ماكرون ولوبان: الطريق إلى إقناع الناخب الفرنسي

23 ابريل 2022
الدور الثاني للرئاسية يشغل صحف فرنسا (Getty)
+ الخط -

اختُتمت أمس الجمعة في فرنسا الحملة الانتخابية لكل من المُرشَّحَين للدور الثاني لرئاسيات 2022، إيمانويل ماكرون ومارين لوبان. وفي مثل هذا اليوم، السبت، يصمت المرشّحان لتتكلّم بدلاً منهما أطروحاتُ برنامجيهما اللذين قدّماهما للفرنسيين طوال أسابيع، خصوصاً المتردّدين منهم، فهؤلاء هم من سيقرّرون من سيقود فرنسا في السنوات الخمس المقبلة.

اختار ماكرون في اليوم الأخير من حملته أن يتحرّك في منطقة أوكسيتاني (غرب فرنسا) وهي منطقة زراعية أساساً ما يوحي بكونه يقدّم نفسه في صورة رجل السياسة المشغول بفرنسا الأعماق، في محاولة لتفنيد الصورة التي يروّجها عنه خصومه بكونه مرشّح الشركات الكبرى والبنوك.

أما مارين لوبان فقد كان من الواضح أنها تريد إظهار ندية تجاه منافسها، وكسر الأثر النفسي لتوقّعات نتائج سبر الآراء، فقد اختارت أن تختتم حملتها في أقصى الشمال الفرنسي، تحديداً في مدينة أبيفيل، أي غير بعيد عن مدينة توكيه التي يقيم فيها ماكرون حين يكون خارج القصر الرئاسي، وحيث يُدلي بصوته، وكأن لوبان بذلك تقول بشكل رمزي إنها ستنافس ماكرون ليس فقط على أصوات المتردّدين بل حتى على من صوّتوا له في الدور الأول.

منذ أسبوعين، كان ماكرون قد أحرز نسبة 27.85 %، فيما حازت لوبان الرتبة الثانية 23.15 %، ويفترض أن كليهما سيحافظ على قاعدته الأولى التي لن تكون كافية ما لم يستقطب كل مرشّح أصوات ناخبين كان خيارهم الأساسي مرشحاً آخر في الدور الأوّل.

فُرص الولاية الثانية

يبدو ماكرون في موقع أفضل من منافسته، حيث إن معظم منافسي الدور السابق يميلون إلى تجديد ولايته، وأبرزهم صاحب الموقع الثالث في الدور الأول جان لوك ميلانشون، والذي دعا - منذ إعلان نتائج الدور الأول ناخبيه - إلى "عدم التصويت إلى لوبان"، كما أن طموحاته للوصول إلى قيادة الحكومة المقبلة قد تدعوه إلى حرص أكبر على فوز ماكرون، فسيناريو الحصول على صلاحيات واسعة في حكومة ما بعد انتخابات 2022 غير ممكن مع رئيسة يمينية.

ومثل ميلانشون، تقف الأحزاب السياسية التقليدية (الجمهوريون، الحزب الاشتراكي، الإيكولوجيون) إلى جانب ماكرون، رغم مواجهتها بشراسة لبرامجه خلال الدور الأول، فيما تظل لوبان مدعومة من شريحة واسعة من الأصوات ذهبت إلى مرشّح اليمين المتطرف إريك زمور (حصّل 7.07 % في الدور الأول).

يبقى أن انتخابات 2022 محكومة بمتغيّرات عديدة، أوّلها أن الجولة الأولى شهدت نسبة عالية من الامتناع عن التصويت، وهؤلاء لو صوّتوا في الدور الثاني لا يمكن توقّع خياراتهم. كما أن توصيات زعماء الأحزاب لا تعني بالضرورة أن الناخبين سيمتثلون للتوجيهات.

ما تقوله الاستطلاعات

من خلال مؤشرات سبر نوايا التصويت، تقدّم ماكرون على منافسته في جميع الاستطلاعات المنشورة خلال الأسبوع الذي سبق تصويت الأحد. لكن يبقى كل ذلك مجرّد توقعات على الورق بالنظر إلى العوامل الكثيرة التي يمكنها أن تقلب الحسابات.

تأتي جولة الدور الثاني بعد أيام من ملاحظة أن مؤسّسات سبر الآراء قد قدّمت نتائج دقيقة لما أفرزته الصناديق في جولة الدور الأول، حيث إن مؤسسات سبر الآراء الكبرى (إبسوس، أوديكسا، بي في آ، إيلابل، أوبينون واي..) اتفقت على أن الجولة الثانية ستجمع ماكرون بلوبان، وأكثر من ذلك قدّمت في معظمها توقعات قريبة للغاية من النسب التي تحقّقت في الواقع.

وفي خصوص الدور الثاني، تتفق استطلاعات الرأي في فرنسا على أن ماكرون سيتفوّق غداً الأحد، مع اختلافات حول الفارق مع منافسته. آخر الاستطلاعات التي نُشرت مساء أمس الجمعة تعطي ماكرون فارقاً مريحاً نسبياً، حيث وصل إلى تقديرات بـ 57% من الأصوات.

مُتابع أرقام سبر الآراء يمكنه أن يلاحظ بسهولة تقدّم ماكرون التدريجي بمرور الأيام، فعشية إعلان نتائج الدور الأول كانت توقعاته تتراوح بين 52% و54%، لكن المواجهة التلفزيونية التي أقيمت يوم الأربعاء الماضي كان أثرها مباشراً على شريحة من المستجوبين، حيث بدا ماكرون أكثر إقناعاً من منافسته.

أوراق لوبان 

لا يعني كل ذلك أن الانتخابات الرئاسية الفرنسية باتت محسومة، إذ توجد عناصر كثيرة يمكنها أن تقلب الطاولة، بعضها قد يكون ضربة حظ مثل إمكانية تغيّب نسبة من مصوّتي الدور الأول بسبب كون الأحد 24 نيسان/ إبريل يقابل فترة عطل ما يعني أن كثيرين قد يكونون بعيدين عن مكتب الاقتراع، كما أن نسبة الممتنعين عن التصويت في الدور الأول قد يقرر جزء منهم التصويت في آخر لحظة بما يمكن أن يذهب بالأمور في اتجاه غير متوقّع.

لكن لمارين لوبان أوراقا أخرى يمكنها التعويل عليها، منها التصويت على أساس نسويّ وهو ما ظهر في خطاب حملتها، كما أنها يمكنها أن تواصل اللعب على ورقة نجحت في الدور الأول وهي تغذية نزعة سياسية-اجتماعية قائمة على مقولة: "كل شيء إلا ماكرون"، وإن كان الرئيس الحالي قد حرص خلال حملته على سدّ هذه الثغرة.

مهما يكن من مآلات الانتخابات الحالية، فقد كانت فرصة كي يضخ اليمين المتطرّف مقولاته التي نجحت في نسف تقاليد ثابتة في التاريخ السياسي الفرنسي (انهيار العائلات السياسية الوسطية بات واضحاً من اليمين إلى اليسار)، وقد حدث ذلك بوسائل الديمقراطية وتحت حمايتها، وهو ما يعني أن اليمين سيظل رقماً صعباً في الرهانات اللاحقة، وأولها الانتخابات التشريعية في حزيران/ يونيو المقبل.

تكتيكات ماكرون 

يمكن القول إن جزءاً كبيراً من الانتخابات الفرنسية من صنع الخطة التواصلية التي اتبعها فريق ماكرون خلال هذه الحملة، فقد علّق الرئيس الحالي زخم فترة الحملات الانتخابية وسجالاتها حين لفّ ترشّحه لولاية ثانية بضبابية جعلت الحروب الكلامية تتجه بعيداً عنه، وبعثر الكثير من أوراق المرشّحين الذين كانوا يستعدون لمواجهته، وقد نجح في ذلك إلى حد كبير.

كان ماكرون يعلم من البداية أن العائلات السياسة الكبرى لديها ما يجمعها به أكثر من منافسته، لكن الغضب الشعبي على سياساته خلال الأعوام الماضية سيدفعها إلى أن تكون أولويتها توجيه سهامها ضدّه، وهو ما كان واضحاً في توجّهات حملة جان لوك ميلانشون في بداياتها، لكن فرملةَ حدّة المواجهات في الدور الأول جعل من اليسار اليوم الجسر الذي يمهّد طريق ماكرون لولاية ثانية.

أما في رهان الدور الختامي للرئاسية، فقد عرف ماكرون أي الأوتار يلامس ليُبعد الكثير من الأصوات عن منافسته، حيث ركّز على درايته بتسيير دواليب الدولة مثبتاً أن معظم شعاراتها برامج غير قابلة للتنفيد، وجرّ لوبان إلى مزيد من تخويف الفرنسيين من معارك الهوية، كما استفاد بشكل مكثّف من الحرب الأوكرانية، حين ركّز على الدعم الروسي لمنافسته والذي يأتي على غير هوى الفرنسيين اليوم. 

صراع البرامج

 منذ الدور الأول، كانت صحيفة "لوموند" قد وضعت على ذمة قرائها زاوية بعنوان "مقارنة البرامج" يمكن من خلالها للقارئ أن يطّلع بشكل مبسّط، وفي نظرة واحدة تقريباً، على موقف كل طرف من نقطة أساسية تهمّ الرأي العام.

في الدور الثاني، قدّمت الصحيفة سبعين نقطة كان من الواضح أن المرشحين الرئاسيين يقفان على طرفي نقيض بخصوصها. من أبرز هذه النقاط موقع فرنسا في أوروبا، ويرى ماكرون أن بلاده تمثّل عمود قوة الاتحاد، فيما ترى لوبان أن أوروبا تخنق السيادة الفرنسية، وكلاهما يتخذ ذات الموقف تقريباً حول علاقة فرنسا بحلف شمال الأطلسي. وحول المسألة الأوكرانية، يرى ماكرون واجب فرنسا الأخلاقي في دعم أوكرانيا وتشديد العقوبات على روسيا، فيما تركّز منافسته على عدم مشاركة فرنسا المباشرة في الحرب، والوصول إلى حل عبر الديبلوماسية وحدها.

في المسائل الداخلية، تقارن "لوموند" بين توجّه ماكرون نحو مفاوضات حول مزيد استقلالية جزيرة كورسيكا، فيما ترى لوبان أن هذا الملف محسوم وأنه لا يمكن التسامح مع النزعة الاستقلالية للجزيرة. وحول مسألة التشدّد الديني، يقدّم ماكرون طرحاً مخابراتياً، فيما تعتمد لوبان على تشديد القوانين ضد "بث إيديولوجيا الإسلام المتشدد".

وحول حق اللجوء، يطرح ماكرون فرنسا كبلد حاضن لكل من يجد نفسه تحت تهديد نظام قمعي أو بؤرة توتّر، فيما تتشدّد لوبان في ذلك مقترحة أن تُدرس ملفات اللجوء من قبل القنصليات أي خارج فرنسا. وبخصوص منح الجنسية الفرنسية، فلا يضع ماكرون غير شرط إتقان اللغة، أما زعيمة اليمين فتودّ أن تراجع بعض إجراءات منح الجنسية بشكل شبه محسوم مثل الزواج بقرين فرنسي والملكية العقارية في فرنسا، كما تطرح فكرة إسقاط الجنسية بعد منحها. 

من النقاط القليلة التي اتفق عليها ماكرون ولوبان هي تقليص حق الإقامة في فرنسا، وفيما يذهب ماكرون إلى تطوير النظام الحالي من خلال تتبّع مسار الاندماج المهني للمعنيين بأوراق الإقامة، تذهب لوبان أبعد باقتراح إجراءات الطرد من التراب الفرنسي لكل من لا تتوفر فيه شروط اللغة والاندماج المهني المبكّر (أقل من سنة).

سيناريوهات مفتوحة

إذا كان ماكرون هو الأقرب إلى عهدة رئاسية جديدة، فإن ذلك لا يعني أن الولاية الثانية ستكون متشابهة مع الأولى، وقد كان التغيير أحد أركان خطاب حملته الانتخابية حيث أشار إلى إمكانية تغيير الفريق الحكومي مباشرة بعد نهاية الانتخابات الرئاسية.

لكن الأمر قد لا يكون خياراً، بل قد تفرضه تحوّلات سياسية جديدة تأتي مع الرهان المقبل وهو الانتخابات التشريعية في حزيران/ يونيو المقبل، والتي باتت تسمى في المتداول الإعلام الفرنسي "الجولة الثالثة" للانتخابات الرئاسية بما أنها ستجمع مجدّداً نفس المتنافسين الأساسيين وهم: "حركة الجمهورية إلى الأمام" (حزب ماكرون)، و"التجمع الوطني" (لوبان)، و"فرنسا المتمرّدة" (ميلانشون)، كما قد يكون هذا الرهان فرصة لترتيب أوراق الأحزاب القديمة مثل "الجمهوريين" و"الحزب الاشتراكي".

في كل الأحوال، فإن توزيعاً للأصوات قريباً من الذي أفرزته صناديق الدور الأول من الرئاسية - وهو السيناريو المرجّح - سيفرض على الرئيس (أياً كان) منح حقائب وزارية كثيرة في الحكومة المقبلة لأطراف من خارج حزبه لتأمين النصاب البرلماني الملائم. 

هنا تظهر حظوظ كبيرة لميلانشون وتوجهاته اليسارية التي يمكنها أن تتعايش مع وعود ماكرون بإضفاء بُعد اجتماعي على سياساته، وقد بدا أن زعيم اليسار الفرنسي واع بهذا الدور الذي يمكن أن يلعبه في فرنسا ما بعد انتخابات 2022، بل إنه يأمل أن تُنهك الحملات الانتخابية للدور الثاني للرئاسية منافسَيه المباشرين مما قد يضعه في موقع قوة عند التفاوض في تشكيل حكومة مع ماكرون، لكن من المستبعد أن يدخل الحكومة في حال وصلت لوبان إلى قصر الإليزيه حيث سيفضّل ميلانشون تزعّم المعارضة داخل البرلمان.

أيضاً، يمكن لماكرون أن يستفيد من رغبة الأحزاب المتمرّسة بالحكم ("الجمهوريون" و"الحزب الاشتراكي) في الحفاظ على ماء الوجه، فيقدّم لها عروضاً سخيّة للمشاركة في الحكم رغم أن الشعب الفرنسي قد أظهر بشكل واضح أن هذه الأحزاب لم تعد تقدّم له تصوّرات حلول لأبرز القضايا المطروحة اليوم. وتظل هذه الأحزاب التي فشلت في الرئاسية قادرة على تحقيق نتائج أفضل في الانتخابات التشريعية نظراً لعدم تمركز هذا الرهان حول الشخصيات كما الرئاسية.

لن يكون لزعيمة اليمين نفس حرية الحركة، مقارنة بماكرون، داخل المشهد السياسي في حال فازت بالانتخابات الرئاسية، حيث لا يساندها بشكل معلن سوى عدد من الأحزاب الصغرى، أو الأحزاب القديمة التي هي اليوم في مرحلة إعادة بناء المشروعية السياسية، وهو ما يعني أنها ستعاني كي توفّر الأدوات التي تحتاجها لتنفيذ سياساتها، أي حكومة قوية ومستقرة ومتجانسة، وبرلمان متجاوب.

في ظل هذا الوضع، قد تجد لوبان مخرجاً عبر التحالف مع خصم اليوم، أي استدراج أعضاء حزب ماكرون إلى بناء فريق حكومي بعد الاتفاق على تسوية للملفات المختلف عليها مثل السياسة الخارجية وقوانين الهجرة، غير أن مثل هذا السيناريو سيضع البلاد أمام المجهول، إذ يعبّر عن صعود النزعة البراغماتية على حساب مبادئ كل حزب، وربما على حساب القيم الجمهورية التي طالما حرصت فرنسا على الدفاع عنها.

المساهمون