ماكرون وبايدن… حليفان غير متحالفين

06 ديسمبر 2022
اتفق ماكرون وبايدن على أنه حان الوقت للتنسيق بين الدولتين (درو أنغرير/Getty)
+ الخط -

"تحسن مذهل في العلاقات الفرنسية ــ الأميركية"، هكذا وصفت قناة "سي أن أن" الأميركية نتائج زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى واشنطن، بعد أكثر من عام على أزمة الغواصات الأسترالية، التي فجرت أزمة كبيرة بين باريس وواشنطن.

وسلطت بعض وسائل الإعلام الأميركية الضوء على التفاهم بين ماكرون ونظيره الأميركي جو بايدن. لكن الأسئلة الكبيرة بقيت مطروحة: هل يكفي العشاء البالغ الودية لنسيان احتكاكات الماضي القريب، والنزاعات الاقتصادية التي تتفاقم؟ ومهما كان الأمر، فقد أظهر رئيسا الدولتين حسن نيتهما. بايدن الذي غامر ببضع كلمات بالفرنسية، وماكرون الذي بالغ في إيماءات المودة.

وسائل الإعلام الأميركية تركز على الطعام

الخبر الذي طغى في وسائل الإعلام الأميركية هو عن روعة الاستقبال الذي حظي به ماكرون. في صحيفة "واشنطن بوست" حضرت الزيارة في أكثر من تقرير وتعليق، لكن أيضاً تم نشر خبر عن عشاء الدولة في قسم "لايف ستايل". 


ماكرون يتصرف بوصفه الزعيم الأوروبي الأهم اليوم
 

وانصب التركيز بشكل أكبر على الكريستال ولون المفارش. وتم تخصيص فقرتين لقائمة الطعام الشهية، التي حضر فيها النبيذ والجبن الأميركيين حصرياً. وفي قناة "فوكس نيوز" الأميركية المحافظة، جرى الحديث عن كلفة العشاء.

في المحصلة، اتفق الطرفان على أنه حان الوقت للتنسيق، حتى في ما يتعلق بالموضوع الأكثر إثارة للجدل على جدول الأعمال، وهو سياسة بايدن في مجال الطاقة النظيفة، والتي تعطي الأولوية بلا مواربة للوظائف الأميركية والمنتجات "المصنوعة في الولايات المتحدة"، ومع ذلك اتخذ خطوة إيجابية نحو أوروبا، عندما وعد بإصلاح "عيوب" قانون خفض التضخم.

ومن غير الواضح إلى أي مدى ستذهب إدارة بايدن لحل المشكلات مع الأوروبيين على المستوى الفني، حيث لم تضع الفرق من كل جانب التفاصيل بعد، لكن "الرئيس الأميركي قال إن الزعيمين اتفقا على السماح لفرقهما بمتابعة قراراتهما".

وحسب مصادر فرنسية، فقد تم بالفعل تشكيل فريق عمل برئاسة كبار المسؤولين من البيت الأبيض والمفوضية الأوروبية للتعامل مع مخاوف أوروبا بشأن الإعانات الأميركية. 

وأعلن ماكرون، في مقابلة مع شبكة "سي بي أس" الأميركية، بثت الإثنين، أنه اتفق مع بايدن على "حل" المشكلات الناجمة عن تشريعات تتضمن دعم المنتجات الأميركية الصنع، وقال: "أستطيع أن أخبركم بأن ما قررناه مع الرئيس بايدن هو حل هذه المشكلات على وجه التحديد. وهي قابلة للحل".

إلا أن بايدن، الذي سيواجه قريباً مجلساً نيابياً يسيطر عليه الجمهوريون، من غير المرجح أن يتزحزح عن أحد إنجازاته المميزة في مجال الصناعة الخضراء، بعد حصول بعض التوتر مع أوروبا بسبب الإعانات التي توفرها الحكومة الأميركية للمنتجات المصنوعة في الولايات المتحدة.

وإلى جانب هذا الملف، فإن قائمة طويلة من القضايا كانت مدرجة على أجندة زيارة ماكرون، من أهمها الحرب الروسية على أوكرانيا، وكيفية الحفاظ على الدعم الاقتصادي والعسكري لكييف، في الوقت الذي تعمل فيه القوات الأوكرانية على صد القوات الروسية، وكل ما يتعلق بتأثيرات الحرب على أوروبا ومخاوفها من التضخم وارتفاع الأسعار واستيراد الطاقة، والملفات التجارية والشراكة بين ضفتي الأطلسي.

كما تطرقت النقاشات إلى النفوذ الصيني المتزايد في المحيطين الهادئ والهندي، والطموحات العسكرية الصينية، إضافة إلى المفاوضات المجمدة مع إيران حول الملف النووي، والمخاوف الفرنسية بشأن الأمن والاستقرار في منطقة الساحل بأفريقيا.

وكانت قد سبق الزيارة أحاديث في كواليس الدبلوماسية الفرنسية عن أهمية خاصة للزيارة التي جرى التحضير لها منذ الصيف الماضي، بعد نجاح ماكرون في الحصول على ولاية رئاسية ثانية. وقال مصدر في وزارة الخارجية الفرنسية، لـ"العربي الجديد"، إنها تختلف كلياً عن تلك التي قام بها ماكرون عام 2018 خلال رئاسة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وكانت بلا نتائج من الناحية العملية.

وأضاف المصدر أن ماكرون يتصرف بوصفه الزعيم الأوروبي الأهم اليوم، بعدما غادرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الحكم، ولم يتمكن خلفها أولاف شولتز من أن يملأ الفراغ الذي تركته على المستوى الدولي، بالإضافة إلى تهميش بريطانيا نفسها، بخروجها من الاتحاد الأوروبي، وظهورها كدولة مضطربة، غيرت ثلاثة رؤساء حكومة خلال فترة قصيرة.

وأضاف المصدر الأوروبي أن ماكرون هو المحرك للاجتماع العالمي الموسع الذي انعقد في براغ في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وضم قادة دول الاتحاد الأوروبي المرشحة لعضوية الاتحاد، وهو أكبر تجمع دولي يعقد في وقت تزداد فيه الاستقطابات حدة بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا وأزمة الطاقة.

وقال المصدر: لا يوجد اليوم زعيم أوروبي يستطيع أن يتحدث ويحاور باسم أوروبا كما ماكرون، الذي رفع شعار "الحكم الذاتي الاستراتيجي الأوروبي" المستقل عن الولايات المتحدة خلال أزمة الغواصات مع أستراليا التي حلت فيها أميركا محل فرنسا، ولم تتراجع عنها واشنطن رغم أنها اعتبرت أنها مخطئة وتصرفها "أخرق" وقدمت اعتذاراً عنها لباريس.

وكانت الأزمة بين فرنسا وأميركا قد تفجرت خريف 2021 على أثر اتفاق التعاون الاستراتيجي بين أميركا وبريطانيا وأستراليا، والصفقة التي عقدتها أستراليا لشراء غواصات نووية من أميركا، متراجعة عن اتفاق مسبق مع فرنسا للغرض نفسه. وأدى ذلك إلى أزمة حادة بين باريس وواشنطن، وصلت إلى حد أن فرنسا استدعت سفيرها من واشنطن، وشنت حملة إعلامية غير مسبوقة ضد أميركا.

وفي نهاية العام الماضي جرى التوصل إلى تبريد للأجواء، ما ساهم بعودة السفير الفرنسي فيليب إتيان، وتخفيف حدة التصريحات الرسمية.


يرى خبراء أوروبيون أنه ليس لدى ماكرون ما يمكن أن يبيعه لأميركا بخصوص أوكرانيا

ورغم حصول عدة لقاءات بين بايدن وماكرون إلا أن الأجواء لم تعد إلى سابق عهدها، وجاءت حرب روسيا على أوكرانيا لتجمد البحث بكل الخلافات. ولكن استمرارها واحتمال أن تطول دفع البلدين إلى فتح الملفات من جديد، خصوصاً أن المسألة الأوكرانية طرحت مشاكل جديدة، باتت تتطلب حلولاً عاجلة وتفاهمات غير تلك التي جرى العمل بها في السابق، سياسياً، اقتصادياً، وأمنياً.

مسافة بين أميركا وفرنسا بخصوص أوكرانيا

وبخصوص أوكرانيا تحديداً، تبقى هناك مسافة بين الموقفين الأميركي والفرنسي، رغم بعض التناغم حول ترك خيار المحادثات مع روسيا للجانب الأوكراني. وكان بايدن وكبار مسؤوليه قد كرروا أنهم لن يجبروا أوكرانيا على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، فيما قال ماكرون إن الأمر متروك لأوكرانيا لتقرير شروط وتوقيت محادثات السلام مع روسيا.

لكن هناك مخاوف من ضغط فرنسي على أوكرانيا للقبول ببعض المطالب الروسية، وهذا ما دفع دول وسط وشرق أوروبا إلى الولايات المتحدة للحصول على الحماية "بدون باريس كوسيط"، خصوصاً أن بعض دول البلطيق لا تزال تشعر بالقلق من أن تصبح هدف روسيا المقبل.

ويرى خبراء أوروبيون أنه ليس لدى ماكرون ما يمكن أن يبيعه لأميركا بخصوص أوكرانيا، خصوصاً أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أعطى الأولوية لصديقه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في ما يتعلق بمحادثات السلام مع أوكرانيا، وتسهيل عملية نقل الحبوب وتوزيع الغاز الروسي.

في المقابل، لم يسلح الرئيس الروسي ماكرون بأي ورقة يمكن له من خلالها أن يقدم نفسه كوسيط محتمل، رغم أنه حافظ على الحوار المفتوح مع بوتين، وأعلن ذلك بإصرار خلال مؤتمره الصريح مع بايدن، الذي بقي عند شرط انسحاب القوات الروسية من أوكرانيا قبل أي حوار أميركي على مستوى عالٍ مع بوتين.

يبدو أن لعبة "الشرطي الطيب والشرطي السيئ"، حسب وصف صحيفة "نيويورك تايمز"، التي تجمع بين تواصل ماكرون مع موسكو وتصميم بايدن على حرمان بوتين من الانتصار، سوف تستمر في المدى المنظور، مدعومة بتصميم مشترك على تجنب التصعيد.

وإذا كانت هناك من نتيجة تسجل لهذه الزيارة فهي التأكيد على أن واشنطن وباريس حليفان غير متحالفين من وجهة النظر الفرنسية. إلا أنه في الوقت الذي تحتاج فيه الولايات المتحدة إلى أوروبا قوية، فإنه ليس لديها محاور أكثر قوة من فرنسا، ولذلك فإن زيارة الدولة التي قام بها ماكرون للعاصمة الأميركية مهمة من الناحية الرمزية، مثل عودة العلاقة عبر الأطلسي إلى مركز الاستراتيجية الأميركية في العالم. ومن الملاحظ أنه أول زعيم دولة يحصل على هذا التقدير منذ وصول بايدن للحكم، في 20 يناير/ كانون الثاني 2020، وليس المستشار الألماني أو رئيس الوزراء البريطاني.