بعد خمس سنوات على خطاب واغادوغو، عاصمة بوركينا فاسو، في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، أمام طلاب جامعيين أفارقة، باءت لغة الشباب بالفشل بالنسبة إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي أطلق أول من أمس الإثنين، صرخة جديدة قبل انتهاء ولايته الثانية، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من النفوذ الفرنسي المتراجع في القارة السمراء، لاحتواء النفوذين الصيني والروسي المتصاعدين في المنطقة.
وإذ استنجد ماكرون بالشركات الفرنسية الخاصة، تحت غطاء زيادة الاستثمار في قطاعات الصحة والزراعة والتعليم، لا يزال التخبط الفرنسي في القارة الأفريقية، واضحاً، على وقع المنافسات الجديدة، التي اعتبرها ماكرون "فخاً"، رافضاً أن تكون فرنسا "كبش فداء" لكل الإخفاقات الأفريقية.
ومع عدم الاعتراف بالمنافسة، أطلق ماكرون الإثنين، سلسلة "شعارات" لم يعد خافياً أنها انعكاس مخيّب لمجموعة من الإخفاقات الفرنسية في المستعمرات الأفريقية السابقة، يسعى الرئيس الفرنسي إلى تخفيفها، من خلال التعهد بالانتقال إلى عهد أكثر ثقافياً وتنموياً، وأقلّ عسكرياً.
دعا ماكرون إلى زيادة الاستثمار في قطاعات الصحة والزراعة والتعليم
ولكن حتى مع الخطاب الذي يأتي عشية جولة أفريقية للرئيس الفرنسي إلى 4 دول أفريقية لا تزال "صديقة"، وسط دومينو البلدان الأفريقية التي تواصل "طرد" الفرنسيين، خصوصاً في منطقة الساحل، لا يزال المشروع الجديد غامضاً، وسط تكهنات كثيرة بحجم الاختلاف بين الإليزيه ورؤية مؤسسة الجيش الفرنسي، لإعادة التموضع في أفريقيا، والاختلافات السياسية الفرنسية، حول العلاقة مع المغرب والجزائر.
ماكرون يرفض المنافسة في أفريقيا
وبلغة تختزل كل التراجع الفرنسي في القارة السمراء، رغم تأكيده عدم الشعور بـ"الحنين" لما يعرف بفرنسا – أفريقيا (فرانس أفريك)، المصطلح الذي لطالما لخّص العلاقة بين فرنسا ومستعمراتها السابقة، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الإثنين، في كلمة ألقاها حول السياسة الفرنسية الجديدة في أفريقيا، إلى التحلي بـ"التواضع والمسؤولية"، رافضاً "المنافسة" الاستراتيجية التي يفرضها، بحسب قوله، من يستقرون هناك مع "جيوشهم ومرتزقتهم"، في إشارة خصوصاً إلى روسيا ومجموعة "فاغنر" العسكرية المقربة من الكرملين، والمنتشرة خصوصاً في أفريقيا الوسطى ومالي.
وقال ماكرون: "يريد كثر دفعنا للدخول في منافسة، أعتبرها مفارقة تاريخية، يصل البعض مع جيوشهم ومرتزقتهم إلى هنا وهناك". وأضاف: "إنها طريقة فهمنا المريحة للواقع في الماضي. قياس تأثيرنا من خلال عدد عملياتنا العسكرية، أو الاكتفاء بروابط مميزة وحصرية مع قادة، أو اعتبار أن أسواقاً اقتصادية هي أسواقنا لأننا كنا هناك من قبل". وأقرّ الرئيس الفرنسي من قصر الإليزيه بـ"وجوب أن نبني علاقة جديدة متوازنة ومتبادلة ومسؤولة" مع دول القارة الأفريقية.
على الصعيد العسكري، سعى ماكرون إلى تخفيف التوترات مع دول غرب أفريقيا، معلناً أن "القواعد كما هي اليوم هي جزء من إرث الماضي". وقال إن هذه القواعد "لن تغلق بل سيعاد تنظيمها"، مؤكداً أن "التحول سيبدأ خلال الأشهر المقبلة عبر خفض ملموس لعديدنا وحضور أكبر في القواعد العسكرية لشركائنا الأفارقة".
وحول هذه القواعد، التي سمّاها "أكاديميات"، لفت الرئيس الفرنسي إلى أنه سيصار إلى "أفرقتها"، واعداً بأن "تبذل فرنسا مزيداً من الجهد على صعيد التدريب والتجهيز". وإذ شدّد على أن أفريقيا ليست "منطقة نفوذ" ويجب أن ننتقل من "منطق" المساعدة إلى منطق الاستثمار، أصر رغم ذلك على أن باريس "تفخر" بسجلّها في مالي، وستواصل العمل على ألا يكون هذا البلد الواقع في منطقة الساحل الأفريقي منطلقاً لجعل الوضع الأمني بمنطقة الساحل أكثر تدهوراً. واعتبر أن بعض الدول، ستتخلى عاجلاً أم آجلاً عن "فاغنر"، لأنها ستعلم أن هذه الشركة لن تفعل سوى "زرع التعاسة"، واصفاً مجموعة المرتزقة الروسية بأنهم "مجموعة مرتزقة مجرمون، والتأمين على الحياة لأنظمة فاشلة وللانقلابيين".
وأكد الرئيس الفرنسي عزمه على مواصلة زياراته للقارة الأفريقية "كل 6 أشهر تقريباً لا بل أقل"، كما أكد أنه سيواصل "المضي قدماً" لتعزيز علاقة فرنسا بكل من الجزائر والمغرب، بعيداً من "الجدل" الراهن. وقال في هذا الصدد: "سنمضي قدما. المرحلة ليست الأفضل لكن هذا الأمر لن يوقفني"، منتقداً من "يحاولون المضي في مغامراتهم" ولديهم "مصلحة بألا يتم التوصل" إلى مصالحة مع الجزائر. كما أعلن "قانوناً إطاراً" من أجل "تنفيذ عمليات إعادة جديدة" لأعمال فنية "للدول الأفريقية التي تطلب ذلك".
ويباشر الرئيس الفرنسي اليوم الأربعاء، جولة تشمل 4 دول في وسط أفريقيا، هي الغابون وأنغولا والكونغو وجمهورية الكونغو الديمقراطية. وخلال محطته الأولى في ليبرفيل، سيشارك في قمة حول حفظ غابات حوض نهر الكونغو.
فرنسا تراجع سياستها: الاستثمارات أولاً
ويأتي خطاب ماكرون، بعد نهاية عملية "برخان" لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، واضطرار القوات الفرنسية إلى الانسحاب من مالي وبوركينا فاسو اللتين يحكمهما مجلسان عسكريان مع عداء واضح (سياسي وشعبي) تجاه فرنسا.
وتنشر فرنسا حالياً نحو 3 آلاف عسكري في المنطقة خصوصاً في النيجر وتشاد بعدما كان عددهم 5500 عنصر قبل فترة قصيرة. وهي تخطط في الوقت الحالي لإعادة نشر عسكرييها متوجهة نحو دول خليج غينيا التي عمّتها موجة "جهادية"، وحيث يلقى أيضاً النفوذ الفرنسي والغربي عموماً منافسة كبيرة من الصين وروسيا. وقد امتنعت ثلاث من الدول الأربع التي سيزورها ماكرون، وهي الغابون والكونغو وأنغولا يوم الخميس الماضي، عن التصويت على مشروع قرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة يطالب بانسحاب القوات الروسية من أوكرانيا.
وصف ماكرون القواعد العسكرية في أفريقيا بالأكاديميات وقال إنها ستعتمد أكثر على التدريب
ويأتي اعتراف ماكرون بأن أفريقيا لم تعد "الحديقة الخلفية" لبلاده، في وقت تُراجع فيه جميع الدول الغربية، ومنها الولايات المتحدة، علاقتها وسياساتها في أفريقيا، حيث يتزايد حجم التحدي الأمني، على وقع التطرف والتغير البيئي والفقر والبطالة.
وتواجه السياسة الفرنسية في أفريقيا، اليوم، أكبر تحدياتها منذ عقود، إذ لم تعد العلاقة محكومة فقط بمدى التعاون بين باريس والقادة الأفارقة، بل بشعور متزايد لدى الأفارقة بالنفور والعداء تجاه الدولة المستعمرة السابقة، مع وعي شعبي أكبر، لمدى الفشل الفرنسي وسياسة شمال – جنوب المبنية على عدم التكافؤ، والإرث الاستعماري السلبي.
ورغم عدم الاعتراف بالمنافسة، فقد أقرّ ماكرون، حين دعا الشركات الفرنسية العاملة في أفريقيا إلى "الاستيقاظ" والانخراط في المعركة. وكان ماكرون قد حاول في السابق مراراً زيادة الاستثمار الفرنسي في القطاع الخاص الأفريقي، وهو يسعى إلى تعزيز الانخراط الفرنسي في قطاعات الزراعة والتغذية في أفريقيا، وتمتين العلاقات الفرنسية بدول أفريقية متحدثة باللغة الإنكليزية، يراها أقل عداءً لباريس.
وتدرك باريس عموماً حجم التحديات الأفريقية، خصوصاً لجهة التمويل الحكومي الذي يتراجع، ومع عدم حصول باريس على ملاقاة مشجّعة مالية من ألمانيا ودول أوروبية أخرى، تختار اليوم بناء سياستها الخاصة في القارة السمراء.
وعموماً، سواء أكان ذلك مع الجزائر، أم دول أفريقية أخرى، يعتبر الرئيس الفرنسي نفسه أنه تمكّن طوال ولايته من هزّ "تابوهات" (محرمات) في العلاقة، ربما لم تأتِ أكلها بعد، لكنها تظلّ بنظره مدماكاً لـ"فتح" جديد في العلاقات، رغم عدم حياد باريس عن سياستها العميقة تجاه القارة بشكل جذري بعد. وحول ذلك، أقر ماكرون بإخفاقات ولايته الأولى، متحدثاً عن ضرورة "التواضع"، ما دفعه إلى عزمه عقد قمة "شمال – جنوب" في باريس في الصيف المقبل.
وتختصر استراتيجية ماكرون، عشية جولته الأفريقية الجديدة، حجم المنافسة بين الشرق والغرب في القارة، حيث الاستثمار في القطاع الخاص يفترض أيضاً التعامل مع عشرات الدول الأفريقية التي تعتمد على القمح الروسي والاستثمار الصيني الهائل في البنى التحتية. هذا الأمر الذي يشكل تحدياً كبيراً لفرنسا يتخطى بأشواط التحدي العسكري، و"الفخ المالي الذي من الممكن أن يتكرّر"، بحسب تعبير ماكرون.
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز)