، لكنه استطاع تأمين أغلبية برلمانية والإفلات منها.
واستمرت الاحتجاجات البرلمانية طوال عام 2011 متأثرة بزخم الربيع العربي، لكن كشف الصحف الكويتية عن وجود "إيداعات مليونية" في حسابات بعض نواب مجلس الأمة الموالين للحكومة وبدء النيابة العامة التحقيق معهم، أدى إلى إعلان المعارضة عقد ندوة في ساحة الإرادة وسط العاصمة الكويت، وأمام مجلس الأمة مباشرة، وذلك في شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 2011، وتحولت هذه الندوة مسيرةً إلى منزل رئيس مجلس الوزراء الشيخ الأسبق الشيخ ناصر المحمد الصباح، وهو ما دفع سلطات الأمن إلى التدخل ومحاولة محاصرة المحتجين، قبل أن تتعالى الصيحات، بحسب ما تذكر مضابط التحقيقات فيما بعد، إلى اقتحام مجلس الأمة ودخوله وتسجيل موقف سياسي على الحكومة، وهو ما تم فعلاً، إذ اقتحم المئات مجلس الأمة ودخلوا إلى القاعة البرلمانية وقاموا بمصادرة "مطرقة" رئيس مجلس الأمة الموالي للحكومة جاسم الخرافي، كما قاموا بالجلوس على كرسي رئيس مجلس الوزراء.
وأدت عملية الاقتحام إلى حالة من الصدمة في الكويت، إذ كانت هذه الطريقة الاحتجاجية جديدة على المشهد السياسي في البلاد، وأدت إلى تخوف من امتداد الربيع العربي إليها.
وبعد يومين من الحادثة، قال أمير البلاد إنه أصدر أوامره بمحاسبة المتهمين باقتحام مجلس الأمة، وإن ما حدث كان "يوماً أسوداً" في تاريخ الكويت وإنه لن يرضخ لمطالب المحتجين بإقالة رئيس مجلس الوزراء.
ولم تمض ثلاثة أسابيع على خطاب الأمير، حتى أعلن عن قبوله استقالة رئيس مجلس الوزراء، وحله البرلمان، ودعوته لانتخابات جديدة عُقدت في فبراير/شباط عام 2012 وأدت إلى انتصار كاسح للمعارضة، التي كانت نتاجاً لتحالف بين تيارات إسلامية وتيارات قبلية، سيطرت بموجبه على مفاصل البرلمان، وحاولت تعديل البلاغ المرفوع من قبل مؤسسة البرلمان (مجلس الأمة) إلى النيابة العامة، وذلك لتبرئة النواب المقتحمين ومن معهم من المعارضين، الذين بدأت النيابة آنذاك بالتحقيق معهم.
وصدمت المحكمة الدستورية السياسيين الكويتيين بإعلانها في شهر يونيو/حزيران عام 2012، أي بعد أقل من أربعة أشهر على انتخاب مجلس الأمة، بطلان الانتخابات، وبالتالي بطلان هذا المجلس، ليصدر أمير البلاد بعدها دعوة إلى الانتخابات البرلمانية، ويصدر مرسوماً بتعديل الأصوات الانتخابية، ما أدى إلى مقاطعة المعارضة الانتخابات حتى عام 2016.
وأصدرت المحكمة الأولية حكمها ببراءة المتهمين في قضية دخول المجلس، لكن محكمة الاستئناف أصدرت أحكام سجن قاسية بحق المتهمين في أواخر عام 2017، قبل أن تصدر محكمة التمييز أحكامها النهائية في منتصف عام 2018 بسجن 8 نواب سابقين وعدد من الناشطين السياسيين الذين اقتحموا البرلمان، وبراءة بقية المتهمين.
واستطاع المتهمون في قضية دخول المجلس الفرار من البلاد والخروج إلى تركيا، حيث استقروا في مدينة إسطنبول، محاولين حشد البرلمان لتمرير قانون "العفو الشامل" الذي يهيئهم للعودة إلى البلاد رغماً عن الحكومة، ويمنحهم حق الترشح والانتخاب، لكن هذا القانون سقط في البرلمان أكثر من مرة في عام 2019 و2020.
وجاءت وفاة أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد الصباح، في شهر سبتمبر/أيلول 2020، لتزيد من بعثرة أوراق المشهد السياسي، قبل أن تُعقد الانتخابات البرلمانية في شهر ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه، والتي أسفرت عن انتصار ساحق للمعارضة، لكن خلافات حادة بينها حول أولوية قانون العفو على مطلب "إسقاط رئيسي مجلس الأمة" أدت إلى عدم قدرة مجلس الأمة على التصويت على القانون، وسط تهديد حكومي بحل مجلس الأمة إذا ما صوت عليه.
وعاشت البلاد في أزمات سياسية مستمرة، بسبب جلوس نواب المعارضة على مقاعد الوزراء ومنعهم الجلسات من الانعقاد، وهو ما أدى إلى تصويت الحكومة وقوفاً على مشروع الميزانية العامة للدولة، قبل أن تأتي عطلة الصيف لتعطي الحكومة فرصة لترتيب الأوراق.
الحوار الوطني
بعد مفاوضات شاقة بين الحكومة ورئيس مجلس الأمة مرزوق الغانم من جهة، وعدد من نواب المعارضة من جهة أخرى، توصلت الأطراف إلى ضرورة عقد حوار وطني تُحل فيه الخلافات العالقة، واستجاب أمير الكويت الشيخ نواف الأحمد الصباح لهذه المطالب، ليدعو في أواخر شهر سبتمبر/أيلول للحوار الوطني، الذي عقدت منه ثلاث جلسات انتهت إلى اتفاقات بموافقة الحكومة على "عفو كريم" لا يتقدم فيها المعفو عنهم باعتذار إلى أمير البلاد، ولا يسجنون أي يوم، كما تتعهد الحكومة بوقف العمل بقرار تأجيل الاستجوابات المقدمة لرئيس الحكومة حتى منتصف عام 2022، في مقابل أن يتعهد نواب مجلس الأمة بإنهاء حالة التأزيم المستمرة، وهو ما تم فعلاً.
وتقدمت الحكومة الكويتية بعد رفعها مراسيم العفو الأميري التي وقع عليها أمير البلاد باستقالتها اليوم الاثنين، وذلك لإسقاط قرار تأجيل الاستجوابات، ولإعادة ترتيب المشهد السياسي، ولتوزير بعض أعضاء المعارضة فيها، منهيةً بذلك أكبر أزمة سياسية عاشتها البلاد في العقد الأخير.