بعد تحوّلها إلى مدينة منكوبة لا تفرق كثيراً عن غروزني الشيشانية وحلب السورية، بفعل القصف الروسي المتواصل منذ أسابيع للسيطرة عليها، باتت مدينة ماريوبول الأوكرانية ساحة لمعركة كبيرة ربما سترسم ملامح مستقبل الحرب الروسية على أوكرانيا.
وبعد استخدام أعتى أنواع الأسلحة الحديثة والصواريخ، وأسابيع من الحصار والتجويع، وجّهت روسيا إنذاراً نهائياً لإخلاء المدينة من المقاتلين الأوكرانيين والاستسلام، ما يعني الاستيلاء على المدينة الاستراتيجية وكبرى المدن الواقعة على بحر آزوف. لكن أوكرانيا رفضت الإنذار وأكدت الاستمرار في الدفاع عن المدينة التي يعيش فيها حالياً نحو 300 ألف مواطن من دون ماء وكهرباء، مع نفاد الأغذية والمياه الصالحة للشرب.
هدف استراتيجي ونقطة تحوّل
شكّلت ماريوبول هدفاً أساسياً منذ الأيام الأولى للحرب التي أطلقتها روسيا تحت اسم "العملية العسكرية الخاصة لحماية دونباس" في 24 فبراير/شباط الماضي، نظراً لأنها تقع ضمن الحدود الإدارية لمقاطعة دونيتسك الانفصالية قبل عام 2014، وفُرض حصار خانق على المدينة براً وبحراً.
وفي ضوء الحديث عن تعثّر في تنفيذ العملية العسكرية الروسية مع اقترابها من نهاية الشهر الأول، فإن الاستيلاء على ماريوبول يعدّ هدفاً استراتيجياً مهماً، يمنح الكرملين إمكانية لمناورة أكبر للانفتاح على تسويات سياسية، من دون أن يظهر أنه تنازل عن أهدافه المعلنة للحرب. فالسيطرة على المدينة تسمح لروسيا بربط شبه جزيرة القرم بممر بري مع باقي الأراضي الروسية عبر جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين، وتحويل بحر آزوف إلى بحر روسي مغلق، وبناء منطقة آمنة على الأراضي الأوكرانية في محيط شبه الجزيرة التي ضمتها روسيا في عام 2014، خصوصاً بعد سيطرتها على مقاطعة خيرسون وتقدّمها في ميكولايف من الجهة الشمالية الغربية للقرم.
الاستيلاء على ماريوبول يمنح الكرملين إمكانية لمناورة أكبر والانفتاح على تسويات سياسية
وفي هذه الحالة، فإنه يمكن لموسكو الوقف المؤقت للعمليات العسكرية في حال تلبية بعض مطالبها بشأن حياد أوكرانيا، وهو طلب باتت كييف جاهزة لتلبيته، والتعهد بعدم انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي. ومن المؤكد أن روسيا تعلم بأن هدف إبعاد "النازيين الجدد"، كما تسميهم، هو هدف فضفاض ويهدف أساساً إلى إيجاد مقاربات بين الحرب الوطنية العظمى (الاسم الروسي للحرب العالمية الثانية) والحرب التي تشنها على أوكرانيا، من أجل كسب التفاف شعبي روسي حول الاجتياح الحالي.
أما في حال عدم التوصل إلى حلول وسط، فإن الاستيلاء على ماريوبول يمنح الجيش الروسي "انتصاراً معنوياً" مهماً، ولو على حساب الدمار والدماء، ويسمح بزيادة الضغط على خاركيف وزاباروجيا وسومي من أجل السيطرة على مناطق أوسع في جنوب شرق أوكرانيا في الجهة الشرقية لنهر دنيبر.
مواصلة حصار هذه المدن الكبرى وتوجيه ضربات صاروخية للبنى التحتية، لإجبارها على الاستسلام، تزيد الضغوط على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من أجل القبول بالشروط الروسية، بسبب الكلفة البشرية والاقتصادية الباهظة لتدمير هذه المدن. وعلى أي حال، فإن قبول أوكرانيا بالاستسلام في ماريوبول، ربما يشكّل سابقة تسمح لروسيا بتكرارها في مدن أخرى في حال تعثر المفاوضات.
حرمان أوكرانيا من الصادرات وضغط على العالم
مع الدمار الهائل في ماريوبول، بات واضحاً أن مصانع التعدين الأساسية والميناء لم تعد صالحة للعمل لفترة طويلة، ما يعني توقف الصادرات الأوكرانية من الحديد والصلب لفترة طويلة. هذا الأمر يهدد الكثير من الصناعات العالمية، ويجبر الغرب على التفكير برفع العقوبات عن شركات التعدين الروسية التي لم تتأثر مصانعها البعيدة جغرافياً بالأعمال العسكرية، وزيادة الإقبال على استخدام ميناء نوفوروسيسك الروسي بديلاً عن مينائي أوديسا وماريوبول.
ماريوبول كانت ميناء أساسياً لصادرات أوكرانيا الزراعية، ما يعني تعمّق مشكلة سلاسل الإمداد لسنوات طويلة
وإضافة إلى توقف صادرات المعادن، فإن ماريوبول كانت ميناء أساسياً لصادرات أوكرانيا الزراعية، ما يعني تعمّق مشكلة سلاسل الإمداد لسنوات طويلة. وفي حال وافقت روسيا على حلول وسط بشأن إقليمي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليين مع الحكومة المركزية في كييف تقوم على إعادة إجراء استفتاء يمكن أن يتمخض عنه شكل من الحكم الكونفدرالي، فإن ذلك يعني أن إعادة تشغيل الميناء ستحتاج لاستثمارات ضخمة ووقت طويل.
ماريوبول مركز صراع دائم
تأسست ماريوبول للمرة الأولى في نهاية القرن السادس عشر، على بحر آزوف عند مصب نهري كاليموس وكالتشيك، وهي اليوم في عداد أكبر عشر مدن في أوكرانيا، ويبلغ عدد سكانها حسب إحصائيات عام 2021 قرابة 432 ألف مواطن. وبإضافة الكتل السكانية التي باتت ملاصقة لها، يصل عدد السكان إلى نحو 500 ألف مواطن.
صُنفت ماريوبول قبل الحرب إحدى أفضل مدن البلاد للعيش. وتناوب الأتراك والروس والقوازق على حكم المدينة، ودُمّر جزء كبير منها أثناء حروب الامبراطوريتين الروسية والعثمانية. أعيد بناء المدينة في عام 1778، واستقرت فيها أعداد كبيرة من اليونانيين الأرثوذوكس بعد طردهم من خانية القرم، وهو ما يفسر وجود جالية يونانية وازنة حتى اليوم.
وتعد ماريوبول من أهم مراكز التعدين في أوكرانيا، وهي مركز صناعي واقتصادي رئيسي في البلاد منذ تأسيسها، وازدادت أهميتها بعد بناء خط السكك الحديد في عام 1882، الذي ربطها مع مناجم الفحم في دونيتسك. وتحولت إلى أهم ميناء على بحر آزوف بعدما تم إنشاء ميناء ماريوبول التجاري الجديد ما بين عامي 1886-1889، وزاد عدد سكان المدينة باضطراد مع انتعاش التجارة. وتوجد فيها قنصليات لعدد من البلدان مثل اليونان وإيطاليا والنمسا والمجر وتركيا وبلجيكا وألمانيا وبريطانيا.