مأزق روسيا في أوكرانيا: سيناريوهات الخروج من الحرب

03 مارس 2022
الشرطة الروسية تعتقل أحد المحتجين ضد الغزو في موسكو (سيفا كاراجان/الأناضول)
+ الخط -

كما درجت العادة في أوكرانيا وقبلها في سورية، صعّد الجيش الروسي وتيرة قصفه على المدن الأوكرانية في اليوم الثامن للغزو الذي بدا في 24 فبراير/شباط الماضي، عشية الجولة الثانية من المفاوضات الروسية ـ الأوكرانية على الحدود البيلاروسية ـ البولندية، التي من المفترض أن تجري اليوم الخميس.

وسعت القوات المسلحة الروسية لفرض وقائع على الأرض لإجبار المفاوضين الأوكرانيين على تقديم تنازلات من أجل الخروج بأقل الخسائر من مأزق مركّب تواجهه موسكو أياً كانت نتائج العملية العسكرية، التي تواجه صعوبات على ما يبدو من خريطة التقدم حتى في مناطق الجنوب والشرق التي لم تكن متوقعة.

استنفد الجيش الروسي عملياً بنك أهدافه

 

وعجّل قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين توسيع نطاق الغزو الشامل لأوكرانيا، عشية اليوم الرابع من بداية الحرب، بوصول روسيا إلى استحقاق ضرورة تقديم رؤية واضحة للخروج من الحرب.

فمن دون هذه الرؤية يصبح تحقيق المزيد من الإنجازات العسكرية فائضاً عن الحاجة، بل قد يغدو مكلفاً جداً، ويعطي مفعولاً عكسيا بالحدّ من الخيارات المتاحة أمام موسكو حتى الآن، لجهة إبقاء الباب موارباً أمام حل دبلوماسي من خلال عملية تفاوضية مع كييف، تخرج منها روسيا بمكاسب سياسية، وإن كانت دون السقف الذي وضعته موسكو كهدف للجوئها إلى استخدام الخيار العسكري، وهو سقف قابل للنزول أكثر كلما طالت فترة الحرب، وما سيرافق ذلك من تداعيات على صعيد ردود الفعل الغربية العقابية.

الهدف المباشر والمعلن لروسيا من وراء حربها على أوكرانيا، كما تدّعي موسكو، هو تخليصها من "النازيين الجدد" المعادين لروسيا، ومنع انضمامها إلى عضوية حلف شمال الأطلسي، وتفكيك البنية العسكرية التي يعمل على إنشائها وتثبيتها الحلف على الأراضي الأوكرانية، والإبقاء على أوكرانيا كمنطقة عازلة بينها وبين الأطلسي، فضلاً عن منع أوكرانيا من انتاج السلاح النووي.

ويضاف إليها حماية الأقلية الناطقة بالروسية التي تتعرض لعمليات اضطهاد وإبادة حسب تصريحات الكرملين. أما على المستوى الاستراتيجي، ولعله الأهم في حسابات الكرملين، فهو خلق خريطة جيوسياسية جديدة، تكون روسيا قطباً رئيسياً وفاعلاً فيها، في عالم متعدد الأقطاب بعد ثلاثين عاماً من القطبية الأحادية الغربية بقيادة أميركية، كنتيجة لانهيار الكتلة الشرقية وانهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، وتوسيع عضوية الأطلسي وتمدده شرقاً نحو الحدود الروسية، وبناء منظومة أمنية أوروبية وعالمية تقطع مع تفرد الحلف.

فشل رهانات الحسم السريع

وكرس بوتين جهوده في العقدين الأخيرين من أجل إعادة الاعتبار لروسيا كقوة عسكرية هائلة، يحق لها فرض شروطها في منظومة الأمن في أوروبا والعالم. وأطلق بوتين عملية بناء شاملة لتحديث الجيش الروسي بالاستفادة من تجارب حرب القوقاز على جورجيا في عام 2008.

وفي تقدير الموقف عسكرياً، بعد الأيام الأولى من الحرب الروسية على أوكرانيا، استنفد الجيش الروسي عملياً بنك أهدافه على القواعد والمنشآت وغرف العمليات التابعة للجيش الأوكراني المراكز الأمنية الرئيسية، بضربات جوية مركزة وهجمات صاروخية.

وحتى نهاية اليوم الخامس للحرب، قالت وزارة الدفاع إنها استهدفت نحو 1400 هدف، وفي اليوم السادس 1502، ووصلت صباح اليوم الثامن إلى 1602 هدف حسب وزارة الدفاع الروسية. واستخدمت فيها صواريخ بالستية قصيرة ومتوسطة المدى من البر والبحر، فضلاً عن المدافع عالية الدقة وراجمات الصواريخ.

وكان ذلك مستغرباً من قبل محللين عسكريين وسياسيين على حد سواء، لأن الاستثمار السياسي باللجوء إلى الخيار العسكري كان يستلزم التدرج في شدة الضربات واتساعها والتراخي فيها زمنياً بشكل نسبي، إلا إذا كان الكرملين قد راهن على أن عامل الصدمة يمكن أن يجبر الحكومة الأوكرانية على الاستسلام مبكراً، وهو تكتيك لا يخرج عن سياق العقيدة العسكرية الروسية ضد خصم تقليدي.

أياً كانت الأسباب والدوافع، فقد كشفت وقائع العمليات العسكرية الروسية فشل الرهان على الحسم سريعاً، وبات واضحاً أن الكرملين أصبح أمام مأزق مزدوج على المستويين العملياتي والتكتيكي للحرب.

كشفت وقائع العمليات العسكرية الروسية فشل الرهان على الحسم سريعاً

 

وفي حال عدم قدرة الجيش الروسي على حسم الصراع بسرعة، فإن استمرار العمليات العسكرية يعني الدخول في حرب مدن، ستكون كلفتها البشرية عالية على الطرفين الروسي والأوكراني، كما ستشكل تحدياً للجيش الروسي بزيادة الأعباء على كتائب النخبة في القوات البرية وقوامها جنود متعاقدون ومهنيون محترفون، وزيادة الأعباء أيضاً على القوات المحمولة جواً أو قوات العمليات الخاصة الروسية وأفواج وألوية مشاة البحرية، علماً بأنها كلها معدة لتنفيذ عمليات قتالية خاطفة. كما أن القوات البرية الروسية ستفقد في حرب المدن ميزة دعم النيران المطلقة، ولن يعوضها عن ذلك تفوقها العددي.

بعيداً عن مسرح العمليات العسكرية، الأرجح أن يواجه الكرملين موجة احتجاجات واسعة داخل البلاد في حال ارتفعت الخسائر في صفوف المدنيين الأوكرانيين والجنود الروس على حد سواء.

وعلى الرغم من أن التظاهرات لم تكن كبيرة بعد القيود على التظاهر وعمليات الاعتقال الواسعة، وإمكانية محاكمة المحتجين، فإن قرب الشعبين الروسي والأوكراني عرقياً ودينياً يفتح الباب أمام زيادة حجم التظاهرات في المدن الروسية، وانضمام مزيد من الشخصيات العامة الأكاديمية والثقافية والفنية لجملة ايقاف الحرب.

 

هل أخطأ الكرملين تقدير الرد الغربي؟

تؤكد مجريات الأوضاع منذ اليوم الثالث للحرب، أن الكرملين أساء تقدير نوعية وحجم رد الفعل الأطلسي والأوروبي بعد اندلاع الأعمال القتالية على نطاق واسع، وربما بنى تقديره على ردود الفعل الأولية في مرحلة الحشود والساعات الأولى من الضربات الجوية والهجمات الصاروخية الروسية. فقد اتسمت المواقف الأوروبية والغربية بداية بالتردد في فرض عقوبات قاسية على موسكو. 

وبدت تلك المواقف، لا سيما الأوروبية، غير موحدة، لكنها سريعاً ما تماسكت، واتخذت العقوبات وتيرة متصاعدة للضغط على عصب القطاع المالي الروسي، ومنع وصول روسيا إلى الأسواق العالمية، بالإضافة إلى تعليق العمل بخط غاز "نورد ستريم 2" من قبل ألمانيا، وإغلاق المجال الجوي الأوروبي أمام الطائرات الروسية، وإجراءات عقابية أخرى من شأنها أن تؤثر بقوة على الاقتصاد الروسي في المديين المتوسط والبعيد.

وعلى عكس ما أرادته موسكو من وراء غزوها لأوكرانيا، تشهد العلاقات الأطلسية والأوروبية تطوراً كبيراً، بعد سنوات من الخلافات والأجواء المتجهمة، بسبب السياسات التي اتبعها الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، ضد شركاء الولايات المتحدة في الأطلسي تحت شعار "أميركا أولاً".

وألمانيا التي لطالما وُصفت بأنها مترددة، تبدي اليوم استعدادها لتأدية دور أكبر في قيادة الاتحاد الأوروبي لمواجهة ما تعتبره دول الأعضاء تهديداً لأمنها الجماعي واستقرارها جراء سلوك الكرملين، وآخر تجلياته إقدام الجيش الروسي على غزو أوكرانيا.

ما سبق يفسر إلى حد بعيد لماذا جاء إعلان وزارة الدفاع الروسية تلقيها أوامر بتوسيع نطاق عملياتها داخل الأراضي الأوكرانية، متزامناً مع إعلان موسكو عن إرسال وفد إلى مدينة غوميل البيلاروسية للتفاوض مع وفد أوكراني في 28 فبراير، ومواصلة المفاوضات اليوم الخميس، من دون أن يعني ذلك بالضرورة دليلاً على استعداد الكرملين لمراجعة مواقفه.

القوات البرية الروسية ستفقد في حرب المدن ميزة دعم النيران المطلقة

 

فتوقف الحرب في هذه المرحلة سيعد بمثابة هزيمة لمشروعه، ليس في أوكرانيا وحسب، بل المشروع الأوراسي ككل. أما استمرار الحرب ليس مضمون النتائج بدوره، وفي الحالتين، فإذا كانت حقاً أوكرانيا ركيزة أساسية ولا غنى لروسيا عنها في مواجهة الاطلسي وإكمال "الاتحاد الأوراسي"، كمدخل لبناء خريطة جيوسياسية جديدة تستعيد روسيا من خلالها نفوذها وتعززه في فضاء الاتحاد السوفييتي السابق، فإن مفاعيل وتداعيات الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا ستصب في محصلتها النهائية في اتجاه مغاير لأهداف موسكو، سواء استطاعت أوكرانيا الحفاظ على وحدة ترابها أو خسرت جزءاً منه في حوض دونباس تحديداً.

ومن المؤكد أن نتيجة الصراع الأوكراني ستلقي بظلالها لفترة طويلة على علاقات روسيا مع الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وستفرز خريطة جيوسياسية جديدة ينظر فيها إلى روسيا على نطاق واسع في أوروبا والولايات المتحدة وحلفائهما كدولة منبوذة.

وعلى الصعيد الداخلي الروسي، لا يمكن لبوتين أن يتجاهل الانتقادات الموجهة له في الشارع الروسي، وإمكانية أن تؤدي العقوبات التي فرضت على روسيا إلى تدهور الأوضاع المعيشية والاقتصادية، وإلى تململ في أوساط الطبقة الأوليغارشية المحيطة به، والتي شكلت أهم أدوات حكمه على مدار 22 عاماً. وهكذا تبقى الخريطة، سواء الجيوسياسية أو الداخلية الروسية، مفتوحة على كل الاحتمالات، لكن من المؤكد أن المأزق الفعلي لسيد الكرملين القوي يتمثل في سيناريوهات الخروج من الحرب على أوكرانيا وما سترتب عليها.

المساهمون