مالي في قلب التفاهمات الجزائرية الفرنسية

04 سبتمبر 2022
تلقت الجزائر ضمانات فرنسية بعدم التشويش على جهودها (Getty)
+ الخط -

حملت زيارة وزير الخارجية الجزائرية رمطان لعمامرة إلى مالي هذه المرة أهمية خاصة، كونها جاءت في ظل معطيات عن تفاهمات سياسية وأمنية تمت بين الجزائر وباريس، خلال الزيارة الأخيرة للرئيس إيمانويل ماكرون للجزائر، تشمل ترتيبات الوضع في مالي وعموم منطقة الساحل.

وبموجب هذه التفاهمات، حصلت الجزائر على وضع يتيح لها القيام بدور أكبر في هندسة الأمن والاستقرار في المنطقة، بالتنسيق مع دول الجوار، مقابل ضمانات من باريس بعدم التشويش على الخيارات الإقليمية للجزائر ودول الساحل.

وقال مسؤول جزائري مطلع على ملف الأمن في دول الساحل، طلب عدم ذكر اسمه، لـ"العربي الجديد"، إن "الجزائر حققت تقدماً كبيراً في فرض تصورات لهندسة الأمن والاستقرار في المنطقة، بما يحقق مصالح دول المنطقة وشعوبها".


مسؤول جزائري: الجزائر حققت تقدماً كبيراً في فرض تصورات لهندسة الأمن والاستقرار في المنطقة

وكشف أنها "حصلت على ضمانات سياسية جدية من باريس بعدم تكرار السياسات الخاطئة التي عقّدت الأوضاع في المنطقة، كليبيا ومالي وغيرها".

ضمانات بعدم التشويش على الجهود الجزائرية

وأضاف أن "هذه الضمانات هي عدم التشويش على الجهود الجزائرية، واحترام خيارات القيادات السياسية في مالي ودول الساحل، والسماح للجزائر بالعمل بأريحية كبيرة مع قادة دول الجوار، خصوصاً مالي، لضمان العودة إلى الآليات الدستورية وتحقيق مزيد من التقدم على طريق تطبيق اتفاق الجزائر للسلام، وتركيز عوامل الأمن والاستقرار في المنطقة".

ويدعم بيان وزارة الخارجية الجزائرية حول زيارة لعمامرة إلى مالي، والتي بدأت مساء الخميس الماضي وانتهت أمس السبت، هذه المعطيات، إذ أوضح البيان أن هناك توجهاً نحو "تعزيز الحركية الإيجابية للسلم والمصالحة في مالي، وترقية نقاط التوافق الاستراتيجية بين الجزائر ومالي حول الأمن في المنطقة وعلى المستويين القاري والدولي".

ومن المتوقع أن يكون لعمامرة أبلغ رئيس السلطة الانتقالية في مالي أسيمي غويتا، ورئيس الحكومة بالنيابة عبد الله مايغا (رئيس الحكومة شوغيل مايغا يخضع للراحة من وعكة صحية) كامل التفاصيل المتعلقة بالتفاهمات الجزائرية الفرنسية التي تخص مالي. كما التقى رئيس المجلس الوطني الانتقالي مالك دياو، ووزير الخارجية عبد الله ديوب، وقادة حركات الطوارق.

وأشرف لعمامرة، أمس السبت، على الاجتماع السادس رفيع المستوى للجنة مراقبة اتفاقية السلام والاستقرار في مالي، المنبثق عن مسار الجزائر في مايو/أيار 2015.

وتترأس الجزائر لجنة الوساطة الدولية للسلام في مالي في ظروف مشجعة، بعد التوصل بين الحركات المالية والحكومة المركزية في باماكو إلى اتفاق يقضي بإدماج 26 ألفا من مقاتلي الحركات المسلحة في الجيش المالي، على دفعتين قبل نهاية سنة 2024، واستحداث وتفعيل لجنة مختصة تتكفل بالأعمال الخاصة بالقيادات المدنية والعسكرية التابعة لهذه الحركات، وإطلاق إصلاحات سياسية ومؤسساتية غير مرتبطة بالتعديل الدستوري المرتقب في مالي.

إقرار فرنسي بدور الجزائر الحيوي في مالي

وبذلك، تكون باريس قد أقرت أخيراً بالدور الحيوي والمركزي للجزائر في مالي، إذ كان المستشار الخاص للرئيس الفرنسي للشؤون العسكرية الأميرال جان فيليب رولاند، قد أكد للوفد الإعلامي المرافق لماكرون في زيارته الأخيرة إلى الجزائر بشأن ملف مالي والوضع في منطقة الساحل، أن "التنسيق الأمني مع الجزائر ضروري، ومن الواضح أن الجزائر تلعب دوراً مهماً للغاية في أزمة الساحل".

وتابع: "منذ 15 أغسطس/آب الماضي سحبت فرنسا آخر جنود برخان من مالي. لكن بالطبع نواصل مكافحة الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل، وانتشارها الذي نسعى لمكافحته حتى دول خليج غينيا. وفي هذا المجال من المؤكد أن التنسيق مع السلطات الجزائرية أساسي، لأن المساحات الصحراوية الكبيرة في جنوب الجزائر، وصلتها بجنوب ليبيا ومالي والنيجر، هي ممرات تسهل جميع عمليات الجرائم ونشاط الجماعات الإرهابية".

لكن هذا الإقرار مرتبط بالأساس بطرح الجزائر اشتراطات حساسة تخص الوضع في منطقة الساحل، لإجبار باريس على ضرورة استشارة الجزائر في أي ترتيبات أو خطوات، مهما كانت طبيعتها تخص منطقة الساحل، وألا يجري تنفيذ أي سياسات فرنسية في المنطقة من دون أن تطلع الجزائر على ترتيباتها، لكونها مسألة تتصل بالأمن القومي الجزائري.

هذه الاشتراطات طُرحت بوضوح في الاجتماع الأمني والعسكري الأول من نوعه، والذي جمع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون وماكرون، بحضور كبار قادة الجيش والأجهزة الأمنية من البلدين، بمن فيهم قائد الجيش الجزائري الفريق أول السعيد شنقريحة، ووزير الجيوش الفرنسية سيباستيان لوكورنو، ورئيس أركان الجيوش الفريق أول تييري بوركارد.

توقعات بمزيد من الاستقرار في مالي

وتشير التوقعات إلى أن الأوضاع في مالي قد تتجه نحو مزيد من الاستقرار في الفترة المقبلة، بعدما رفعت باريس يدها عن مالي، وتخلت لصالح الجزائر للإشراف على كامل الترتيبات السياسية والأمنية المتعلقة بالمنطقة، خصوصاً أن المسألة بالنسبة للجزائر ترتبط بمصالح أمنها القومي بحكم الجوار والحدود الجنوبية لها، والتوترات التي تشهدها منطقة شمال مالي المتاخمة للحدود الجزائرية.

زهير بوعمامة: الطريق أصبحت سالكة لأن تأخذ الجزائر زمام ملف مالي من دون تشويش فرنسي

ويرجح مراقبون مهتمون بتطورات الوضع في مالي، أن تكون كل من الجزائر وباريس قد توصلتا إلى تفاهمات تخص باماكو، تقبل بموجبها فرنسا برفع يدها عن مالي وفك ارتباطاتها بها، استجابة لمتغيرات سياسية ومجتمعية عميقة في مالي، لم يعد معها هناك إمكانية للقبول بالتواجد والنفوذ الفرنسي في مالي، خصوصاً مع تسلم الحكم من قبل نخبة مناهضة لباريس، وارتفاع منسوب الرفض الشعبي العارم لأي تواجد فرنسي تحت أي عنوان كان.

إضافة إلى أن العنوان الأبرز للتواجد العسكري الفرنسي، والمرتبط بمكافحة الإرهاب، انتهى إلى حالة إخفاق، إذ لم تنجز عملية "برخان"، التي أطلقتها باريس منذ 2013، أهدافها في القضاء على المجموعات المسلحة.

وقال أستاذ العلوم السياسية ومحلل الشؤون الدولية زهير بوعمامة، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن هناك العديد من الإشارات إلى وجود تحوّل إيجابي في الموقف الفرنسي من اتفاق الجزائر للسلام في مالي الموقّع في مايو 2015، على أساس أن تؤدي الجزائر دوراً في تهدئة التوتر بين باماكو وباريس، التي تخشى ضياع مزيد من مصالحها الاقتصادية الحساسة في مالي.

وأضاف: "معلوم أن الفرنسيين كانوا يعرقلون تطبيق هذا الاتفاق بطرق شتى، وكانوا يعملون دوماً على تهميش الدور الجزائري طالما أنه لا يتماشى مع رؤيتهم لترتيب أوضاع المنطقة".

تغير الظروف بعد انسحاب "برخان"

وتابع: "لكن الظروف تغيرت الآن بعد الانسحاب، والفشل الفرنسي السياسي والعسكري. وعلى الأرجح الطريق أصبحت سالكة الآن لأن تأخذ الجزائر زمام الملف لتحريك الوضع من دون تشويش فرنسي، في مقابل أن تعمل الجزائر على تهدئة التوتر بين باماكو وباريس، وتأجيل رسم العلاقة بينهما إلى ما بعد الانتخابات المقبلة".

ولفت بوعمامة إلى أن "التشويش هنا معناه محاولات خلط الأوراق في مالي، وتحريك البيادق لإعادة الاضطرابات، خصوصاً مع وجود مخاوف مالية من تواطؤ محتمل بين القوات الفرنسية وقيادات لمجموعات مسلحة ومتمردة".

لكنه شدد على أن "الجزائر وباماكو لن تسمحا بأن تنخرط فرنسا في أعمال عن بُعد، تؤدي إلى انهيار الأمن تماماً، حتى تقول للماليين ولدول الساحل إن الاستقرار من دونها أمر غير ممكن. ولذلك أعتقد أن الجزائريين حصلوا على ضمانات بهذا الشأن، وهي في صالح مالي".


سهام غدير: تسارع الأحداث في الساحل الأفريقي قد تكون فرضت على فرنسا إعادة ترتيب استراتيجيتها في المنطقة

وأشار إلى أن "زيارة لعمامرة ستشهد انعقاد اللجنة الاستراتيجية الثنائية، وربما سيكون الوقت مناسباً لحسم مشاريع مؤجلة للتنقيب من قبل شركة سوناطراك الجزائرية في شمال مالي، وهو ما سيعزز الحضور الجزائري" في البلد.

لكن السؤال الذي يُطرح في الوقت الحالي، هو ما إذا كانت فرنسا على استعداد للقبول بالتنازل عن مصالحها الحيوية في مالي ودول الساحل بهذه الطريقة، أم أن إكراهات أزمة الطاقة العالمية والضغط على فرنسا وأوروبا في هذا المجال، هو الذي فرض على باريس القبول بالاشتراطات الجزائرية لرفع يدها عن المنطقة، خصوصاً أن الجزائر توجد في موضع قوة يسمح لها بدفع باريس إلى هذا الموقف، ناهيك عن أن المسألة ترتبط بقضايا الأمن القومي للجزائر؟ كما يُطرح تساؤل عما إذا كان هناك قبول فرنسي بالأمر الواقع في منطقة الساحل، فرضته المتغيرات السياسية في دول المنطقة، وتصاعد موجة رفض الوجود الفرنسي.

رفض شعبي للنفوذ الفرنسي

واعتبرت محللة الشؤون الإقليمية سهام غدير، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "أزمة النفوذ الفرنسي في الساحل الأفريقي تكمن في الرفض الشعبي الكبير الذي أضحى يحرج أنظمة هذه الدول، وهو ما استغلته السلطات الانتقالية في مالي، وبدرجة أقل بوركينا فاسو وغينيا، لكنه لن يجعل باريس تتنازل عن مصالحها، بقدر ما يضطرها لإعادة قراءة خطتها، أو استحداث أخرى تتماشى والتغيرات الحاصلة، إقليمياً ودولياً".

وأضافت: "من هنا يمكننا أن نفسر جولة ماكرون الأفريقية الأخيرة وزيارته الجزائر، بهدف رسم استراتيجية جديدة لباريس عبر فتح نقاشات مباشرة تمكّنها من تقييم مطالب هذه الدول وشركائها، والدور الذي يمكن القيام به، بتنسيق غير معلن يجعل من مصالحها الأمنية والاقتصادية الحيوية مضمونة".

وأوضحت غدير، التي تعمل على ملف منطقة الساحل، أن "تسارع الأحداث في منطقة الساحل الأفريقي عموماً، ومالي بالتحديد، خصوصاً في ظل الأزمة الدبلوماسية غير المسبوقة بين باماكو وباريس، قد تكون فرضت على الأخيرة إعادة ترتيب استراتيجيتها في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، بعد التراجع الكبير لنفوذها وفشلها بعد عقد من الزمن من تدخّلها العسكري في مالي في القضاء على الإرهاب. بل ما حدث هو العكس، من حيث تصاعد الهجمات الإرهابية وتمدد الجماعات الإرهابية إلى عمق غرب أفريقيا".

لكن غدير أشارت، في السياق نفسه، إلى عامل إضافي فرض على فرنسا التراجع نسبياً، وهو "التنافس الدولي الكبير على المنطقة، ما جعل من باريس مجرد طرف من بين أطراف عديدة أخرى تهدد المصالح الحيوية لفرنسا على غرار تركيا والصين، من خلال الاستثمار، خصوصاً في الشق الاقتصادي والبنى التحتية لدول الساحل وغرب أفريقيا، وهو ما يفسر الاتهامات التي وجهها ماكرون مباشرة للصين وتركيا وروسيا خلال زيارته الأخيرة للجزائر بشأن استعداء فرنسا في الساحل".

المساهمون